قيل له: لا نسلم أن الطواف مضمن بها؛ لأن ذلك يفيد كونها شرطاً فيه، وفيه اختلفنا، وأما وجوبها، فلا خلاف فيه، وقوله صلى الله عليه آله وسلم: ((خذوا عني مناسككم)) مع أنَّه طاف متطهراً يدل على ذلك، وكل من ذهب إلى أنَّه ليس شرطاً فيه، يذهب إلى أنَّه يجبر بالدم إذا كان الطائف قد لحق بأهله، وأنه إذا كان بمكة يعيد؛ فلذلك قلنا به، على أنه إذا كان بمكة يمكنه الإتيان به من غير مشقة، فلا وجه؛ لأن يُجْبَر بالدم مع إمكان الإتيان به ثانياً. وألزمنا من طاف طواف الزيارة جنباً، ثُمَّ لحق بأهله، بدنةً؛ لأن البدنة موضوعة في الحج لكل ما كان أغلظ في جنسه، ثُمَّ كان طواف الزيارة فرضه آكد، وكان لا يجبر بالدم عند أحد، فعلمنا أن حكمه أغلظ، فكذلك الجنابة، فلذلك أوجبنا في جبره البدنة. وقلنا: إن من خرج، ولم يطف طواف النساء، لزمه العود، وأنه يكون في حكم المحصر إلى أن يعود، فيطوف؛ لأنَّه لا خلاف فيه، ومعنى قولنا: إنَّه يكون محصراً، أنَّه يكون ممنوعاً من النساء فقط دون سائر الأشياء. وقلنا: إنَّه إن جامع قبل ذلك لزمته بدنة؛ لأنَّه لا خلاف في أنَّه يلزمه دم، وسبيله سبيل من جامع بعد ما رمى جمرة العقبة قبل طواف النسا في أنَّه يلزمه البدنة.
مسألة [في الكلام حال الطواف]
قال القاسم عليه السلام: ويكره الكلام في الطواف، فإن تكلم، لم يفسد. وهذا منصوص عليه في (مسائل النيروسي). ووجهه أنَّه موقف عظيم، وعبادة تشتمل على الذكر فاستحببنا ترك الكلام فيها. وروى ابن أبي شيبة ـ بإسناده ـ عن ابن عباس أنَّه قال: ((الطواف بالبيت صلاة، فأقلوا الكلام فيه)) (1).
__________
(1) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 3/137 وإسناده أبو بكر حدثنا ابن عيينة، عن ابن طاووس عن أبيه، به.(43/50)
وروي أيضاً ـ بإسناده ـ عن طاووس أنَّه قال: ((إني لأعدها(1) غنيمة أن أطوف بالبيت أسبوعاً، لا يكلمني أحد)) ولا خلاف في أن الكلام لا يفسده.
مسألة [في من نسي السعي بين الصفا والمروة ما عليه؟]
من نسي السعي بين الصفا والمروة استحب له الرجوع ليقضيه، فإن لم يمكنه، أجزأه دم، ومتى عاود الحج، قضاه، ومن طاف بينهما من غير وضوء، لم يكن عليه شيء.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (2). وهو قول زيد بن علي عليهما السلام؛ لتنصيصه على أن فروض الحج ثلاثة. ورواه ابن أبي(3) شيبة عن الحسن، وعطاء، أنهما أوجبا على تاركه دماً فقط، وإليه ذهب أبو حنيفة. وقال الشافعي هو شرط في الحج مثل طواف الزيارة.
والذي يدل على ذلك قوله [صلى الله عليه وآله وسلم] (4): ((الحج عرفة، فمن أدركها أدرك الحج))، فظاهره يدل على أن الحج هو الوقوف بعرفة فقط، وأن من أدركه، فقد أدرك /205/ الحج، وهو يوجب أن ترك السعي لا يمنع تمام الحج، ويدل على ذلك أن السعي تابع للطواف، فوجب أن يكون من فروض الحج كالمبيت بمزدلفة، وكالمبيت بمنى، والعلة أنه تابع لغيره.
فإن قيل: لسنا نسلم أنَّه تابع للطواف، وإن كان مرتباً عليه، كما لا نقول في صلاة العصر أنَّها تابعة للظهر، وإن كانت مرتبة عليه، ولا نقول في طواف النساء أنه تابع للوقوف، وإن كان مرتباً عليه.
__________
(1) ـ في (أ): ألا أعدها غنيمة، وفي هامشها غنية، وفي (ب): إني لأعدها غيية. والصواب: ما أثبتناه وهو في المصنف هكذا.
(2) ـ انظر الأحكام 1/328 وهو بلفظ قريب.
(3) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 3/281.
(4) ـ سقط من (ب).(43/51)
قيل له: صلاة العصر لها وقت يجب أن تفعل فيه إذا انتهى الإنسان إليه، وإن لم يكن فعل الظهر، وقد تجب صلاة العصر على الإنسان مفردة عن الظهر، فلم يصح أن يقال: إنها تابعة، ووجب أن يقال: إنَّها مرتبة عليه، وطواف النساء لا يتعلق بالوقوف؛ لأن وقت كل واحد منهما غير وقت صاحبه، وليس كذلك السعي؛ لأنَّه لا يفعل إلاَّ عقيب الطواف، ويكره أن يفرق بينهما بزمان طويل، وهو عند مخالفينا لا يختص بطواف بعينه؛ إذ قد يفعل عقيب طواف القدوم، وقد يفعل عقيب طواف الزيارة، فبان أنَّه تابع له على ما ذكرناه، على أنَّه عندنا لا يكون إلاَّ تابعاً لطواف القدوم، ولا يجوز أن يكون التابع أوكد حالاً مما هو تابع له، فوجب أن لا يكون شرطاً في صحة الحج، كطواف القدوم، وأيضاً قد ثبت أنهما من الشعائر بقوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ الله}، فوجب أن لا يكون شرطاً في الحج، كسائر الشعائر الَّتِي هي البُدن، والمشعر الحرام، ونحوها.
فإن قيل: فقد سعى بينهما النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقال: ((خذوا عني مناسككم))، وقال ـ أيضاً ـ ((إن الله كتب عليكم السعي، فاسعوا)) وهذا يقتضي الوجوب.
قيل له: لَعمري، إن ذلك يقتضي الوجوب، ونحن لا ننكره، ولا نخالف فيه؛ لأن السعي بينهما عندنا واجب، وإنَّما نقول إنَّه إذا فات ناب الدم عنه، وليس شرط في الحج، وما استدللتم به، لا يدل على موضع الخلاف.(43/52)
فإن قاسوه على الطواف بعلة أنَّها عبادة يوجبها الإحرام في موضع مخصوص، فوجب أن لا ينوب عنها الدم، كان ذلك منتقضاً بالرمي. وحكي عن قوم أنهم قالوا: غير واجب، وذلك غير صحيح، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((خذوا عني مناسككم)) مع سعيه بينهما، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن الله كتب عليكم السعي، فاسعوا)) فإذا ثبت وجوبه، وثبت أنَّه ليس بشرط في صحة الحج، ثبت أنَّه يجب أن يجبر بالدم إذا فات؛ إذ لم يخالف أحد فيه مع إثبات هذين القولين؛ فلذلك قلنا به. وقلنا: إنَّه إن عاد إلى مكة بعد ذلك، قضاه استحباباً؛ ليكون قد حصل له الأصل؛ ولأنه أحوط. وأما جواز السعي بغير طهور، فلا خلاف فيه، فلذلك قلناه.
مسألة [في البناء على السعي والطواف إذا قطعه عارض]
قال: وإن(1) عرض عارض، فقطع سعيه، ثُمَّ عاد، بنى على سعيه، وكذلك القول في الطواف: إن عرض عارض فقطعه. وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (2). وقد بينا أن من قطع طوافه لعذر، جاز له البناء، ولم يلزمه شيء في مسألة دخول الحِجْر في الطواف، فوجب أن يكون السعي بذلك أولى؛ لأن الأمر فيه أخف.
مسألة [فيمن نسي رمى الجمار]
قال: وإن نسي رمي الجمار، ثُمَّ ذكره في آخر أيام التشريق، فليرمها لما ترك من الأيام، وليُرِقْ دماً، وإن لم يذكره حتَّى مضت أيام التشريق، أراق دماً، ولم يكن /206/ عليه رمي. وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (3) وهو قول أبي حنيفة.
__________
(1) ـ في (ب): فإن.
(2) ـ انظر الأحكام 1/328 حيث ذكر فيه البناء على السعي، وأما البناء على الطواف، فنص عليه فيه 1/319.
(3) ـ انظر الأحكام 1/328 وهو بلفظ قريب.(43/53)
ووجه ما ذهبنا إليه من إيجاب الدم على من تركه، أنَّه نسك لا خلاف فيه، وإذا تركه، وجب فيه [دم] (1)، ولا خلاف أنَّه إذا تركه حتَّى تمضي أيام التشريق أن عليه دماً، فكذلك إذا تركه إلى آخر أيام التشريق، والمعنى أنَّه ترك الرمي حتَّى مضى وقت أدائه. وقلنا إنَّه يقضي إن ذكره في أيام التشريق مع إراقة الدم؛ لأن ما بقي من أيام التشريق وقت قضائه، وإن لم يكن وقت لأدائه، لا خلاف فيه، فأما إذا مضت الأيام كلها، فلا رمي عليه، ويجزيه إراقة الدم؛ لأن ما بعدها ليس بوقت للأداء، أو القضاء.
فإن قيل: لا معنى للدم مع القضاء.
قيل له: هذا غير ممتنع، ألا ترى أن من أفسد حجه، أو عمرته، فعليه الدم مع القضاء، وعندنا أن المتمتع إذا أخر الذبح، لزمه مع الذبح دم للتأخير، وعند مخالفينا من أفسد صوم رمضان بجماع، لزمه كفارة مع القضاء.
مسالة [فيمن نسي أن يرمي بحصاة أو حصاتين إلى أربع]
قال: وإن نسي أن يرمي بحصاة، أو بحصاتين، أو ثلاث، أو أربع، ثُمَّ ذكر في أيام التشريق، رمى ما نسيه، وأطعم عن كل حصاة مسكيناً مسكيناً، لكل مسكين مُدَّين من طعام، وإن نسي أن يرمي كل جمرة بأربع حصيات، ورماهن بثلاث، أراق دماً، ورمى إن ذكره في أيام الرمي، وإن ذكره بعد، أجزأه الدم. جميعه منصوص عليه في (الأحكام) (2).
__________
(1) ـ سقط من (ب).
(2) ـ انظر الأحكام 1/328 ـ 329 وهو بلفظ قريب.(43/54)