قال: (ولا يجوز أن يقطع الشجر الأخضر، إلاَّ أن يكون شيئاً يأكله، أو يعلفه راحلته). وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (1)، وقال في (المنتخب) (2): لا بأس للمحرم أن يحش حشيشاً لناقته، أو يختلى لها بقلاً، أو يقطع لنفسه مسواكاً من الأراك، وغيره. فدلت هذه الجملة على أن ما ذكره في (الأحكام) أراد به شجر الحرم دون ما يكون في سائر المواضع. وقال القاسم عليه السلام في (مسائل النيروسي): ويحش المحرم لدابته إلاَّ في الحرم. فأكد ما ذكرناه وهو الأولى؛ لأن المحرم ممنوع من استهلاك ما يثبت له حرمة، دون ما لم يثبت له حرمة، والأشجار لا حرمة لها إلاَّ ما نبت في الحرم، وفيها ورد المشهور من قوله /220/ صلى الله عليه وآله وسلم: ((هي حرام إلى يوم القيامة، لا يُعضَد شجرها، ولا يُنَفَّر صيدها، ولا تَحِل لُقَطَتُها))، وفي بعض الأخبار ((لا يختلى خلاؤها)) فقال العباس: يا رسول الله، الأذخر، فإنه لقبورنا وبيوتنا. فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((إلا الأذخر فقط)). وقول يحيى بن الحسين عليهم السلام: إلاَّ أن يكون شيئاً يأكله، أو يعلفه راحلته، يحتمل أن يكون المراد به ما يزرعه الناس لذلك ويحتمل أن يكون المراد أن ذلك القدر عفو قياساً على الأذخر؛ لمساس الحاجة إليه، على أن القاسم عليه السلام قال في (مسائل النيروسي): يحتش المحرم لدابته إلاَّ في الحرم، وأقوى الوجهين اللَّذَين ذكرناهما أن يكون المراد به ما يزرعه الناس.
مسألة [في المحرم إذا اضطر، يأكل من الصيد أم من الميتة؟]
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/299.
(2) ـ انظر المنتخب 101 وهو بلفظ قريب.(44/28)
قال: ولو أن محرماً اضطر إلى أكل صيد ذبحه محرم، أو إلى ميتة، أكل من الميتة دون الصيد، وإن اضطر حلال إليهما، لكان فيهما بالخيار. وهذا منصوص عليه في (الأحكام)(1). ونص في (المنتخب) (2) على أن المحرم المضطر يأكل من الميتة دون الصيد. ونص(3) فيهما جميعاً على أن ما ذبحه المحرم من الصيد ميتة، لا يحل أكلها للذابح، ولا غيره، وأن ذبحه ليس بذكاه. ونص فيهما ـ أيضاً ـ على أن الحلال إذا ذبح صيداً في الحرم، لم يحل له أكله، ولم يكن ذبحه ذكاه. وهو مذهب أبي حنيفة، وأحد قولي الشافعي في المحرم، فأما الحلال إذا ذبحه في الحرم فهو عنده جائزٌ.
والدليل على أن ذبح المحرم لا يكون ذكاةً قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} والنَّهي يدل على فساد المنهي عنه، وعلى أنَّه لا يقع موقع الصحيح، فاقتضى ظاهر الآية أن قتل المحرم للصيد لا يقع موقع الصحيح، فوجب أن يكون غير مذكىً.
ويُستَدل من الآية من وجه آخر، وهو أن القتل في الشرع، والعرف، عبارة عما لا يكون ذكاةً، وقد ثبت أن المراد بالآية الذبح وغيره من أنواع القتل، فوجب أن لا يكون شيء منه ذكاة، ولا خلاف أن المحرم ممنوع من ذبح الصيد، فوجب أن لا يكون ذبحه له ذكاة؛ قياساً على ذبح المجوس، والمعنى أنَّه ممنوع من ذبحه منعاً يختصه على الإطلاق، لا لنحو الآدمي، فوجب ألا يكون ذبحه ذكاة، ويمكن أن يقاس بهذه العلة على ذبح المسلم حماراً، أو بغلاً، أو على الذبح بالسن والظفر واعتمد يحيى عليه السلام هذه العلة، وقاس ذبح المحرم بها على من قتل البهيمة بغير الذبح.
__________
(1) ـ انظر الأحكام إلى 300 ـ 301، ولكنه أجازه إن خافه على نفسه من أكل الميتة وأوجب عليه الفدية.
(2) ـ انظر المنتخب 103 ولكنه ذكر أيضاً مثل ما في الأحكام.
(3) ـ انظر الأحكام 1/300 والمنتخب 100 ـ 101 وهو بلفظ قريب.(44/29)
فإن استدلوا بظواهر قوله تعالى: {إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ} وقوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ} وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((كل إذا نهر(1) الدم)) كانت مخصوصة بقوله تعالى: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} ومبنية عليه؛ لأنَّه أخص، ويستفاد منه الحكم المختلَف فيه على سبيل التعيين، ونخصها أيضاً بالقياسات الَّتِي ذكرناها، وليس يمكنهم أن يناقضوا علتنا بالهدي، أنَّه ممنوع من ذبحه قبل يوم النحر، ولو ذبحه جاز أكله؛ لأنَّه غير ممنوع من ذبحه على الإطلاق، ألا ترى أنَّه إن خاف تلفه، جاز له ذبحه؟ وليس كذلك الصيد، وليس يلزم عليه ـ أيضاً ـ ذَبْحُ من صادف وقت الصلاة عليه مضيقاً في أنَّه ممنوع منه، ولو فعل، جاز أكل المذبوح؛ لأن المنع لا يختص الذبح، بل هو ممنوع من سائر التصرف الذي ينافي الصلاة.
__________
(1) ـ في (ب): كل ما أنهر الدم.(44/30)
وكذلك /221/ الجواب إن(1) ألزمنا عليه القطع بالسكين المغصوب؛ لأن المنع لا يختص الذبح، بل هو ممنوع من سائر التصرف في السكين، على أن المانع فيه حق الآدمي، فلا تلزم على علتنا، وقياساتنا تقوى وتَرجُح على قياسهم المحرم على من ليس بمحرم من المسلمين بعلة أنه ذَبْح ما يحل أكل لحمه، وقياسهم الصيد على الشاة بعلة أنَّه ذبيحة مسلم، أو بالعلة الأولى؛ لأن قياساتنا تتضمن الحظر، والاحتياط؛ ولأنا وجدنا كل ذبح منهي عنه إذا لم يراع فيه حق الآدمي وتغير الأزمنة، فإنه لا يكون ذكاة، فصارت الأصول شاهدة لما ذكرناه في ذبيحة المحرم، فإذا ثبت ما ذكرناه، قلنا: إن المحرم إذا(2) اضطر إلى الميتة، أو الصيد الذي ذبحه المحرم، أكل من الميتة دون الصيد؛ لأن الصيد حصل فيه وجهان من التحريم عليه: أحدهما أنَّه ميتة. الثاني أنَّه صيد، والصيد مُحرَّم عليه، فقد ساوى الميتة، وصارت له مزية في باب التحريم عليه. وقلنا أن الحلال إذا اضطر إليهما، فهو فيهما بالخيار؛ لأن تلك المزية في باب التحريم لم يحصل عليه فهو وسائر الميتة عليه سواء.
فصل [الاستدلال على عدم شرعية ذبيحة الحلال للصيد في الحرم]
فأما ذبح الحلال الصيد في الحرم، فالذي يدل على أنَّه لا يكون ذكاة أنَّه منهي عنه بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((ولا يُنَفر صيدها)) والنَّهي عن تنفيره يقتضي النَّهي عما فوقه من الذبح، وهذا كما نقول: إن قوله تعالى: {وَلا تَقُلْ لَّهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا} يقتضي النَّهي عن شتمهما، وضربهما، فإذا ثبت أنَّه منهي عنه، ثبت أنَّه لا يقع موقع الصحيح، وأنه لا يكون ذكاه، ولا خلاف أنَّه لو اصطاده في الحرم، لم يحل له ذبحه فيه، فكذلك إذا ملكه في الحل، ثُمَّ أدخله الحرم، والمعنى أنَّه صيد في الحرم، فوجب ألا يحل ذبحه.
__________
(1) ـ في (أ): أن ألزمها عليه بالسكين المغصوب.
(2) ـ في (ب): إن.(44/31)
فإذا ثبت بما ذكرناه من أنَّه ممنوع من ذبحه، استمر فيه سائر ما ذكرناه في تحريم ذبيحة المحرم.
وروي ابن أبي(1) شيبة ـ بإسناده ـ عن عطاء أنَّه سُئل عن الصيد يوجد في الحل، فيُذبح في الحرم، فقال: كان الحسين بن علي عليهما السلام، وعائشة، وابن عمر، يكرهونه.
مسألة [في الحجامة للمحرم]
قال: ولا بأس للمحرم بالحجامة، فإن حلق شيئاً من الشعر، أو قطعه، وكان سيراً، ففيه صدقه، وإن بان أثره، ففيه الفدية. وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (2).
قلنا: إنَّه يحتجم للحديث الذي اعتمده يحيى بن الحسين عليهم السلام وهو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم احتجم وهو محرم، بلحي جمل. وروى ابن أبي(3) شيبة ـ بإسناده ـ عن طاووس، عن ابن عباس، وعن أبي الزبير، عن جابر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم احتجم وهو محرم.
وفي حديث زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام، قال: يحتجم المحرم إن شاء.
__________
(1) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 3/348 وإسناده حدثنا وكيع عن ابن أبي ليلى، وقال فيه: كان الحسن بن علي.
(2) ـ انظر الأحكام 1/311 وهو بلفظ قريب.
(3) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 30/ 320 عن عطاء، عن طاووس، عن ابن عباس، ولم يذكر عن أبي الزبير، عن جابر.(44/32)