باب القول في ما يستحب أو يكره للصائم
[مسألة في مضاجعة الصائم أهله، وأنه يحترز من دخول ماء المضمضة والاستنشاق إلى حلقه، ويستحب له القراءة والذكر]
يجب على الصائم أن يتحفظ عند تمضمضه(1) واستنشاقه من دخول الماء ـ في فيه وخياشيمه ـ إلى حلقه، ويجب أن يتيقظ في نهاره من النسيان، لئلا /117/ يصيب ما لا يجوز له إصابته مما يفسد الصيام.
ويستحب له توقي مضاجعة أهله، وكل ما جرى مجراها من القبلة والضمة(2)؛ مخافة أن تغلبه الشهوة.
ويستحب له أن يزيد في القراءة، والتسبيحُ والاستغفار، في البُكَر، والآصال.
وإذا استاك نهاراً، توقى أن يدخل حلقَه شيء مما جمعه السواك من خلاف ريقه، ويكره له السعوط.
وجميع ذلك منصوص عليه في (الأحكام)(3).
قلنا: إنه يتحفظ عند تمضمضه واستنشاقه من دخول الماء إلى حلقه، وأنه يتيقظ في نهاره من النسيان؛ لئلا يصيب ما يفسد الصوم؛ لأنه قد ثبت أن دخول الماء إلى الجوف عند المضمضة والاستنشاق(4) جميعاً في مواضعهما من هذا الكتاب، وإذا ثبت ذلك، استحببنا له التحفظ؛ للاحتياط لأن(5) كل ما يفسد الصوم، يجب أن يحترز منه احتياطاً، كما قلنا: إن صوم يوم الشك يستحب للإحتياط، وكما استحببنا ترك الأكل والشرب مع الشك في الفجر، وقد نبه صلى اللّه عليه وآله وسلم على ذلك بقوله: (( بالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً )) .
وقلنا(6): إنه يستحب له توقي مضاجعة أهله، وكذلك القبلة [والضمة] (7)؛ مخافة أن تغلبه الشهوة، وإن أيقن من نفسه بالثقة والامتناع، فلا بأس بها.
__________
(1) ـ في (أ): مضمضته.
(2) ـ في (أ): أو الضمة.
(3) ـ انظر الأحكام 1/237 ـ 238 وهو بلفظ قريب، وأما كرهة السعوط فنص عليه ص251.
(4) ـ يفسد الصوم، وكذلك الأكل والشرب ناسياً يفسد الصوم وسيأتي الكلام في المسألتين.
(5) ـ في (أ): أن.
(6) ـ في (أ): قلنا.
(7) ـ سقط من (أ) و (ب).(36/1)


وقد روي أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم كان يُقَبِّل، وهو صائم، وكان أملككم لإربه.
وروى أبو داود في (السنن) يرفعه إلى أبي هريرة أن رجلاً سأل النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم عن المباشرة للصائم، فرخص له، وأتاه آخر، فسأله، فنهاه(1)، فالذي رخص له شيخ، والذي نهاه شاب، فحقق ذلك ما ذكرنا.
وقلنا: إنه يستحب له أن يزيد من القراءة، والذكر، والاستغفار؛ لأن العبادة في شهر رمضان أفضل، ولذلك روي أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم كان يعتكف العشر الأواخر، ولذلك زِيد في قيام الليل، وما ذكرناه عادة صالحي المسلمين، توارثها الخلف عن السلف.
وقلنا: إنه يتحرز عند السواك؛ لئلا يدخل حلقه شيء من غير ريقه؛ لأنه يؤدي إلى إفساد الصوم، وكان القياس أن يكون الريق ـ أيضاً ـ يفطر؛ لأن حكم الفم حكم الخارج، بدلالة أن وصول المطعوم والمشروب إليه لا يفسد الصوم، لكنه سومح فيه، لتعذر الاحتراز منه، فما عدا الريق مما يصل إلى الفم من خارجه مفسد.
وكرهنا السعوط؛ لأنه ربما يصير إلى الحلق، ويجري إلى الجوف، وما وصل إلى الحلق، وجرى إلى الجوف، أفسد الصوم، فيجب على هذا أن يكون سبيل السعوط سبيل المبالغة في الاستنشاق الذي نهى عنه النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم.
مسألة: [في المسافر يقدم على أهله، والحائض تطهر أثناء النهار]
قال: ويستحب للمسافر إذا قدم على(2) أهله، وكذلك الحائض إذا طهرت، وقد أكلا في بعض النهار، أن يمسكا باقي يومهما.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (3).
وقال في (المنتخب) (4): من أكل ناسياً، أو جامع ناسياً، ثم أكل باقي يومه متعمداً، لسنا نرى إلا القضاء، والتوبة، والناسي لا توبة عليه، فإذاً وجوب التوبة لأكله باقي يومه متعمداً.
__________
(1) ـ في (أ): ونهاه.
(2) ـ في (أ): إلى.
(3) ـ انظر الأحكام 1/255 وهو بلفظ قريب.
(4) ـ انظر المنتخب 91.(36/2)


وفي (الأحكام) (1) عن القاسم عليه السلام: من تسحر، ثم بان له أنه صادف الفجر، يتم صومه، /118/ ويقضي.
وقال القاسم عليه السلام في (مسائل النيروسي): من نظر، فأمنى، قضى يوماً، ولم يفطر يومه.
فكان تحصيل المذهب: أن من أبيح له الإفطار، فأفطر، ثم زال المعنى الذي لأجله أبيح الإفطار، فالإمساك مستحب له باقي يومه، ولا يجب، ومن أفسد صومه عمداً، أو سهواً، مع وجوبه عليه، فإمساك باقي يومه واجب عليه.
قلنا: إنه إذا أبيح له الإفطار، فأفطر، لم يجب عليه الإمساك؛ لأن الإمساك لو وجب، لوجب لوجوب الصوم عليه، وقد علمنا أن وجوب الصوم لا يتبعض، فإذا لم يجب عليه في أول النهار، لم يجب عليه في آخره، وكذلك الحائض إن طهرت، وكمن رأى هلال رمضان نهاراً، إنه لما لم يجب عليه الصوم قبلها، لم يجب عليه الإمساك بعدها؛ بعلة أن الصوم لم يجب عليه في أول النهار، فإن قاسوه على من أكل على أنه من شعبان، ثم بان له أنه من رمضان؛ بعلة أنه صار إلى حالةٍ لو كان عليها في الابتداء، لم يحل له الإفطار، كان ذلك منتقضاً بالحائض تطهر في آخر النهار، ثم قياسنا أولى؛ إذ قد ثبت أن الصوم لايتبعض وجوبه في شيء من المواضع، وما ذكروه وجب من حيث وجب اليوم كله.
فإن قيل: قد أمر صلى اللّه عليه وآله وسلم يوم عاشوراء من أكل بالإمساك بقية يومه.
قيل له: عن هذا جوابان:
أحدهما: أن الصوم كان لزمهم من أوله، فلما أفسدوا أوله، لزمهم الإمساك في باقيه.
والجواب الثاني: أنهم ابتدأوا به من ذلك الوقت، فكان الإمساك مستحباً.
والجواب الأول هو الأوضح.
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/248 وهو بلفظ قريب.(36/3)


ووجه استحبابه ما ذكروه ـ هم ـ في باب الوجوب، وليس يمتنع في الاستحباب أن يتبعض حكم اليوم، ألا ترى أنه يستحب الإمساك يوم الأضحى إلى أن يصلي الإمام؟ فأما إذا كان إفساد الصوم في أول النهار مع وجوبه، فالإمساك واجب بقية اليوم؛ لأن كل جزء محرَّم عليه ترك الإمساك فيه، إذا ترك في بعضه عمداً، أو سهواً، أو ماجرى مجراه، وكان وجوب الإمساك لباقي الأجزاء على ما كان عليه، قياساً عليه لو لم يكن أفسد أوله؛ لأن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أمر الآكلين يوم عاشوراء بالإمساك بقية يومهم.
وروى ابن أبي شيبة أن(1) النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال لرجل وقع على امرأته في شهر رمضان: (( إن فجر ظهرك، فلا يفجر بطنك ))، فنهاه عن الأكل مع إفساد الصوم، فصح ما قلناه(2).
مسألة: [في التحرز من دخول الغبار والذباب والدخان إلى الحلق، وفي السواك الرطب، وبل الثوب والمضمضة من العطش وفي الوصال]
قال: ويستحب للصائم أن يتحرز من دخول الغبار والذباب والدخان حلقه.
قال القاسم عليه السلام: ولا بأس بالسواك الرطب للصائم.
قال: ولا بأس أن يبل ثوبه، أو يرش الماء على نفسه، أو يتمضمض من العطش ما لم يدخل شيء(3) من الماء جوفه، ويكره للرجل أن يواصل بين يومين في الصيام.
ما ذكرنا من الاحتراز من الغبار والذباب والدخان منصوص عليه في (الأحكام) (4).
وما ذكرناه عن القاسم عليه السلام منصوص عليه في (مسائل النيروسي).
وكراهة الوصال منصوص عليها في (الأحكام)(5)، وجه ما قلناه من استحباب الاحتراز من الغبار، ونحوه، أنهما ربما اجتمعا، فصارا بحيث يمكنه إخراجهما من فيه، فيصل مع ذلك إلى جوفه، فيفسد صومه.
فإن قيل: ألستم تقولون أن الغبار لا يفطر؟
__________
(1) ـ في (أ): عن.
(2) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في الكتاب المصنف 20/ 310.
(3) ـ في (أ): يُدخِل شيئاً.
(4) ـ انظر الأحكام 1/253 ونص على الإمضاء فيه.
(5) ـ انظر الأحكام 1/267 وهو بلفظ قريب.(36/4)


قيل له: نقول ذلك إذا كان يسيراً لا يمكن الاحتراز منه، فأما(1) إذا كثر حتى يصير مقداراً يمكن الاحتراز منه، فإنه يفسد الصوم؛ لأنه وسائر الطين على سواء.
وأما السواك، وبل الثوب، والمضمضة، فقلنا في /119/ جميعه: [أنه](2) لا بأس به؛ لأن شيئاً من ذلك لا يصل به شيء إلى الحلق، ويجب عليه في جميع ذلك أن يحترز من وصول شيء إلى الجوف.
وروى أبو داود في (السنن) يرفعه إلى أبي بكر قال: رأيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بالعرج يصب الماء على رأسه ـ وهو صائم ـ من العطش، أو من الحر.
وروى ابن أبي شيبة يرفعه إلى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم، أنه استاك وهو صائم(3).
وكرهنا الوصال، للنهي الوارد فيه عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم حيث يقول: (( لا وصال في صيام)). عن علي عليه لسلام مثله.
وروى ابن أبي شيبة ـ بإسناده ـ إلى(4) النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم [أنه](5) نهى عن الوصال، قال: فقالوا: يارسول اللّه، إنك تواصل.
فقال: (( إني لست مثلكم، إني أبيت يطعمني ربي، ويسقيني، فإن أبيتم، فمن السحر إلى السحر))، ولأنه إدخال الضرر على النفس، وذلك مما لا يحسن، متى لم يؤمر به.
__________
(1) ـ في (أ): وأما.
(2) ـ زيادة في (أ).
(3) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 2/294.
(4) ـ في (أ): عن.
(5) ـ سقط من (أ).(36/5)

5 / 142
ع
En
A+
A-