قيل له: إنَّه دخل فيه عن أصل، وهو أن اجتهاده أداه إلى ذلك، على أنَّه لم يُمْكِنَه في الاحتياط أكثر مما فعل، والداخل في الصلاة، والمتوجه على الوجه الذي ذكرتموه فرَّط، ولم يحتط، فلا يمتنع أن لا يقع فعله موقع الصحيح، يؤكد ذلك من كان عليه صوم، وشك أنه مِن قتلٍ، أو ظهار أجزئه أن يصوم ناوياً للفرض؛ إذ لا يمكنه غير ذلك، كذلك من صام يوم الشك على الوجه الذي ذهبنا إليه.
مسألة [في وقت النية]
قال: وتجزي النية لصيام رمضان من أول الليل إلى أن يبقى من النهار بعضه.
وهذا منصوص عليه في (المنتخب) (1) في مسألة المسافر يقدم قبل الزوال، أو بعده.
وهذه المسألة فيها خلاف للشافعي من وجه، ولأبي حنيفة من وجه، فإن الشافعي لا يجيز صيام رمضان إلاَّ أن ينويه من الليل، وأبو حنيفة لا يجيزه إلاَّ أن ينويه قبل الزوال.
فما يدل على أن تبيت النية ليس بشرط في صحة صومه:
ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه بعث إلى أهل العوالي يوم عاشوراء، فقال: ((من أكل، فليمسك بقية يومه، ومن لم يأكل، فليصم))، فأمر الآكلين بالإمساك، ومن لم يأكل بالصوم، فدل ذلك على أنهم أجزتهم النية في بعض النهار، ولم يلزمهم تبييتها من الليل، ألا ترى أنه صلى الله عليه وآله وسلم فصَل بين من أكل، وبين من لم يأكل، فقال: (( من أكل، فليمسك بقية يومه، ومن لم يأكل، فليصم ))، فلو كان الآكل، وغير الآكل سواء، إذا لم يكن نوى من الليل، لم يكن لتفرقته صلى الله عليه وآله وسلم معنى.
فإن قيل: كان صوم عاشوراء تطوعاً، فلذلك جاز ما ذكرتم.
قيل له: روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه أمر الناس بصيام يوم عاشوراء أول ما قدم المدينة، ثم نسخ برمضان ولا خلاف أن صومه جائز، بل مستحب، فبان أن النسخ تناول الوجوب، فثبت بذلك أنَّه كان واجباً إذ ذاك، ولم يكن تطوعاً.
__________
(1) ـ انظر المنتخب 92 وهو بالمعنى فقط.(35/18)


يؤكد ذلك أن في بعض الأخبار أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر الآكلين منهم بالقضاء، على أن الأمر يقتضي الإيجاب، ويدل عليه.
فإن قيل: فقد روي ((من أكل، فليصم بقية يومه)) ومعلوم أن الصوم مع الأكل لا يصح، فكذلك يجب أن يكون قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((ومن لم يأكل، فليصم)).
قيل له: قد روي بلفظ الإمساك، وبلفظ الصوم، ويحتمل أن يكون الراوي بلفظ الصوم، رواه على المعنى، والصوم إذا أطلق عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم محمول على الصوم الشرعي، ووجب أن يُحمل [115/ ذلك في الذين أكلوا على الصوم اللغوي، الذي هو الإمساك؛ إذ لا خلاف أن الآكل على وجه تَرْكِ الصوم لا يكون صائماً، وليس إذا وجب حمل اللفظة الثانية على التوسع، لدلالةٍ اقتضته، وجب حمل اللفظة الأولى عليه بلا دليل، سيما وقد فصَل بينهما.
فإن قيل: ما أنكرتم على من قال لكم: أجزأهم الصوم، وإن لم يكونوا بيتوا النية فيه؛ لأنَّه ابتدأ إيجابه من بعض اليوم؟
قيل له: لو كان تبييت النية شرطاً في صحته، لجرى تركه تبييتها مجرى الأكل، في أنَّه يفسد الصوم، فكان يجب أن لا يصح صوم من لم(1) يبيت، كما لا يصح صوم من أكل في بعض النهار.
فإن قيل: فكيف يصح لكم الاعتماد على حكم صوم عاشوراء، وهو عندكم منسوخ؟
قيل له: إنما نسخ الإيجاب، وليس يجب بنسخ الإيجاب، نسخ سائر أحكامه، بل يجب أن يكون سائر أحكامه ثابتاً على ما كان عليه، يكشف ذلك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دل على حكمين:
أحدهما: على وجوب صومه.
والثاني: على جواز ترك التبييت للنية فيه. فإذا ورد النسخ على أحد الحكمين، لم يقتض ذلك نسخ الآخر، فصح ما اعتمدناه، يكشف ذلك ما روي من نسخ فرض صلاة الليل، ولم تنسخ سائر أحكامها.
فإن استدلوا بحديث حفصه ((لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل)).
__________
(1) ـ في (أ): لا.(35/19)


قيل له: هو محمول على نفي الفضل، والكمال، للدلالة التي قلنا، [أو] (1) أنَّه محمول على ما يجب من صومٍ دَين.
وهو قياس على صوم التطوع بعلة أنَّه نوى له من وقت لا يصلح إلاَّ لما نوى له، ألا ترى أن المتطوع في بعض النهار لا يصح أن يجعل صومه لغير التطوع؟ أو يقال: إنَّه صوم متعلق بالعين، لا بالذمة، فيشابه التطوع في أن النية في بعض النهار تجزي.
ويقاس على التبييت؛ بعلة حصول النية قبل غروب الشمس، وقياسنا أولى من قياسهم له على ما يجب في الذمة من الصيام، بمعنى أنَّه فرض؛ [لأنَّه](2) يستند إلى نص لا يحتمل، وقياسهم مدفوع به، على أن قياسهم شاهد على العكس لقياسنا الثاني، ألا ترى أن ما قاسوه عليه، لَمَّا تعلق بالذمة، لم تجز النية فيه في بعض النهار، فدل ذلك على وجوب الحكم الذي ذكرناه بوجود علتنا الثانية، وعدمه بعدمها.
فأما أبو حنيفة، فلا خلاف بيننا وبينه فيما ذكرناه، وإنما الخلاف في جوازها بعد الزوال، وهي عندنا مقيسة على النية قبل الزوال، والمعنى حصول النية في بعض النهار، والأقيسة الثلاثة يمكننا أن نستدل بها على أبي حنيفة.
فإن قيل: العلة في جواز النية قبل الزوال أنها حصلت لأكثر النهار.
قيل له: هذه علة مقتصرة لا تتعدى، وعندكم أن العلل المقتصرة، لا تصح، على أنها لو صحت، لقلنا بالعلتين، على أن أصول الصوم تشهد لقياسنا؛ لأنا وجدنا كلما أفسد الصوم، لا ينفصل بين أن يكون قبل الزوال، أو بعده، وهذا مما يمكن أن يجعل قياساً؛ إذ قد ثبت بأن تأخيرها عن الفجر، لا يفسد الصوم، فكذلك تأخيرها عن الزوال قياساً على سائر ما لا يفسد، والرؤية ـ أيضاً ـ تشهد لنا أنَّه لا فصل بين حصولها قبل الزوال وبعده.
وروي نحو قولنا عن علي، وعبد الله، /116/ وحذيفة.
__________
(1) ـ ظن في هامش (ب).
(2) ـ ما بين المعكوفين ساقط من (أ) و (ب).(35/20)


أخبرنا أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا أبو بكرة، قال: حدثنا أبو داود، قال: حدثنا زهير بن معاوية، قال: حدثنا أبو إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله قال: ((متى أصبحت يوماً، فأنت بأحد النظرين، ما لم تطعم، فإن شئت فصم، وإن شئت فافطر)) (1).
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا الطحاوي، عن أبي بكرة، قال: حدثنا أبو داود، قال: حدثنا أبو إسحاق(2)، عن الحارث الأعور، عن علي عليه السلام، مثله(3).
فدل ذلك على قولنا، ألا ترى أنه قال: ((متى أصبحت يوماً))، فاقتضى ذلك شهر رمضان، وغيره، ثم قال: ((ما لم تطعم))، فاستوى في ذلك قبل الزوال، وبعده.
فإن قيل: كيف يجوز أن يحمل ذلك على صوم رمضان، وقد قال: إن شئت فصم، وإن شئت فافطر؟
قيل له: لا يمتنع أن يكون المراد به إن(4) عرض ما يوجب رخصة الإفطار، أو يكون المراد أن الصائم ممكن ما لم يقع الأكل.
وأخبرنا المقرئ، قال: حدثنا الطحاوي، عن ابن مرزوق، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن طلحة بن مصرف، عن سعد بن عبيدة، عن أبي عبد الرحمن أن حذيفة بدا له الصوم بعد ما زالت الشمس فصام. فقد حقق عن حذيفة النية بعد الزوال(5).
مسألة [في وقت وجوب الصوم]
قال: ووجوب الصوم أول طلوع الفجر.
قال: ويستحب التوقي من كل ما يفسد الصوم مع الشك في أول الفجر.
وقد نص على ذلك في (الأحكام) (6).
__________
(1) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 2/56 وفيه فأتت على أحد وكذلك ما لم تطعم أو تشرب.
(2) ـ في (أ): حدثنا إسحاق ونبه على خطأه في الهامش.
(3) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 2/56 وفيه حدثنا أبو داود، قال: حدثنا زهير، قال: حدثنا أبو إسحاق.
(4) ـ في (أ) و (ب): أن الفرض، وما أثبتناه نبه عليه في الهامش.
(5) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 2/56.
(6) ـ انظر الأحكام 1/248 وهو بالمعنى. انظر الأحكام أيضاً 250 وهو بلفظ قريب.(35/21)


أما وجوب الصيام على ما ذكرنا، فمما لا خلاف فيه، إلا ما يحكى عن بعض المتقدمين أنه كان يرى أن وجوبه أول طلوع الشمس، وهذا قول قد قضى الإجماع بسقوطه.
وقد نص القرآن على ذلك حيث يقول تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضِ(1)..} الآية، وقلنا: إنه يستحب التوقي مما يفسد الصوم مع الشك في أول الفجر، للاحتياط، وليسلم صومه، كما استحب لهذه العلة صوم يوم الشك.
مسألة: [في وقت الإفطار]
قال: فأما وقت الإفطار، فأن تغرب الشمس، ويُعرَف ذلك أن يظهر كوكب من كواكب الليل(2).
قال: ويلزم الصيام بالإطاقة، أو الإحتلام، أو بلوغ خمس عشرة سنة، وإنما يكون مطيقاً إذا أطاق صيام ثلاثة أيام(3).
وجميع ذلك منصوص عليه في (الأحكام). لا خلاف أن وقت الإفطار، ووقت المغرب واحد، وقد مضى في باب المواقيت في ذكر وقت المغرب ما يغني عن إعادته.
وعن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه قال: (( إذا أقبل الليل من هاهنا ـ وأشار بأصبعه إلى المشرق ـ فقد أفطر الصائم ))، فنبه بذلك على أن حكم الظلام مراعى. ولا خلاف أن الصوم يجب بالبلوغ، وكذلك جميع الشرائع والعبادات.
وخرَّج أبو العباس الحسني ـ رحمه اللّه ـ قوله: ويلزم بالإطاقة، أنه لزوم التأديب والتعويد(4)، لا على أنه فرض يلزمهم، وحَكى ذلك عن محمد بن يحيى عليهما السلام، وذلك صحيح؛ لأنه حين لم يكلَّف سائر الشرائع والعبادات، لم يجز أن يكلف الصوم.
قال: أما الاحتلام، فلا خلاف فيه أنه بلوغ.
وأما خمس عشرة سنة، فقد اختلف في أنها بلوغ، أو ليس ببلوغ. وسيأتي القول فيه من بعد إن شاء اللّه تعالى.
__________
(1) ـ في (أ): من الخيط الأسود.
(2) ـ انظر الأحكام 1/240.
(3) ـ انظر الأحكام 1/261 إلا أنه لم يذكر الاحتلام.
(4) ـ في (أ): التعويل.(35/22)

4 / 142
ع
En
A+
A-