فإن قيل: حلق الشعر، وجب فيه ما وجب؛ لأنَّه قضاء التفث، وإماطة الأذى.
قيل له: هذا المعنى قد يحصل في الجلد، على أن من /218/ الشعر ما إذا حلقه لم يكن فيه مميطاً للأذى، ومع هذا يلزمه الفداء، فبان أن الحكم قد نطق بحرمته، وإن تعلق بإماطة الأذى، فصح ما ذهبنا إليه. وأما قلع الضرس، فقد روى ابن أبي شيبة، عن الشعبي فيه مثل قولنا(1).
ووجهه ما ذكرنا في قطع الجلد من ثبوت الحرمة له، وتنبه أيضاً بتقليم الظفر للوجه الذي ذكرناه.
وروى زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليه السلام، قال: ((لا ينزع المحرم ضرسه، ولا ظفره، إلاَّ أن يؤذياه))، فدل ذلك على أن له حرمة، وأنه كالظفر والشعر.
مسألة [[في لبس المحرم الخفين والسراويل والقمصان إذا لم يحد غيرها]
(وإن أضر برجليه الحفا، ولم يجد نعلين، فلا بأس أن يقطع الخف من تحت الكعبين، ويلبس، ولا بأس له إذا لم يجد مئزراً أن يحرم في السراويل، يحترم به احتراماً، وإن لم يجد رداءً، ارتدى بكمي القميص، أو بجانبيه معترضاً).
__________
(1) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 3/133.(44/23)
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (1). وعن القاسم عليه السلام في (مسائل النيروسي) في المحرم إذا لم يجد رداءً ولا نعلين، قال: يقطع الخف أسفل من الكعبين، وينكس السراويل، ويئتز به ائتزاراً. أما ما ذكرناه من قطع الخف لمن لم يجد النعلين، فوجهه ما روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر بذلك، وقد ذكرنا ما ورد فيه في أول مسألة الإحرام. وقلنا: إنَّه يحترم بالسراويل إن لم يجد إزاراً يكسيه، على ما روي عن القاسم عليه السلام؛ لأنَّه نهى عن لبس السراويل، وما وردمنه فيه فقد مضى، ولا خلاف فيه مع الإمكان، وكذلك وجه قولنا: إنَّه إن لم يجد رداءً ارتدى بكمي قميصه، أو بجانبيه معترضاً، ولم يلبسه للنهي الوارد في ذلك؛ ولأنه لا خلاف فيه، وأما السراويل فإن لم يمكنه أن يئتزر به لضيقه، فإن عليه أن يفتقه، كما روي ذلك في شق القميص إذا لبسه المحرم، وقطع الخف لمن لم يجد النعلين، فإن علم أن مع الفتق لا يمكنه ذلك لضيق السراويل، فتحصيل المذهب أنَّه يلبس، ويفدي، كما ذهب إليه أبو حنيفة، خلافاً للشافعي؛ لأن أصحابنا لما ذكروا عوز الإزار، قالوا: يلبس السراويل محترماً، ومئتزراً ؛ ولأن يحيى عليه السلام لما ذكر في (الأحكام) لبس السراويل أوجب فيه الفدية، ولم يستثن لابسه لعدم الإزار. والأصل فيه: ما أخبرنا به أبو الحسين بن إسماعيل، حدثنا محمد بن الحسين، حدثنا محمد بن شجاع، حدثنا يحيى بن آدم، عن ابن عيينة، يذكر عن الزهري، عن سالم، عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سئل عما يلبس المحرم قال: ((لا يلبس القميص، ولا العمامة، ولا البُرنُس، ولا السراويل، ولا الخفين)). فلما نهى عن لبس السراويل كما نهى عن لبس الخفين، وأمر بقطع الخفين عند الضرورة، وجب أن يفتق السراويل عند الضرورة، قياساً عليه؛ لأنَّه لباسٌ منهي عنه لما هو به، فوجب أن يُرد إلى الصفة الَّتِي يزول النَّهي معها، فإذا ثبت وجوب الفتق،
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/297.(44/24)
ثبت وجوب الفداء إذا لم يمكن الفتو؛ إذ لا أحد فصل بينهما.
فإن قيل: فقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إباحة لبس السراويل لمن لم يجد الإزار من غير ذكر الفدية، فبان أن الفدية لا تجب إذا لبسه عند الضرورة.
قيل له: قد روى مثل ذلك في الخفين، ولم يمنع ذلك من وجوب الفدية، أو القطع إن لبسها للضرورة، فوجب أن يكون حكم السراويل كذلك.
أخبرنا أبو الحسين بن إسماعيل، حدثنا محمد بن الحسين، حدثنا محمد بن شجاع حدثني محمد بن بكر، حدثني ابن /219/ جريج، حدثني عمرو بن دينار، أن أبا الشعثاء حدثه، حدثني ابن عباس أنَّه سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول وهو يخطب: ((من لم يجد إزاراً، ووجد سراويل، فليلبسه، ومن لم يجد نعلين، ووجد خفين، فليلبسهما)).(44/25)
وأخبرنا أبو الحسين بن إسماعيل، حدثنا ابن اليمان، حدثنا ابن شجاع، حدثنا أبو نعيم، حدثنا زهير، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((من لم يجد إزاراً، فليلبس سراويل، ومن لم يجد نعلين، فليلبس خفين)). ألا ترى أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم قال ذلك في السراويل على نحو ما قال في الخفين، فلم يجب سقوط حكم الفدية للفتق عن عادم الإزار، كما لم يجب سقوط حكم الفدية في القطع عن عادم النعلين، فلا خلاف أن لبس القميص للعذر، يوجب الفدية، والعلة أنَّه استعمال منهيٌ عنه لغير عذر، فوجب أن يبيحه لعذر مع إيجاب الفدية، فإن قاسوه على لبس المرأة بمعنى أنَّه ستر العورة، جعلنا علتهم شاهداً لنا، بأن نقول، لَمَّا لم يمنع المرأة من لبس القميص مع حال الرفاهية، فلم يجب الفدية فيه، فبان أن الفدية تعلقت بكون لبسه محظوراً في حال الرفاهية، وجب أن يستوي في لبس الرجل السراويل حال العذر، وحال الرفاهية ولا يمكنهم أن يقيسوه على من لبس ساعة؛ لأن الفدية عندنا تتعلق بنفس اللبس دون مضي اليوم وتشهد لنا الأصول لئن كل ما منع منه الإحرام لأمر يخصه ولا يتعلق بحرمة الغير(1) إذا أبيح له العذر، لزمته الكفارة، والفدية، كقص الشعر، وتقليم الظفر، ولبس المخيط، ولا يلزم عليه قتل الصيد إذا صال؛ لأن المنع من قتله يتعلق بحرمته، فإذا صال، زالت حرمته. وأيضاً وجدنا الأصل فيما يجب من جميع المناسك أنَّه إذا تُرك منه شيء لعذر، وجب أن يجبر، فكذلك لبس السراويل؛ لأن ترك لبسه من النسك، أو جارٍ مجرى النسك، وقياسنا فيه زيادة شرع، وإيجاب، وفيه الاحتياط، فهو أولى.
مسألة [في فيمن أخذ صيداً، ما يجب عليه]
__________
(1) ـ في (ب): العين.(44/26)
قال: (ولا يجوز أن يأخذ صيداً(1) فإذا، أخذه وجب عليه إرساله، ويتصدق بشيء من الطعام بقدر إفزاعه). هذا منصوص عليه في (الأحكام)(2) و(المنتخب) (3). أما أخذ الصيد للمحرم، فلا خلاف في أنَّه لا يجوز، وقد استقصينا ما تعلق بهذه المسألة، وأوضحناه بما لا غرض في إعادته، وقلنا: يتصدق بشيء من الطعام بقدر إفزاعه؛ لأنَّه منهي عن الإضرار بالصيد، فإذا أضر به في الإفزاع، تصدق بقدره، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا يُنَفَّرُ صيدها)) وليست حرمة الإحرام دون حرمة الحرم.
وروى هناد بإسناده، عن عطاء، وابن أبي ليلى، مثل قولنا في إفزاع الصيد.
مسألة [في قطع المحرم الشجر الأخضر في الحرم]
__________
(1) ـ في (ب): فإن.
(2) ـ انظر الأحكام 1/299، 327.
(3) ـ انظر المنتخب 100 ـ 101وهو فيه بلفظ قريب.(44/27)