ووجهه أنَّه لا خلاف فيمن حلق بعض رأسه، وهو محرم، أنَّه يلزمه دم، وأنه لو حلق من رأسه شعرة، أو شعرتين، لزمه أن يتصدق، فصار ذلك أصلاً في جملة من الأفعال، يوجب تركها الدم، ويوجب ترك اليسير منه صدقة، وكذلك لا خلاف في أن قتل الصيد يوجب دماً، وإن أخذه، ونتف شيئاً يسيراً من ريشه ووبره، وجبت صدقة، فلما ثبت ذلك، وثبت فيمن ترك الرمي جملة أن يلزمه الدم، قلنا: إن مَن ترك حصاة، أو حصاتين، إلى أن يصير المتروك أقل من أربع، يلزمه عن كل حصاة صدقة، وإذا صار المتروك أكثر، لزمه دم؛ لأن الأكثر في حكم الكل في الحلق وغيره.
مسالة [في أي وقت يكره الطواف]
قال: ولا يكره الطواف في شيء من الأوقات، إلاَّ في الأوقات الثلاثة الَّتِي تكره فيها الصلاة. وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (1).
ووجهه أن من السنة أن يصلي عقيب كل أسبوع ركعتين، وهذه الأوقات نهى عن الصلاة فيها على ما ذكرناه في باب الصلاة والطائف في هذه الأوقات لا بد له من الدخول في أحد الأمرين اللذين ذكرنا، إما أن يطوف ويصلي، وقد كرهت الصلاة فيها، أو يطوف ولا يصلي عقيب الطواف، وقد كره أيضاً ذلك؛ فلذلك قلنا: إن الطواف فيها مكروه، فأما [في] (2) غيرها من الأوقات، فلا يكره الطواف في شيء منها؛ لأنها لا تكره الصلاة فيها، وفي ذلك: ما أخبرنا به أبو الحسين بن إسماعيل، حدثنا محمد بن الحسين بن اليمان، حدثنا محمد بن شجاع، حدثنا أبو نعيم، عن سفيان، عن أبي الزبير، عن عبد الله بن باباه(3)، عن جبير بن مطعم، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: ((يا بني عبد مناف لا /207/ تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت، وصلى، أي ساعة من ليل، أو نهار)).
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/319 وهو بلفظ قريب.
(2) ـ سقط من (ب).
(3) ـ في (أ): ماتاه.(43/55)
وروى ابن أبي شيبة(1) ـ بإسنادهـ عن أبي سعيد أنَّه رأى الحسن، والحسين، عليهم السلام قدما مكة، فطافا بالبيت بعد العصر، وصليا. وروي أيضاً ـ بإسناده(2) ـ عن ابن عباس وابن عمر، نحوه. وروي أيضاً(3) عن ابن عمر، وابن الزبير، أنهما طافا بعد العصر، وصليا.
فإن قيل: فإن هذا يحجكم في الأوقات الثلاثة.
قيل له: هو مخصوص بالدليل الذي ذكرنا، يؤكد ذلك أن النَّهي عن الصيام يوم الفطر، ويوم الأضحى، لما ثبت استوت البقاع في ذلك، فكذلك الصلاة في الأوقات الثلاثة، والمعنى أنَّها عبادة، نُهى عن إيقاعها في زمن مخصوص، فوجب أن يستوي فيها البقاع.
مسألة [فيمن يطوف أسبوعين فأكثر، هل يصلى ركعتين لكل أسبوع؟]
قال القاسم عليه السلام فيمن أراد أن يطوف إسبوعين، أو ثلاثة، أو أكثر، أنَّه يصلي ركعتين لكل إسبوع عند فراغه منه. وهذا منصوص عليه في (مسائل النيروسي).
ووجهه الأخبار المروية في هذا الباب، قد ذكرناها في مسألة ركعتي الطواف في أول المناسك، فلا غرض في إعادتها.
مسألة [في نسيان التلبية]
قال القاسم عليه السلام: ولو أن رجلاً نسي التلبية حتَّى يقضي المناسك كلها، لم يكن عليه شيء، ولا ينبغي أن يتركها متعمداً. وهذا ما رواه يحيى عليه السلام في (الأحكام)(4). وعند أبي حنيفة يلزمه دم.
__________
(1) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في الكتاب المصنف 3/180 وإسناده: أبو بكر حدثنا محمد بن فضيل عن ليث عن شعبة أنه رأى.. الخ ولم يذكر أبا سعيد.
(2) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 3/180 وإسناده: حدثنا أبو بكر، حدثنا أبو الأحوص، عن ليث، عن عطاء.
(3) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 3/181، وإسناده حدثنا يعلى عن الأجلح عن عطاء.
(4) ـ انظر الأحكام 1/320 وهو بلفظ قريب.(43/56)
ووجهه ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من قوله: ((الحج عرفة، فمن أدرك عرفة، فقد أدرك الحج)) ودخول الألف واللام يدل على أنَّه هو الواجب فقط، كأنه قال: الحج عرفة، ولا خلاف أن تكرارها مسنون، فكذلك الابتداء، والمعنى أنَّها ذكر(1) وسائر أذكار الحج تؤكد ما ذكرنا، أو يقال لأنَّه من أذكار(2) الحج، و ـ أيضاً ـ الحج عبادة للمال فيها مدخل، فوجب أن لا يجب الذكر فيها قياساً على الصيام، أو يقال: عبادة تجب بالمال، فهي قياس الزكاة.
فإن قيل: هو قياس الصلاة؛ بعلة أنَّها عبادة يرتبط بعضها ببعض.
قيل له: فترك أركانها(3) لا يوجب الدم، فنقيس الحج عليها بعلتكم هذه، نقول: كل ذكر لا يفسد الفعل تركه متعمداً، فلا يجبر إذا ترك متعمداً، قياساً على أذكار الصلاة.
فإن قيل: فقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((أتاني جبريل عليه السلام، وأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية)).
قيل له: ظاهره يوجب رفع الصوت، وهو غير واجب بالإجماع، والأمر به يجب أن يكون ندباً. وقال: لا ينبغي أن يتركها متعمداً؛ لأنَّه لا خلاف فيه، ولأنها إن لم تكن واجبة، فلا خلاف في أنَّها مسنونة.
__________
(1) ـ في (ب): تلبية.
(2) ـ في (أ): أركان.
(3) ـ في (ب): أذكارها.(43/57)
باب القول فيما يجب على المحرم توقيه
[مسألة في بيان الرفث، والفسوق، والجدال]
يجب على المحرم أن يتوقى الرفث، والفسوق، والجدال. والرفث هو: الجماع، واللفظ بالقبيح. والفسوق هو: الفسق.
والجدال هو: المجادلة بالباطل. وجميعه منصوص عليه في (الأحكام) و(المنتخب). وذلك لقوله تعالى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيْهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِيْ الْحَجِّ} [وهذا منصوص عليه في الأحكام](1).
وروى ابن أبي شيبة ـ بإسناده ـ عن ابن عباس، قال: (لا رَفَثَ) الجماع، و(لا فسوق)، المعاصي، (ولا جدال في الحج)، لا /208/ تمار صاحبك حتَّى تُغضبَه.
ولا خلاف أن الجدال بالحق مأمور به؛ لقول الله تعالى: {وَجَادِلْهُمْ بَالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} فإذاً الجدال المنهي عنه هو المجادلة بالباطل. ويبين ـ أيضاً ـ أن الرفث هو الجماع قول الله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصَّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} ويبين أن الرفث هو اللفظ بالقبيح قول الراجز: عن الخنا ورفث التكلم.
مسألة [في لبس المحرم الثوب المصبوغ أو القميص]
قال: ولا يلبس ثوباً مصبوغاً، ولا يلبس قميصاً بعد اغتساله لإحرامه، فإن فعله ناسياً، أو جاهلاً، شقه، وخرج منه. [وهذا منصوص عليه في الأحكام] (2)
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/275 ـ276 وهو بلفظ قريب.
(2) ـ انظر الأحكام 1/299 وأما الثوب المصبوغ فنص عليه فيه 1/276.(44/1)
وروي هناد ونحوه، عن محمد بن الحنفية، وإبراهيم، والحسن، والشعبي. وليس لقائل أن يقول: إنَّه يؤدي إلى إضاعة المال، وقد نهى عنه؛ لأنَّه لا معنى لذلك مع ورود الأثر، على أنَّه لا خلاف أن من لم يجد النعلين يقطع الخفين، ويلبسهما، فكان شق القميص مثل ذلك. وقلنا ذلك أن لبسه بعد اغتساله لإحرامه؛ لأنَّه إذا اغتسل ناوياً للإحرام، يحصل محرماً؛ لأنا قد بينا فيما مضى أن عقد الإحرام لا يفتقر إلى اللفظ، وإنَّما ينعقد بالنية إذا ضامت فعلاً يختص الإحرام، كالاغتسال، أو تقليد البدن، ونحوهما.
وأوجبنا الدم على من لبس الثوب متعمداً؛ لأنَّه لا خلاف في ذلك؛ إذ لبس ثوباً، فكذلك إذا لبس دونه، فأما الناسي، فلم نوجب عليه شيئاً، وهو قول الشافعي، خلافاً لأبي حنيفة؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما لبس الثوب ناسياً، شقه، وخرج منه، ولم يُرو أنَّه فدى. وكذلك رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أعرابياً محرماً عليه جبة، فأمره بنزعها(1)، فلم(2) يأمره بالفدية.
مسألة [في جز شعر المحرم]
قال: ولا يجز من شعره بنفسه، ولا بغيره. قال القاسم عليه السلام: ولا بأس إن يجز من شعر الحلال. وقد نص في (الأحكام)(3) على ما ذكرناه، ورَوى عن القاسم عليه السلام فيه ما حكيناه عنه. أما جَزُّ شعر المحرم، فلا خلاف في أنَّه لا يجوز، وجَزُّ المحرم شعر الحلال قد اختُلف فيه، قال الشافعي فيه مثل قولنا: وقال أبو حنيفة فيه صدقة.
__________
(1) ـ في (أ): ينزعها.
(2) ـ في (ب): ولم.
(3) ـ انظر الأحكام 1/276، 287 و 320، 321 وهو بلفظ قريب.(44/2)