قال: ثُمَّ أقام بها ـ يعني بمكة ـ ما أقام، فإذا أتى الرحيل أتى الكعبة وطاف بها طواف الوداع. وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (1) و(المنتخب) (2). ذكر أبو العباس الحسني ـ رضي الله /197/ عنه ـ أن على من تركه دماً، فدل ذلك على وجوبه، والأصل فيه: ما رواه هناد، عن عطاء، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((من حج، ليكن آخر عهده بالبيت))،.
وروي أيضاً عن عطاء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (( لا يَصْدُرَنَّ أحدكم حتَّى يكون آخر عهده بالبيت)).
وروى ـ أيضاً ـ هناد ـ بإسناده ـ عن ابن عباس قال: كان الناس ينصرفون على كل وجه، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا ينفر أحدكم حتَّى يكون آخر عهده بالبيت)). فدلت هذه الأخبار على وجوبه؛ لأن الأمر يقتضي الوجوب، وكذلك النَّهي عن الصدر إلاَّ بعد الطواف يدل على وجوبه.
فإن قيل: فليس في الخبر ذكر الطواف.
قيل له: لا خلاف أن المراد به الطواف، على أنَّه لا خلاف في أنَّه ليس عبادة تختص بالبيت إلاَّ الطواف، فثبت أن المراد به الطواف.
مسألة [في الحصى من أين تؤخذ؟ وكيف ترمى؟ وماذا يستحب للرامي؟ وما يلزم من ترك الرمي؟]
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/290 ـ 291 وهو بلفظ قريب.
(2) ـ المنتخب 112 وهو بلفظ قريب.(43/35)
قال: ويستحب للحاج أن يأخذ حصى الرمي من مزدلفة، وأن يغسلها، وإن أخذها من بعض جبال منى وأوديتها، أجزأه، ولا بأس بالرمي راكباً، ويفرق بين الحصى في الرمي، فإن نسي، ورماها مجتمعة، عاد(1)، ولا يجوز الرمي قبل طلوع الفجر، إلاَّ للنساء لضعفهن، ويستحب أن يكون الرمي على الطهر. قال القاسم عليه السلام: والمريض الذي لا يستطيع الرمي يُرمى عنه، ويهريق دماً، ورمي الماشي أفضل. جميعه منصوص عليه في (الأحكام)(2)، وما حكيناه عن القاسم عليه السلام مروي عنه في (الأحكام). وقلنا: أنَّه يستحب أن يؤخذ الحصى من مزدلفة لما: روى ابن أبي(3) شيبة ـ بإسناده ـ عن أبي الزبير، عن جابر قال: لما بلغنا وادي محسر قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((خذوا حصى الجمار من وادي محسر)). وهذا الموضع هو من مزدلفة. وأخبرنا أبو الحسين بن إسماعيل، حدثنا الناصر عليه السلام، حدثنا محمد بن منصور، حدثنا أحمد بن عيسى، عن حسين بن علوان، عن أبي خالد، عن أبي جعفر عليه السلام قال: حصى الجمار قدر أنملة، وكان يستحب أن يؤخذ من مزدلفة. قال أبو خالد: رأيت عبد الله بن الحسن يأخذ الحصى من منى. وقلنا: يجوز أخذ الحصى من جبال منى؛ لأنَّه لا خلاف في ذلك. وقلنا: يجوز أن يرميها راكباً؛ لما روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رمى على راحلته؛ وقلنا: يفرق الحصى وإن رماها مجتمعة أعاد؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رمى بها مفترقة، وقال: ((خذوا عني مناسككم))، ولا خلاف بيننا، وبين أبي حنيفة، والشافعي، ومالك، وأبي ثور، أنَّه إن رمى سبعاً مجتمعات، أعاد منها ستاً، فكذلك السابعة، والمعنى أن الرمي وقع مجتمعاً، فوجب أن لا يُعتد به.
__________
(1) ـ في (أ): أعاد.
(2) ـ انظر الأحكام 1/ 314 ـ 315 ـ 316 وهو بلفظ قريب.
(3) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 3/202 وبإسناده حدثنا أبو بكر حدثنا محبوب القواريري عن عبد الله بن عامر، به.(43/36)
فإن قيل: المأخوذ عليه هو عدد الحصى، وعدد الرمي، فإذا أعاد رمى الست، وجب أن يجزئ رميه الأول عن رمية حصاة واحدة.
قيل له: لسنا نسلم أن المأخوذ عليه ما ذكرتم فقط، بل المأخوذ عليه مع ما ذكرتم /198/ التفريق بين الحصيات، فإن كان هذا هكذا، وجب أن لا يعتد بالرمية الأولى؛ لكون الحصى فيها مجتمعة. وقلنا: إن غير النساء لا يجوز لهم الرمي قبل طلوع الفجر؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا ترموا حتَّى تطلع الشمس)) (1).
أخبرنا أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا محمد بن خزيمة، حدثنا الحجاج قال: حدثنا حماد، حدثنا الحجاج، عن حكم، عن مقسم، عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعثه في الثَّقَل، وقال: ((لا ترموا حتَّى تصبحوا)) (2). وجوزنا ذلك للنساء لما أخبرنا به أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا ربيع المؤذن، حدثنا أسد، حدثنا سعيد بن سالم، عن ابن جريج، أخبرنا عبد الله مولى أسماء بنت أبي بكر أنَّها قالت: ليله جمع، هل غاب القمر؟ قلت: لا، ثُمَّ تمت ساعة، ثُمَّ قالت: يابني، هل غاب القمر؟ قلت: نعم، فارتحلتُا وارتحلنا، ثُمَّ مضينا بها حتَّى رمت الجمرة، ثُمَّ رجعت، فصلت الصبح في منزلها، فقلت لها: لقد غلَّسْنا. فقالت: كلا يا بني، إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أذن للظُعُن.
__________
(1) ـ أخرطه الطحاوي في شرح معاني الآثار 2/217 وسقط فيه حدثنا حماد.
(2) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 2/216 وفيه فصلت ساعة مع اختلاف يسير في اللفظ.(43/37)
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا أحمد بن داود، حدثنا عبيد الله بن محمد(1) التيمي، حدثنا حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن عروة، أن يوم أم سلمة دار إلى يوم النحر، فأمرها النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليلة جمع أن تفيض، فرمت جمرة العقبة، وصلت الفجر. وروي عن ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رخص في نحو من ذلك. وقلنا: يستحب أن يكون الرمي على طهر؛ لأنَّه نسك، فكان كالسعي والوقوف، ووجه ما ذكره القاسم عليه السلام أن المريض يرمى عنه ويهريق دماً أن الرمي لا خلاف فيه أنَّه يجهر بالدم إذا فات، فلما لم يمكنه الرمي، وَفَاتَه، قلنا: أنَّه يهريق لذلك دماً، ولما كان الرمي يصح فيه النيابة استحببنا أن يرمى عنه؛ ليكون الرمي قد حصل ـ أيضاً ـ كما قلنا في المعضوب أن غيره إن حج عنه، كان مستحباً.
ووجه قولنا: أن رمي الماشي أفضل، أن المشي له مسرح في فضيلة الحج، بدلالة ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه أمر من نذرت أن تمشي إلى مكة بالركوب، وأن تهدي لترك المشي.
مسألة [في أفضل أنواع الحج]
__________
(1) ـ في (أ): أحمد. أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 2/218.(43/38)
قال: وأفضل الحج الإفراد لمن حج، ولمن لم يحج. وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (1)، وجدتُ ليحيى عليه السلام لفظة في (الأحكام)(2) تقتضي أن القران أفضل، فاختلف لذلك أصحابنا، وكان أبو العباس الحسني رحمه الله يذهب إلى أن الإفراد أفضَلُ للضَّرُورَة، والقران لمن قد حج. والصحيح على المذهب ما ذكرناه أنَّه صريح قول الهادي عليه السلام؛ ولأن تعليله وتعليل القاسم عليه السلام [يكون] (3) المتمتع أنقص حالاً بوجوب الدم فيه، فوجب أن يكون القران كذلك، ولا يختلف أصحابنا أن المتمتع دونهما. وقال أبو حنيفة وأصحابه: القران أفضل. ومذهب الإمامية، وأكثر أصحاب الحديث، أن المتمتع أفضل، وهو قول الناصر، وقول الشافعي الإفراد أحب إليَّ قد /199/ وذكره المزني، وقد قيل عنه خلاف ذلك أفضل.
ووجه قولنا: أن الإفراد أفضل إن كل عبادة تختص البدن، خيِّر الإنسان بين فعلها، وفعل غيرها من جنسها، كان أفضلهما أكبرهما عملاً، دليله التطوع بإحياء ساعة من الليل، أو ساعتين، والتطوع بصيام يوم، أو يومين، وكذلك لا خلاف أن التطوع قائماً أفضل من التطوع جالساً، فإذا ثبت ذلك، وكان الإفراد بالحج، والإفراد بالعمرة، أكثر عملاً. [كان الإفراد أفضل]
فإن قيل: كيف وأنتم تذهبون إلى أن القارن يطوف طوافين، ويسعى سعيين، والمتمتع لا خلاف أنَّه يطوف ويسعى لعمرته ثُمَّ لحجه؟
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/310 وهو بلفظ قريب.
(2) ـ الذي في الأحكام، ومن أطاق أن يقرن ويسوق معه بدنه فذلك فضل كبير وهو أفضلها للحج.
(3) ـ سقط من (ب).(43/39)