والإحرام مقيس على عدة المتوفى عنها زوجها، والمعنى أنَّه عبادة يجب معها ترك الطيب، والزينة، فوجب أن لا يصح معها عقد النكاح، كعدة المتوفى عنها زوجها، وهذا القياس لا ينتقض بعدة المختلعة؛ لأنها عندنا لا يلزمها ترك الزينة، وأيضاً عقد النكاح سبب يختص بتعديه الحرمة إلى غير من خصه، فوجب أن يمنع منه الإحرام قياساً على الوطء، وليس يعترض ما ذكرناه من الرضاع؛ لأنَّه يوجب الحرمة لمن يخصه، وإن كان يعد بها إلى غيره. وأيضاً وجدنا المحرم ممنوعاً من الاستمتاع بالمرأة من كل وجه، فوجب أن لا يصح له عقد النكاح عليها، قياساً على ذي الرحم المحرم، وما يذكره المخالف من القياس في هذا الباب يشهد لقياسنا، ألا ترى أنهم إن قاسوا الإحرام على الحيض، والنفاس، لما لم يكونا مما يصح أن يقال فيهما أنهما عبادة، ولما كان الاعتكاف عبادة، لا يلزم معها ترك الطيب والزينة، لم يمنع من عقد النكاح. وكذلك إن قاسوا النكاح على شراء الأمة، كان ذلك شاهداً لقياسنا النكاح على الوطء، ألا ترى أنَّه لما لم يُعَدّ الحرمة، لم يمنع منه الإحرام، ولا نختلف في المحرم، إذا طلق زوجته طلاقاً بائناً أنَّه لا يجوز له العقد على /211/ أختها، فكذلك الأجنبية، والمعنى أنَّه محرم، فوجب أن لا يصح عقد نكاحها، ولا يمكنهم دفع هذا القياس بعدم التأثير؛ إذ هو مؤثر على أصولنا: يؤكد ذلك، ويوضحه، أنا وجدنا المحرم ممنوعاً من القبلة، والضمة، والمباشرة، لَمَّا كانت أسباباً تختص بأن تدعو إلى الجماع، فوجب أن يكون ممنوعاً من عقد النكاح؛ لأنَّه سبب يختص بالدعاء إلى الجماع، ولا يمكنهم أن يدعوا ذلك في شراء الجواري؛ لأن الشراء للجواري(1) لا يختص بأن يكون سبباً داعياً إلى الجماع، ألا ترى أن الإنسان يجوز أن يشتري ذوات المحارم الَّتِي لا يطأهن، وقد يشتريهن للتجارة، والخدمة، ولا يريد وطئهن، وليس كذلك عقد النكاح؛ لأنَّه يختص بأن يكون
__________
(1) ـ في (ب): شراء الجواري.(44/8)


سبباً داعياً إلى الجماع، كما ذكرناه في القبلة، والضمة، من الشهوة. وأيضاً وجدنا الجماع أغلظ في باب الحج من سائر مَا منع منه الإحرام، كحلق الرأس، ولبس الثياب، واستعمال الطيب، وقتل الصيد؛ لأن شيئاً من ذلك لا يفسد الحج إذا أتى به المحرم، والجماع يفسده، وكذلك هو ممنوع منه ما بقي للإحرام حكم، وإن أبيح له سائر هذه الأشياء، ألا ترى أنَّه إن رمى جمرة العقبة، فإن جميع هذه الأشياء تحل له قبل طواف النساء، فلما حصل للجماع هذا التغليظ، وجب أن يجعل لسببه المختص به ضرب من التغليظ، وليس هو إلاَّ المنع منه.
مسألة [في أكل المحرم للصيد]
قال: ولا يأكل صيداً صيد له، ولا لغيره، مُحِلٌ اصطاده، أو محرم. وهذا منصوص عليه في (الأحكام)(1) و(المنتخب)، وهو قول القاسم عليه السلام. ويجوز ذلك عند أبي حنيفة إذا لم يكن المحرم اصطاده، و لا دل عليه، ولا أشار إليه. وعند الشافعي إذا لم يصطاد، ولم يُصطَد له.
والأصل في ذلك قول الله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلِيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} وهذا نص في أن تحريمه كتحريم الميتة ولحم الخنزير وكتحريم الأخوات والأمهات، ويدل على ذلك قول الله تعالى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيْمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلِيْكُمْ}.
وأخبرنا أبو الحسين عبد الله بن سعيد البروجردي، حدثنا سفيان بن هارون القاضي، حدثنا أحمد بن يحيى الجلال، حدثنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن عبيدالله(2) بن أبي عياش، عن الصعب بن جثامة، قال: مر بي رسول(3) الله صلى الله عليه وآله وسلم بالأبواء، أو بِوَدَّان فأهديت له لحم حمار وحش، فرده علي، فلما رأى في وجهي الكراهة قال: إنه ليس بنا ردّ عليك ولكنا حُرُم.
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/276 ونص على الققرة الأخيرة فيه 1/299.
(2) ـ في مصنف ابن أبي شيبة، عن عبيد الله، عن ابن عباس، عن الصعب، انظر 3/307.
(3) ـ في (أ): النبي.(44/9)


وروى ابن أبي شيبة، حدثنا معاوية، عن الأعمش، عن حبيب(1)، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: أهدى الصعب بن جثامة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من حمار وحش، فقال: لولا أنا محرمون لقبلنا منك. ففيما رويناه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رده؛ لكونه محرماً فقط، من غير استعلام وجه اصطياد الصعب بن جثامة، فدل ذلك على أن التحريم تعلق بالإحرام فقط على أن رده صلى الله عليه وآله وسلم لا يجوز أن يكون لكونه مشيراً إليه، أو دالاً عليه، أو آمراً به لأنَّه صلى الله عليه وآله وسلم لا يفعل ذلك، وقول الصعب: أهديت له، يدل على أنَّه لم ين اصطاده له؛ إذ لو كان اصطاده له، لقال: كنت اصطدت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كذا، /212/ فحملته ولم يقل ذلك، فدل على أن الرد لم يكن إلاَّ لكونه محرماً فقط على ما قاله صلى الله عليه وآله وسلم، وتحقيق ذلك: ما أخبرنا به أبو العباس الحسني، أخبرنا أبو بكر محمد بن علي بن الحسين الصواف، أخبرنا عمار بن رجاء، أخبرنا هدبة، عن همام بن يحيى، عن علي بن زيد بن جدعان، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل، أن أباه ولى طعام عثمان، قال: فكأني أنظر إلى الحِجَل حول الحفان، فجاءه رجل فقال: إن علي عليه السلام يكره هذا، فأرسل إلى علي عليه السلام، فجاءه وذراعاه ملطخان بالخبط، فقال: إنك رجل كثير الخلاف علينا، فقال علي عليه السلام: أُذَكِّرُ الله رجلاً شهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد أُتى بعجز حمار وحش فقال: ((إنا محرمون، فأطعموه أهل الحل)) فقام عدة رجال، فشهدوا، ثُمَّ قال: أُشْهِدُ الله رجلاً شهد النبي صلى الله عليه
__________
(1) ـ في (أ) و (ب): حلب، وفي الهامش: الأعمش يروي عن سعيد بلا واسطة، فينظر في توسط حلب هنا، ولم نجد في أسماء الرجال من يسمى الاسم. وما أثبتناه نبه عليه في الهامش، وهو كذلك في المصنف لابن أبي شيبة انظره 3/308 حيث أخرجه فيه.(44/10)


وآله وسلم أتي بخمس بيضات من بيض النعام، فقال: ((إنا محرمون، فأطعموها أهل الحل)). يدل على أن التحريم تعلق بالإحرام دون وجه الاصطياد، ولأن الأمر لو كان على ما ذهبوا إليه، لقال صلى الله عليه وآله وسلم: أطعموه من لم يأمر بصيده، ولم يدل عليه، ولم يُصطَد له.
فإن قيل: روي عن أبي الزبير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ((صيد البر حلال لكم، وأنتم محرمون، ما لم تصطادوا، أو يصد لكم)).
قيل له: يحتمل أن يكون المراد صيد البر، وأنتم حرم، حلال لكم إذا حللتم، ما لم تصطادوه، أو يصاد لكم، فيكون الغرض بياناً أن وقوع الإصطياد في حال إحرامهم لا يستديم التحريم عليهم بعد إحلالهم إذا لم يكونوا اصطادوه، وذبحوه، أو صِيدَ لهم في حال إحرامهم.
فإن قيل: فقد روي عن عبد الله بن أبي قتادة، قال: كان أبو قتادة في نفر محرمين، وأبو قتادة مُحل، فرأى أصحابه حمار وحشُ فلم يره كلهم حتَّى أبصره، فاختلس من بعضهم سوطاً، فصرعه، فأكلوا منه، فلقوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فسألوه عنه فقال: ((هل أشار أحدكم إليه؟ قالوا: لا. قال: ((فكلوا)).
قيل له: يحتمل أن يكون صلى الله عليه آله وسلم أباح لهم ذلك لكونهم مضطرين، وليس يمكن ادعاء العموم فيه؛ لأنَّه قضية في قوم بأعيانهم، وحالة بعينها.
فإن قيل: فما معنى قوله: هل أشار إليه أحدٌ منكم(1)؟
قيل له: يجوز أن يكون صلى الله عليه وآله وسلم أراد أن يعلمهم ما يلزمهم من الجزاء بالإشارة، أو الدلالة لو كانوا فعلوها.
__________
(1) ـ في (ب): أحدكم.(44/11)


وقد أخبرنا أيضاً أبو الحسين ابن إسماعيل، حدثنا الناصر عليه السلام، حدثنا الحسن بن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي، حدثنا إبراهيم بن محمد، عن محمد بن فضيل، عن زيد بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحارث، عن أبيه، قال: خرجت مع علي عليه السلام، وعثمان حتَّى إذا كنا بمكان كذا وكذا، قُرِّبت المائدة وعليها يُعاقَب، وحِجَل، فلما رأى علي عليه السلام ذلك قام، وقام معه أناس، فقيل لعثمان ما قام هذا إلاَّ كراهة لطعامك، فأرسل إليه، فقال: ما كرهَت من هذا، فوالله ما أشرنا، ولا أمرنا، ولا صدنا. فقال علي عليه السلام: أُحِل لكم /213/ صيد البحر إلى قوله: وحُرِّم عليكم صيد البر ما دمتم حرماً. فقيامه عليه السلام على وجه الاستنكار يدل على أنَّه كان عنده من التحريم نص، فإنه لم يكن يجريه مجرى ما يجوز الاجتهاد فيه؛ لأن ما يجري هذا المجرى أكثر ما عليه أن يكف عنه دون أن يظهر الإنكار والكراهة له، على أن ما يرويه أمير المؤمنين عليه السلام، ويفتي به، لا يجوز عندنا أن يُخَالف، ويجب أن يتبع.(44/12)

45 / 142
ع
En
A+
A-