قيل له: إنه وإن كان كذلك، فمن المعلوم أن الإفراد أكثر عملاً؛ لأنَّه محرم للحج من الميقات، ثُمَّ محرم للعمرة بعد ذلك من ميقاته، والمتمتع تكون حجته مكية، والقارن لا يلزمه إلاَّ عقد واحد، وإحرام واحد من جهة الفعل، وإن كان ذلك من طريق الحكم إحرامين، فبان بذلك أنَّه أكثر عملاً، والإفراد بالحج والعمرة يكون فيهما حلاقان، وليس للقارن إلاَّ حلاق واحد، وأيضاً لا خلاف أن أدا الصلاتين كل واحدة منهما في وقتها المختار أفضل من الجمع بينهما مع السلامة، فكذلك الحج والعمرة، والمعنى أنهما عبادتان من جنس واحد تختص الأبدان، فوجب أن يكون كل واحد منهما أفضل من الجمع بينهما. يؤكد ما ذهبنا إليه أن التمتع، والقران يجريان مجرى الترفيه والرخصة، ألا ترى أن المتمتع رُخص له التمتع بما يتمتع به الحلال في وقت، وهو محظور على الحاج، والقارن رخص له في أن يعقد العمرة والحج بإحرام واحد في دفعة واحدة، وهو محظور على المفرد ، فإذا كان ذلك كذلك، لم يجز أن تكون الرخصة أعلى حالاً من الأصل، والعبادات حكمها كلها على ما ذكرنا.(43/40)


ومما يبين أن ما ذكرناه ضرب من الترفيه أن كثيراً من العلماء يكرهون لأهل مكة فعله، لَمَّا كانوا عن الترفيه أغنى، ولم يكره لأهل الآفاق، لَمَّا كانوا إلى الترفيه أحوج، فكان ذلك كالوِتر على الراحلة لما كان ترفيهاً خُصَّ به المسافر، إذ هو أحوج إلى الترفيه، دون المقيم الذي هو أغنى عنه. ويؤكد ما ذهبنا إليه قول الله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للهِ} وعندنا أن الواو توجب الترتيب شرعاً على ما بيناه في مسألة ترتيب الوضوء من كتاب الطهارة، فكأنه قال تعالى: وأتموا الحج والعمرة لله، وذلك لا يكون، إلاَّ إفراداً، وأقل أحوال الأمر أن يقتضي الندب، فأوجبت الآية أن الإفراد مندوب إليه ندباً زائداً على غيره. ومما يدل على ذلك أنا وجدنا الدم لا يدخل في الحج إلاَّ لجبر النقص، دليله جزاء الصيد، وفدية الأذى، ونحوهما، فوجب أن يكون كذلك دم القران، والتمتع، وإذا ثبت ذلك، ثبت أن فيهما نقصاً عن الإفراد، وهذا الدليل الذي اعتمده القاسم ويحيى عليهم السلام.
فإن قيل: فأنتم مجوزون الأكل من هدي القارن، والمتمتع للمهدي، فهلا دَلَّكم ذلك على أنَّه ليس للنقص، بل لزيادة النسك؟
قيل له: لا يمنع عندنا أن يكون ذلك زيادة نسك، وإذا كان مع ذلك جبراً للنقص، كما أن سجدتي السهو لم تجب من حيث كانتا جبراً للنقص ألا تكون عبادة زايدة، وكونه جبراً للنقص لا يمنع الأكل منه، ويكون ذلك بحسب قيام الدلالة عليه، ولا يمتنع أن يكون النقص على ضربين، ضرب منه محظور بالإحرام، فيكون ما يجبر به لا يجوز أكله للمهدي، وضرب منه نقص مفسوخ له في الإتيان به، وإن لم يكن له عذر، فيكون ما يجبر به مباحاً أكله.
فإن قيل: لو كان ذلك خيراً للنقص لكان يكون على المكي الدم إذا تمتع، فإنه مع /200/ النقص إتيان لما كره له، فإذا لم يلزمه، فقد ثبت أنَّه لم يكن للجبر.(43/41)


قيل له: لا يمتنع أن يكون هذا الجبر لم يجعل لأهل مكة تشديداً عليهم، وليس يلزمنا ما ذكرت في قولنا إنَّه جبر للنقص فيما ذكرتموه، إلاَّ ويلزمكم مثله في قولكم إنَّه زيادة نسك فقط؛ لأن المكي إلى زيادة النسك أحوج متى تمتع للوجه الذي ذكرتموه، على أنا لسنا نقول أن ذلك يكره لأهل مكة، وقد مضى الكلام فيه، ونقول أن الدم يسقط عنه؛ لأن حجه حصل من ميقاته؛ لأن مكة ميقات لأهل مكة.
فإن قيل: ما أنكرتم على من قال لكم: إن القران فيه مبادرة إلى فعل الحج والعمرة، فوجب أن يكون أفضل؟
قيل له: المبادرة لا تدل على أنَّها أفضل في كل موضع، ألا ترى أن أهل العراق يرون أن تأخير العصر أفضل من تقديمه، وكذلك الإسفار بالفجر أفضل من التغليس به، ولا خلاف أن تأخير الوتر أفضل من تقديمه، ونحن نذهب إلى تأخير العصر إلى وقته أفضل من تقديمه في أول وقت الظهر على سبيل الجمع للمعذور، فكل ذلك يبين فساد تعلقهم بما تعلقوا به.
فإن قيل: قوله ((لو استقبلت من أمري ما استدبرت، ما سقت الهدي)) يدل على أن التأسف على التمتع، وهذا يدل على أن التمتع أفضل.
قيل له: يحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((ذلك تطبيباً لأنفسهم)) لما رآهم قد شق عليهم الإحلال مع بقائه عليه السلام على الإحرام، وهذا كما يقول الإنسان لمن رُخِّص له في غدر عرض له، لو كنت مثلك، لترخصت ، وإن لم يدل ذلك على أنَّه رغبة في حصول العذر والعدول إلى الرخصة، فكذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لو استقبلت من أمري ما استدبرت، ما سقت الهدي)).
فإن قيل: كيف تقولون أن الإفراد أفضل مع قولكم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قرن؟(43/42)


قيل له: فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم في كل حال لا يدل على أنَّه هو الأفضل، بل يدل على أنَّه جائز، ألا ترى أنَّه أفطر في السفر، وقد دل الدليل على أن الصوم فيه أفضل، وكذلك أوتر على الراحلة، وقد دل الدليل على أن الإتيان على الأرض أفضل.، وروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه طاف راكباً، ورمى راكباً، ولا خلاف أنهما على القدمين أفضل، على أنَّه لا يكون الأخذ بالرخصة أفضل خصوصاً له من حيث كان ذلك بياناً للناس، ولا يوجب أن يكون الرخصة أفضل للكافة، فلا تعلق بها على وجه من الوجوه.
ويدل على أن القران أفضل من التمتع، وهو المراد بقوله في (الأحكام) (1): (والقران أفضلها) أن القارن(2) حجته ميقاتية وحجة التمتع مكية، ويكون سفر المتمتع إلى مكة للعمرة، ويكون سفر القارن للحج والعمرة إلى منى، وأيضاً الرخصة للمتمتع أكثر منها للقارن، ألا ترى أن المتمتع ينتفع بالنساء، والطيب، والثياب، وغيرها، مع كونها أجمع محظورة على القارن، وإذا ثبت ذلك، ثبت بما قدمناه أن العدول عن الرخصة أفضل، كان الأمر الذي فيه الرخص أقل أفضل من الذي فيه الرخص أكثر، فوجب بذلك أن يكون القران أفضل من التمتع. فأما ما كان يميل إليه أبو العباس الحسني رحمه الله تعالى من الفرق بين من حج ومن لم /201/ يحج، في أن الإفراد أفضل لمن لم يحج، والقران أفضل لمن قد حج، فهو بعيد؛ لأن جميع الوجوه الَّتِي ذكرناها لا فصل فيها بين من حج وبين من لم يحج، وتصريح يحيى عليه السلام أن الإفراد أفضل لمن حج ولمن لم يحج في (الأحكام)، يوضح ما ذكرناه، وأنه لم يذكر الحال مفصلاً ولم يترك الاقتصار على قوله: الإفراد أفضل إلاَّ لإزالة هذه الشبهة.
مسألة [في أعمال العمرة]
__________
(1) ـ انظر الأحكام 310.
(2) ـ في (أ): القران.(43/43)


قال: والمعتمر يفعل ما يفعله المتمتع في عمرته من الإحرام، والتلبية، وقطعها، والطواف، والسعي، وغيرها. وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (1) وهو مما لا خلاف فيه، وبه وردت الأخبار، فلا وجه للإطالة فيه.
مسألة [فيمن دخل الحجر في طوافه]
قال: والطائف لا يدخل الحجر في طوافه، فإذا دخله ناسياً، أو جاهلاً، فلا شيء عليه، وإن دخله معتمداً عالماً بالكراهة، وجب عليه دم. وهذا منصوص عليه في (المنتخب)(2). والوجه في ذلك أن الحِجْرَ من الكعبة لما: أخبرنا به أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي(3)، حدثنا ربيع المؤذن، حدثنا أسد، حدثنا شيبان بن عبد الرحمن أبو معاوية، عن أشعث بن أبي الشعثاء، عن الأسود بن يزيد، عن عائشة، قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الحجر، فقال: هو من البيت. فإذا ثبت أنَّه من البيت فيجب على الطائف أن يطوف حوله لقول الله تعالى: {وَلِيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيْقِ} فمن دخله، يكون قد قطع طوافه، ويكون سبيله سبيل من خرج من المسجد وهو في الطواف، في أنَّه يكون قاطعاً للطواف، فلذلك قلنا أنَّه إذا فعل ذلك معتمداً، فعليه دم؛ لأنَّه قد أخل بالمتابعة، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم تابع بين الطواف، وقال: ((خذوا عني مناسككم)) ولأن ذلك هو المأخوذ به عند المسلمين، فإذا ثبت ذلك، لزمه دم لإخلاله بما هو نسك واجب من المتابعة بين الطواف. وقلنا: إن فعل ذلك ناسياً، أو جاهلاً، فلا شيء عليه؛ لأنَّه يكون في حكم المعذور، ولا خلاف أن من قطع الطواف لإقامة الصلاة لا شيء عليه؛ لأنَّه يكون في حكم المعذور، فكذلك ما ذكرناه، وهذا يجب أن يكون في الطواف الواجب إذا لم يعد، فأما الطواف الذي ليس بواجب، والطواف الواجب إذا عاد، فليس عليه شيء؛ لأن دخول الحجر في الطواف ليس بأكثر من
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/293 وهو بلفظ قريب.
(2) ـ انظر المنتخب 107 وهو بلفظ قريب.
(3) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 2/184.(43/44)

40 / 142
ع
En
A+
A-