ووجه قولنا فيما ذهبنا إليه أن شعر الحلال لا حرمة له، فجرى مجرى الطير الأهلي، والأنعام، في أن قتلها لا يوجب شيئاً ، والعلة فيه أنَّه استهلك ما لا حرمة له، فوجب أن لا يكون فيه فرق بين الحلال والحرام، ولا خلاف أن الحلال إذا جَزَّه، لم يلزمه فيه شيء، فكذلك إذا جزَّه المحرم، والمعنى أنَّه شعر الحلال، ولا يشبه ذلك صيد الحلال؛ لأن للصيد حرمة، وإن كان ملكاً للحلال، ألا ترى أن الحلال لا يجوز له ذبحه في الحرم؟ وليس كذلك شعر الحلال؛ لأنه يحلقه في الحرم، يوضح ذلك أنَّه لو ألبسه قميصاً، لم يلزمه شيء، لما لم يكن الحلال ممنوعاً من لبسه، فكذلك قص شعره.
فإن قيل: هو منهي عن قص شعر نفسه وشعر، غيره.
قيل له: لسنا نسلم أنَّه منهي عن قص شعر غيره.
مسألة [في محظورات الإحرام من الطيب والكحل وقتل القمل](44/3)
قال: ولا يتداوى بدواء فيه طيب، ولا يكتحل، ولا يقتل من القمل شيئاً، وإن أراد تحويله(1) من مكان إلى مكان، فعل، وإن قتلها، تصدق بشيء من الطعام. جميعه منصوص عليه في (الأحكام)(2). أما الطيب، فلا خلاف في أن المحرم ممنوع منه، فوجب أن يمتنع منه، وإن كان في الدواء؛ لأن كونه في الدواء لا يخرجه من أن يكون طيباً. /209/ وأما الكحل، فإنه منع منه؛ لأنَّه زينة، والمحرم قد أُخذ عليه ترك الزينة. وأما القمل، فقلنا: لا يلقيه عن نفسه ولا يقتله؛ لأنَّه جار مجرى أخذ الشعر، والظفر من جسده؛ لأنَّه منه، وفي أخذه إماطة الأذى عن نفسه، ولا خلاف أن المحرم لا يغلي ثوبه، ولو كان له قتل القمل، لكان له فَلْيُه، كما له غسله. وقلنا أنَّه إذا نقله من موضع، من جسده إلى موضع فليس عليه فيه شيء؛ لأنَّه لم يقتله، ولم يُمط الأذى عن نفسه. وقلنا: أنَّه إذا قتله تصدق بشيء من الطعام؛ لأنَّه إذا ثبت أنَّه ممنوع منه لإحرامه، فلا يلزمه(3) إذا قتله دم بالإجماع، ولزمه التصدق، كما نقول ذلك فيمن قصر ظفراً، أو حلق شعرة، أو شعرتين، أو نسي رمي حصاة، أو حصاتين.
وروى ابن أبي شيبة(4) في القمل نحو قولنا، عن ابن عمر، وسعيد بن جبير. وهو المروي عن جعفر بن محمد عليهما السلام.
مسألة [في التزوج والتزويج للمحرم]
__________
(1) ـ في (ب): تحويل قملة.
(2) ـ انظر الأحكام 1/276 وهو بلفظ قريب.
(3) ـ في (ب): الفدية إذا قتله وهو دم بالإجماع.
(4) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 3/426.(44/4)
قال: (ولا يُزَوِّج، ولا يَتزوج، فإن فعل، كان النكاح باطلاً)، وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (1) و(المنتخب) (2)، وهو مذهب الإمامية، وقول الشافعي. قال أبو يوسف: لا بأس بذلك. والأصل في ذلك ما أخبرنا به أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا يونس، أخبرنا ابن وهب، أن مالكاً، وابن أبي ذئب(3) حدثاه، عن نافع، عن نبيه بن وهب، عن إبان بن عثمان بن عفان، قال سمعت أبي يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لاَ ينكح المحرم، ولا يُنكِح، ولا يخطب)) (4). وأخبرنا أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا جعفر بن محمد، حدثنا يوسف القطان، حدثنا سلمة بن الفضل، عن إسحاق بن راشد، عن زيد بن علي، عن إبان بن عثمان بن عفان، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((المحرم لاَ ينكح، ولا يُنكِح))(5).
وروى أبو بكر بن أبي شيبة، عن حاتم بن إسماعيل، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، أن علياً عليهم السلام، وعمر، قالا: ((لاَ ينكح المحرم، ولا يُنكِح، فإن نكح، فنكاحه باطل)) (6). وروى ابن أبي شيبة بإسناده، عن ابن عمر، قال:((لا يتزوج المحرم ولا يزوج))، فلما نهى صلى الله عليه وآله وسلم المحرم عن النكاح، والإنكاح، دل ذلك على فساد النكاح.
فإن قيل : هو محمول على الوطء.
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/276، 299.
(2) ـ انظر المنتخب 97 وهو بلفظ قريب.
(3) ـ في (ب): فؤيب.
(4) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار.
(5) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 2/268 وفيه محمد بن جعفر، وكذلك حدثنا أبو سلمة.
(6) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 3/152 وإسناده: حدثنا عبدة بن سليمان، عن يحيى، عن نافع.(44/5)
قيل له: النكاح عندنا هو حقيقة في العقد، ومجاز في الوطء، فوجب أن يحمل الحديث على العقد وإن حمل على الوطء، على أن قول علي عليه السلام، وعمر، ((فإن نكح، فنكاحه باطل)) يمنع من هذا التأويل؛ لأن سمة الباطل تقع على العقد دون الوطء، وكذلك ما في الحديث الأول من وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((ولا يخطب)) يمنع التأويل.
فإن تعلقوا بظواهر الكتاب نحو قوله: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ} {وَأَنْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ} {وَلا تَعْظُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ}.
قيل له: هذه الظواهر كلها مبنية على قوله: ((المحرم لا يَنكح، ولا يُنكح، ولا يخطب)).
فإن قيل: فقد(1) صرتم أولى بتخصيص هذه الظواهر، وبنائها على الخبر، منا بتأويل الخبر على ما ذكرناه من الوطء، بنائه على الظواهر.
قيل له: نحن أولى باستعمالكم(2) من جهتين: إحداهما أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((لا يَنكح المحرم، ولا يُنكح، ولا يخطب))، فذكر الخطبة، فدل على أن المراد به العقد؛ إذ الخطبة لا /210/ تتعلق بالوطء.
والثاني: أن الخبر أخص بموضع الخلاف، والمقصد به(3) بيان ما اختلفنا فيه، وليس كذلك حال الظواهر، فصار استعمالنا بما ذكرنا أولى.
فإن قيل: فقد روي عن ابن عباس أنَّه قال: تزوج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بميمونة، وهو محرم.
قيل له: قد عارض ذلك: ما أخبرنا به أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا ابن مرزوق، حدثنا حبان بن هلال، حدثنا حماد بن زيد، عن مطر، عن ربيعة بن عبد الرحمن، عن سليمان بن يسار، عن أبي رافع، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تزوج ميمونة حلالاً، وبنى بها حلالاً، وكُنتُ الرسول بينهما(4).
__________
(1) ـ في (ب): فكيف.
(2) ـ في (ب): باستعمالنا.
(3) ـ في (ب): فيه.
(4) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 2/270 وفيه ربيعة بن أبي عبد الرحمن.(44/6)
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا ربيع المؤذن، وربيع الجيزي، قالا: حدثنا أسد، حدثنا حماد بن سلمة، عن حبيب بن الشهيد، عن ميمون بن مهران، عن يزيد الأصم، عن ميمونة بنت الحارث، قالت: تزوجني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ بسَرِف ـ ونحن حلالان بعد أن رجع من مكة(1).
وروي في هذا ـ أيضاً ـ ما أخبرنا به أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا يونس، أخبرنا ابن وهب، أن مالكاً حدثه عن ريبعة بن أبي(2) عبد الرحمن، عن سليمان بن يسار، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعث أبا رافع ـ مولاه ـ ورجلاً من الأنصار فزوجاه ميمونة بنت الحارث، وهي بالمدينة قبل أن يخرج. قلنا: في هذه الأخبار ثلاث طرق: إما أن نقول أنَّها تعارضتُ فسقطتُ ووجب الرجوع إلى قوله: ((المحرم لا ينكح، ولا ينكح)). وأما أن نقول: إن حديث ميمونة، وحديث أبي رافع، أولى أن يعمل به؛ لأن أبا رافع ذكر أنَّه كان الرسول بينهما، وهو أولى أن يكون تَحقَق الحال، وعرف الصورة، وكذلك ميمونة هي المعقود عليها، فقولها أولى بذلك؛ لأنها عرفت من الحال ما لم يعرف غيرها، ألا ترى أنَّها ذكرت الموضع، والوقت. وإما أن نقول: ذلك كان يجوز أن يكون خاصاً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقوله أولى أن يعمل به؛ لأنه يتناول غيره، وفعله يخصه.
ويعضد هذه التأويلات قول علي عليه السلام، وقول عمر على ما رواه ابن أبي شيبة بإسناده عنهما.
__________
(1) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 2/270.
(2) ـ في (أ): بن عبد الرحمن.(44/7)