ونص في (الأحكام) أن من دخلها ليلاً، وأصبح بها، يجب عليه دم، إذا كان دخلها أول الليل، فكان تحصيل المذهب أن من حصل أكثر ليلته، أو أكثر نهاره في مكة، يلزمه هدي. ورُوي نحو قولنا عن إبراهيم، رواه ابن أبي شيبة وهناد، عن ابن عياش، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال: من بات دون العقبة أيام منى، فعليه دم(1). والأصل فيه حديث ابن عباس، رواه هناد بإسناده، قال: لم يرخص رسول صلى الله عليه وآله وسلم لأحد أن يبيت ليالي منى بمكة إلاَّ للعباس من أجل السقاية. فدل ذلك على أن المبيت بها نسك. وروى هناد بإسناده عن ابن عمر حين سُئل عن ذلك فقال: أما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فبات بمنى، وظل. وفعله في الحج على [سبيل] (2) الوجوب؛ لما بيناه آنفاً. قال أبو العباس الحسني رحمه الله تعالى: وروى القاسم، عن أبي إدريس، عن الحسين بن عبد الله بن ضميرة، عن أبيه، عن جده، عن علي عليه السلام أنَّه كان ينهى /195/ عن المبيت وراء الجمرة إلى مكة.
وروى ابن أبي شيبة(3) ـ بإسناده ـ عن ابن عباس أنَّه قال: لا يبيتن أحدكم من وراء العقبة ليلاً أيام التشريق.
وروي(4) ـ بإسناده ـ عن ابن عمر، عن عمر، أنَّه كان: ينهى أن يبيت أحد من وراء العقبة، وكان يأمرهم أن يرحلوا إلى منى.
__________
(1) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 3/297 وإسناده، حدثنا أبو بكر، حدثنا أبو بكر بن عياش، عن مغيرة، به، وقال: فليهرق دماً.
(2) ـ سقط من (ب).
(3) ـ أخرجه ابن أبي شبة في المصنف 3/297 وإسناده حدثنا أبو بكر حدثنا ابن فضيل عن ليث عن عطاء، به.
(4) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصن 3/297 وإسناده أبو بكر، حدثنا ابن نمير، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، ولم يذكر فيه عمر.(43/30)


وروى هناد ـ بإسناده ـ عن عمر نحوه، وزاد ((وبعث إلى أناس نزلوا خلف العقبة، فأدخلهم، فإنه كان يبعث رجالاً يدخلون الناس من وراء العقبة، ولا يتركهم يبيتون خلفها)). وكل ذلك يوجب أن المبيت بمنى من النسك الواجب، فإذا ثبت ذلك، فعلى تاركه دم. وأبو حنيفة يذهب إلى أنَّ تاركه مسيء، ولا شيء عليه. وذهب الشافعي إلى أن من بات بغيرها ثلاث ليالٍ، لزمه دم على أن الكون بمنى أقوى من الرمي، ولا خلاف أن من ترك الرمي، يلزمه دم، فوجب أن يلزم تارك المبيت، وإنَّما قلنا: أن الكون بمنى، أقوى من الرمي؛ لأنا وجدنا الرمي في الرابع يتعلق وجوبه بالمقام والمقام لا يتعلق وجوبه بالرمي على وجه من الوجوه، فيصير حكم الرمي بحكم التبع أشبه، فيجب أن يكون المقام أقوى منه في معنى النسك.
مسألة [في وقت وكيفية رمي الجمار الثلاث](43/31)


قال: فإذا عاد إلى منى، نهض في غد يوم النحر متطهراً بعد زوال الشمس، ويحمل معه إحدى وعشرين حصاة حتَّى يأتي الجمرة الَّتِي في وسط منى، وهي أقرب إلى مسجد الخيف، فيرميها بسبع حصيات من بطن الوادي، يهلل، ويكبر مع كل حصاة، ثُمَّ يأتي الجمرة الَّتِي تليها، فيرميها كذلك بسبع حصيات، ثُمَّ يأتي جمرة العقبة، فيرميها كذلك بسبع حصيات، ثُمَّ ينصرف إلى رحله بمنى. ثُمَّ إذا كان من الغد أتى الجمرات بعد زوال الشمس، ورماها بإحدى وعشرين حصاة، كما في اليوم الأول. وهذا منصوص عليه في (الأحكام)(1) و(المنتخب) (2). ونص فيهما على أنَّه يقف ويدعو عند الجمرة الأولى والثانية ولا يقف عند جمرة العقبة. وقلنا: أنَّه ينهض متطهراً؛ لأنَّه مؤدي نسك، واستُحب له أن يكون متطهراً، كما استحب له ذلك عند السعي، والوقوف. وقلنا: أنَّه يفعل ذلك بعد زوال الشمس؛ لأن المروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه فعل ذلك. وروى أبو داود في (السنن) بإسناده عن أبي الزبير قال: سمعت جابر يقول: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يرمي على راحلته يوم النحر ضُحىً، فأما بعد ذلك، فبعد زوال الشمس.
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي(3)، حدثنا يونس، أخبرنا ابن وهب، أخبرني ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رمى جمرة العقبة يوم النحر ضحًى، وما سواها بعد زوال الشمس.
وروى أبو داود ـ بإسناده ـ عن سليمان، عن عمرو بن الأحوص، عن أمه، قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يرمي الجمرة من بطن الوادي، وهو راكب، يكبر مع كل حصاة.
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/288 ـ 289 وهو بلفظ قريب.
(2) ـ انظر المنتخب 111 ـ 112 وهو بلفظ قريب.
(3) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 2/220.(43/32)


وروى أبو داود ـ بإسناده ـ عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكث بمنى ليالي أيام التشريق يرمي الجمار إذا زالت الشمسُ كلَّ جمرة بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة، ويقف عند الأولى، والثانية، فيطيل القيام، ويتضرع، ويرمي الثالثة ولا يقف عندها. وروى ابن أبي شيبة(1) ـ بإسناده ـ عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن /196/ جده، قال: وقف النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند الجمرة الثانية أطول مما وقف عند الجمرة الأولى، ثُمَّ أتى جمرة العقبة، فرماها، ولم يقف عندها.
وفي حديث زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليه السلام، قال: (أيام الرمي: يوم النحر، وهو يوم العاشر، يرمى فيه جمرة العقبة بعد طلوع الشمس بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة، ولا يرمي من الجمار يومئذ غيرها، وثلاثة أيام بعد يوم النحر، يوم الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر، يرمى فيهن الجمار الثلاث(2) بعد الزوال، كل جمرة بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة، ويقف عند الجمرتين، ولا يقف عند جمرة العقبة.
مسألة [في الفقر الأول والثاني]
قال: ثُمَّ إن أحب الرجوع إلى مكة في هذا اليوم، نفر، ورجع إليها بعد زوال الشمس، وبعد الرمي(3).
وقال القاسم عليه السلام: ويترك باقي الحصى، وهو إحدى وعشرون حصاة؛ لأن الحصا كلها سبعون حصاة. وإن أحب الخروج إلى النفر الثاني، أقام إلى الغد، فإذا ارتفع النهار، أتى الجمرات، ورماها بباقي الحصا كما رماها في الأول، والثاني، وعاد إلى مكة.
__________
(1) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في الكتاب المصنف 3/293 وإسناده، حدثنا: أبو بكر حدثنا أبو معاوية، عن حجاج، به.
(2) ـ في (ب): الثلاث الجمار.
(3) ـ انظر الأحكام 1/299 ـ291 وهو بلفظ قريب.(43/33)


جميعه منصوص عليه (الأحكام) و (المنتخب) إلا ما حكياه عن القاسم عليه السلام فإنه منصوص عليه في (مسائل النيروسي)، ومروي عنه في (الأحكام) (1)، ونص في (الأحكام) و(المنتخب) (2) على أنَّه بالخيار إذا نفر في النفر الثاني بين أن يكون رمية ونفره قبل الزوال، وبين أن يكونا بعده. وهو قول أبو حنيفة، وقال أبو يوسف، ومحمد، والشافعي: لا يرمي إلا بعد زوال الشمس. قلنا: أن له أن ينفر في النفر الأول إن شاء، وينفر في الثاني إن شاء؛ لقول الله تعالى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِيْ يَوْمَيَنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ}. وقلنا: إنَّه إن نفر في النفر الأول ترك باقي الحصا؛ لأن الرمي في اليوم الثالث يجب بالمقام، فإذا لم يقم، وخرج في النفر الأول، لم يلزمه الرمي، وإذا لم يلزمه الرمي، لم يكن للحصى حكم، فلذلك قلنا أنَّه يتركها؛ لأن سبيلها سبيل سائر الحصى، وقلنا: أن من نفر في النفر الثاني، إن شاء نفر ورمى قبل الزوال، وإن شاء بعده؛ لأن المقام لما كان موقوفاً على اختياره، جعلنا له الخيار في مقداره، وأيضاً لا خلاف أن من أصبح في منى اليوم الثالث، لم يجز له النفر إلاَّ بعد الرمي، فلولا أن الوقت وقت للرمي، لم يلزمه؛ لكونه فيه بمنى، كما لم يلزمه هذا الرمي إذا أقام في اليوم الأول، والثاني؛ لأنهما ليسا بوقت لهذا الرمي، فأما قبل طلوع الشمس، فلم يستحب لحديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لهم: ((أينىَّ(3) ترموا جمرة العقبة حتَّى تطلع الشمس)). وقد روي عن ابن عباس عنه صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا ترموا حتَّى تصبحوا)).
مسألة [في طواف الوداع]
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/316 وهو بلفظ قريب.
(2) ـ انظر المنتخب 112 وهو بلفظ قريب.
(3) ـ كلمة غامضة أظنها أينىَّ كما أثبتناه. وفي المصنف قال: أبينى.(43/34)

38 / 142
ع
En
A+
A-