وأما الفدية، فأوجبناها في الحلق لقول الله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيْضَاً أَو بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ} ولا خلاف أن المراد به فحلق [رأسه](1) ففدية، ولحديث كعب بن عجرة، على ما نثبته من بعد إن شاء الله تعالى. وقلنا :إن اليسير منه يجب فيه الصدقة؛ لأنَّه لا خلاف في قطع الشعرة، والشعرتين، أنَّه لا يجب فيه الفدية، والأصل فيه: ما وجب في جملة منه الدم أنَّه يجب في اليسير منه صدقة. فلذلك قلنا: إن فيه صدقة، وقلنا: إنَّه إذا حلق ما يبين أثره، ففيه الفدية؛ لأنه ينطلق عليه اسم الحلق، ولا خلاف فيمن حلق الأكثر من رأسه أنَّه يلزمه الفدية، فكذلك إذا حلق ما بان أثره، /222/ والمعنى أنَّه حلق بعض رأسه، وأتى ما سُمى حلقاً، وهذا أولى من اعتبار من اعتبر الأكثر من رأسه، أو الربع؛ لأنَّه يؤدي إلى أن الأصلح، الذي يكن صلعه قد صار في أكثر رأسه أو أكثر من ثلاثة أرباعه لو حلق رأسه لم تلزمه الفدية، وهذا أولى ممَّن اعتبر ثلاث شعرات؛ لأن نسبة ثلاث شعرات إلى شعرتين ـ المتفق على أن لا دم فيهما ـ أقوى من نسبته إلى حلق أكثر الرأس المتفق عليه أن فيه دماً.
مسألة [في القبلة، ومس المرأة، والظلال، يأتيها المحرم]
__________
(1) ـ سقط من (ب).(44/33)
قال: ولا يُقبِّل المرأة، ولا يمسها، إلاَّ من ضرورة، ولا بأس أن يستظل بظل العماريات، والمحامل، والمظال، والمنازل، ويجب أن لا يصيب رأسه شيء من ذلك. قال القاسم عليه السلام ويستحب له التكشف إن أمكن. ما ذكرناه في هذا الفصل منصوص عليه في (الأحكام) (1). قلنا: إن المحرم لا يقبل امرأته؛ لأنَّه لا خلاف أنَّه محظور عليه أن يقبلها لشهوة، فإنه إذا قبلها، كان عليه دم، سنذكر ما ورد فيه في موضعه. وقلنا: إلاَّ أن يمسها من ضرورة؛ لأن المسيس لا يُؤْمَن أن تضامه الشهوة، وإذا ضامته الشهوة، كان حكمه حكم القبلة، والضمة. وأما الاستضلال بظلال العماريات، والمحامل، فهو مذهب أكثر العلماء، وروي عن ابن عمر أنَّه كره ذلك، والإمامية يذهبون إلى أنَّه لا يجوز.
والدليل على أنَّه يجوز: ما رواه أبو داود في (السنن) بإسناده عن يحيى بن الحصين، عن أم الحصين قالت: حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حجة الوداع، فرأيت أسامة، وبلال، أحدهما آخذ بخطام ناقة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والآخر رافع ثوبه يستره من الحر، حتَّى رمى جمرة العقبة. وقد أجمعوا أن له أن يستظل بظلال المنازل، فوجب أن يكون ظلال العماريات كذلك، والمعنى أنَّه محرم لم يغط رأسه، فكل استظلال لم يغط المحرم به رأسه، فهو جايز.
ووجه استحباب التكشف أنَّه مستحب للحاج أن يكون أغبر أشعث، والتكشف أقرب إلى ذلك، روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال في أهل عرفة: ((إن الله تعالى يباهي بكم الملائكة، يقول عبادي أتوني شُعْثاً غُبْراً)) وعن عمر: ((إنَّما الحاج الأغبر الأذفر)).
مسألة [فيما لا يجوز للمحرم فعله من لباس وغيره]
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/311، 309 وهو بلفظ مقارب.(44/34)
قال: (ولا تلبس المحرمة ثوباً مصبوغاً بزعفران، ولا ورس، ولا غيره مما كان مشبعاً ظاهر الزينة، ولا تتنقب، ولا تبرقع؛ لأن إحرامها في وجهها، ولا بأس أن ترخي بثوب على وجهها ، ولا تلبس الحلي، وتتجنب سائر ما يتجنبه المحرم، ولا تزاحم الرجال في الطواف والسعي وغيرهما، وليس عليها أن تهرول في السعي والطواف).
وجميعه منصوص عليه في (الأحكام) (1). قلنا: إن المحرمة لا تلبس ثوباً مصبوغاً بورس، أو زعفران؛ لحديث ابن عمر الذي ذكرناه في أول باب الإحرام أنَّه سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى النساء في إحرامهن عن القفازين، والنقاب، وما مس الورس، والزعفران، من الثياب؛ ولأنهما طيب وزينة. وقلنا: لا تنتقب؛ إذ في الحديث النَّهي عن النقاب، ولا خلاف أن إحرامها في وجهها. وروى زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام قال: ((إحرام الرجل في رأسه، وإحرام المرأة في وجهها)).
وروى ابن أبي(2) شيبة، عن حفص بن غياث، عن جعفر، عن أبيه، عن علي عليهم السلام أنَّه قال: ((كان يكره أن تتلثم المرأة المحرمة تلثماً، ولا [باس](3) أن تسدله على وجهها)) فكذلك قلنا: إنه لا بأس به أن ترخي /223/ الثوب على وجهها من حيث لا تمسه، على أن التغطية مما يمس الوجه الَّتِي منعت منها، كما نقول في الرجل أن الممنوع منه أن(4) يغطي رأسه بما يمسه. وأما البرقع، فمنعنا منه؛ لأنه بمنزلة النقاب يمس الوجه، كما يمس النقاب. وقلنا: إنها لا تلبس الحلي، وما كان من الثياب ظاهر الزينة؛ لأنهما خلاف الشعث والغبرة.
وروى ابن أبي(5) شيبة نحوه، عن عطاء.
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/303.
(2) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 3/283.
(3) ـ سقط من (أ) و (ب)، ونبه عليه في هامش (ب) وهو كذلك في مصنف ابن أبي شيبة.
(4) ـ في (أ): مما.
(5) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 3/282.(44/35)
وروى أبو العباس الحسني ـ رحمه الله ـ في (النصوص)، عن زيد بن علي عليه السلام نحو ما ذكرناه في المحرمة. وقلنا: تتجنب سائر ما يتجنبه المحرم؛ لأنَّه لا خلاف فيه؛ ولأن حكم الإحرام في الرجال والنساء سواء إلا فيما ذكرناه. وقلنا: لا تزاحم الرجال في الطواف والسعي؛ لأن الواجب عليهن التحفظ من مماسة الرجال. وقلنا: ليس عليها أن تهرول في السعي في الطواف، لذلك؛ ولأن أصل الهرولة على ما روي كان لإظهار القوة والْجَلَد، وليس ذلك على النساء. وروى ابن أبي شيبة عن وكيع، عن ابن أبي ليلى، عن عطاء، عن ابن عباس، قال: ليس على النساء رمل بالبيت ولا بين الصفا والمروة(1).
مسألة [في استعمال المحرم للطيب أو الرياحين ومسهما ومسهما]
قال: ولا يجوز للمحرم استعمال شيء من الطيب، ولا أن يمسه، ولا يشم شيئاً من الرياحين والفواكه، ولا بأس بمسها. ما ذكرناه في الطيب منصوص عليه في (الأحكام) (2) و(المنتخب)(3)، وما ذكرناه في الرياحين والفواكه منصوص عليه في (المنتخب)(4).
أما الطيب، فلا خلاف في أنَّه لا يجوز للمحرم استعماله في حال إحرامه، وإنَّما الخلاف في التطيب للإحرام، وسيأتي الكلام فيه في موضعه. وقلنا في الرياحين: إنها في حكم الطيب، وإنها لا تحل للمحرم؛ لأن المقصد مع ذكاء رائحتها هو الشم، فكان بمعنى الطيب، على أن كثيراً من الرياحين إذا جَفَّ، كان طيباً، وقد علمنا أن الجفاف لا يغير حكمه، وكذلك يؤخذ من كثير من الرياحين ماءٌ فيكون الماء طيباً، فوجب لما ذكرناه أن يجري مجرى الطيب.
وروى ابن أبي(5) شيبة، عن معاوية، عن حجاج، عن ابن الزبير، عن جابر، قال: ((إذا شم المحرم ريحاناً، أو مس طيباً، أهراق لذلك دماً)).
__________
(1) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في الكتاب المصنف 3/151.
(2) ـ انظر الأحكام 1/276 وهو بلفظ قريب.
(3) ـ انظر المنتخب 97 وهو بلفظ قريب.
(4) ـ انظر المنتخب 101 وهو بالمعنى.
(5) ـ أخرجه ابن ابي شيبة في المصنف 3/322.(44/36)
وروى(1) ـ بإسناده ـ عن ابن عمر أنَّه كان يكره شم الريحان للمحرم.فأما الفاكهة،فلا خلاف أنَّها لا تجري مجرى الطيب؛ لأن المقصد بها ليس التشمم؛ ولا لها ذكاه رائحة الطيب، ولا يصير منها شيء طيباً.
مسألة [في ذبح المحرم للبهائم والطيور الأهلية ولو تحشت، وفي المتوحش فيها إذا استأنس]
قال: ولا بأس للمحرم أن يذبح الشاة، والإبل، والبقر، والطيور الأهلية، وكذلك إن توحش شيء منها، فلا بأس بأخذه، وذبحه، وما كان في الأصل متوحشاً مثل حمار الوحش والظبي، والوعل، والنعامة وما جرى مجراها، فلا يجوز للمحرم أن يتعرض لها، وإن استأنست. وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (2) و(المنتخب) (3). وهو مما لا خلاف فيه؛ لأن الحرمة تعلقت بتوحش الأصل، فما كان منها متوحشاً في الأصل، فاستئناسه لا يزيل حرمته، وما كان منها مستأنساً في الأصل، فاستيحاشه لا يجعل له حرمة، وهكذا(4) حكمها في الصدقات، والجزاء، والأضاحي، وإنَّما يعمل في جميع هذه الأحكام على حالها في الأصل.
مسألة [في غسل المحرم واستياكه، وقتل الجراد، والقراد، والقملة، والبعوضة، وفي المحرم المصدع يعصب جبينه]
__________
(1) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 3/322، وإسناده حدثنا ابن علية عن أيوب عن نافع، به.
(2) ـ انظر الأحكام 1/326 ـ 327 وهو بلفظ قريب.
(3) ـ انظر المنتخب 103 وهو بلفظ قريب.
(4) ـ في (ب): وهذا هو.(44/37)