قيل له: أما عائشة فقد روي عنها أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم أفرد الحج.
وروى الطحاوي(1) عنها أنَّه تمتع وروى أبو بكر ابن أبي شيبة(2)، عن أبي معاوية، عن حجاج، عن أبي الزبير، عن جابر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قرن بين الحج والعمرة.
وروي نحوه عن عمران بن حصين. فحصل فيما روي عنهما التعارض، فيكون ما روي عن علي عليه السلام وعمر، وأنس، وأبى طلحة، وعمران بن حصين؛ أولى لوجوه: أما على أصلنا فلأن رواية عليه السلام أولى من رواية غيره، كما أن اجتهاده عندنا أولى من اجتهاد غيره، وأما على أصول الجميع، فيجب أن يكون روايته أولى من رواية غيره في هذا الباب؛ إذ لا خلاف أنَّه كان مهلاً بإهلال النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلا بد مِنْ أن يكون يعرف حقيقة إهلاله صلى الله عليه وآله وسلم للإقتداء به، فهذه المزية ليست لغيره ممَّن روى هذا الباب؛ ولأنه نوى لفظه صلى الله عليه وآله وسلم: ((قد سقت، وقرنت))، وفي حديث عمر: ((قل عمرة وحجة)) على أننا يمكننا أن نتأول أخبارهم، فنقول: يجوز أن يكون صلى الله عليه وآله وسلم لبى في بعض الأوقات بالحج فقط، وفي بعضها بالعمرة فقط، وفي بعضها بهما جميعاً، فروَى مَن سمع إهلاله بالحج أنَّه أهلَّ به، ورَوى من سمع إهلاله بالعمرة أنَّه أهل بها متمتعاً، ورَوى من سمع إهلاله بهما أنَّه قرن، فيحصل من ذلك أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم كان قارناً، على أنَّه من روى عنه القران في روايته زيادة، فهي أولى، ألا ترى أن غيره يروي حجة، أو عمرة، وهو يرويهما، فإذا ثبت بما بيناه أنَّه كان قارناً، وأنه صلى الله عليه وآله وسلم أكل من الهدي الذي كان ساقه، ثبت جواز الأكل منه.
__________
(1) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 2/142.
(2) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في الكتاب المصنف 3/289 وزاد فيه وطاف بهما طواف واحد.(43/25)
فإن قيل: فلا إشكال أن الواجب عليه كان /193/، واحداً وأن الباقي كان تطوعاً، فيجوز أن يكون أكل من الباقي.
قيل له: في الحديث أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم أمر أن يُقطع من كل بدنة منها قطعة، ثُمَّ جمعت، وطبخت، وهذا يوجب أن الواجب، والتطوع، في جواز الأكل سواء؛ لأن الواجب لو كان محَّرماً، لحرم الجميع بالخلط؛ لأن وجه الحظر، ووجه الإباحة، إذا اجتمعا، كان الحظر أولى، ولا خلاف أن هدي الأضحية(1) والتطوع يجوز الأكل منهما، فكذلك هدي القارن والمتمتع، والمعنى أنَّه لم يجبر به نقص محظور، ولم يجعله الْمُهدي للفقراء فوجب أن يكون الأكل منه جائزاً، ويعضد قياسنا قول الله تعالى: {وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةٌ وَفَرْشاً} إلى قوله: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجِ}.
فإن قيل فقد قال القاسم عليه السلام، ويحيى عليه السلام، في دم التمتع أنَّه جبران للنقص، فكان ذلك جارياً مجرى الكفارة(2).
قيل له: المراد به أنَّه جبران نقص بزيادة في النسك، وهي إراقة دم؛ لأن إراقة الدم جارية مجرى الكفارات؛ لأن الكفارات في الحج إنما تكون للأمور المحظورة، والقارن، والمتمتع، لم يرتكب محظوراً بالإحرام، ولا أبيح لهما التمتع والقران لحال العذر، فلم يجب أن يكون حكم هديهما حكم هدي سائر الكفارات، بل كانا بالأضحية والتطوع أشبه؛ لأنَّه زيادة نسك. وقلنا: يتصدق ببعضه لقول الله تعالى: {وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيْرَ} وقوله تعالى: {وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَ} ولأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فعل ذلك. وقلنا: إن أولى المساكين من قرب من رحله ومنزله؛ لقول الله تعالى: {وَأَطْعِمُوا القَانِعَ وَالْمُعْتَرَ}، وقد قيل: إن المعتر من يَعترَّ رحلك؛ ولأن الصدقة على من يقرب تكون أولى، ألا ترى أن المستَحب في العشور، والصدقات، ألاَّ يخرج عن بلدهم، وفيهم من يحتاج إليها؟
__________
(1) ـ في (ب): التطوع والأضحية.
(2) ـ في (ب): الكفارات.(43/26)
مسألة [فيما يُحِل به الحاج إحرامه]
قال: ثُمَّ يحلق رأسه، أو يقصر، وقد حل له كل شيء حرم عليه بالإحرام، من الطيب، والثياب، وغيرهما، إلاَّ النساء. وهذا منصوص عليه في (الأحكام)(1) و(المنتخب)(2). قلنا: إنَّه يحلق، أو يقصر بعد الذبح، والنحر؛ لقوله تعالى: {وَلاَ تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} وقوله تعالى: {وَأَطْعِمُوا البَائِسَ الْفَقِيْرَ ثُمَّ لِيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} فقرن(3) قضاء التفث بإراقة الدم ـ دم الهديـ ولأنه لا خلاف في ذلك. وقلنا: يحلق، أو يقصر؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دعا للمحلقين، ثُمَّ دعا للمقصرين بعده(4). وقلنا: قد حل له كل شيء إلاَّ النساء؛ لأن قضاء التفث مما كان مُحرَّماً عليه، كسائر الأشياء، فلما أمر به، علمنا أنَّه قد أحل، وأن سائر الأشياء قد حل له، ولا خلاف في ذلك. وأما النساء فلا خلاف [في] (5) أنَّها لا تحل له حتَّى يطوف طواف النساء.
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا علي بن معبد، حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا الحجاج بن أرطأة، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن عمرة، عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إذا رميتم، وحلقتم، فقد حل لكم الطيب، والثياب، وكل شيء، إلاَّ النساء)) (6). وروى زيد بن علين عن أبيه، عن جده، عن علي عليه السلام نحوه.
مسألة [في وقت العودة إلى مكة للطواف والسعي لمن لم يطف ولم يسعى، وفي وقت وكيفية طواف الزيارة]
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/287، 293 وهو بلفظ قريب.
(2) ـ انظر المنتخب ص 111 وهو بلفظ قريب.
(3) ـ في (ب): قرن.
(4) ـ في (ب): بعده للمقصرين.
(5) ـ ساقطة من (ب).
(6) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 2/228.(43/27)
قال: ثُمَّ يرجع إلى مكة يومه، أو أي يوم شاء من أيام منى، ثُمَّ يدخل المسجد، ويطوف المتمتع، وسعى لحجه(1)، وكذلك القارن /194/ المفرد والمقرر إن لم يكونا طافا، وسعيا للحج، ثُمَّ يطوف طواف الزيارة بعد ذلك كله، مفرداً كان، أو قارناً، أو متمتعاً، وهو الطواف الفرض، ولا يَرمُل فيه، ثُمَّ قد حل له النساء. وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (2) و(المنتخب)(3). وحقق في المنتخب أن وقت الزيارة موسع إلى آخر أيام منى، فيكون وقته أربعة أيام، مثل وقت الرمي. وقال أبو حنيفة: وقته ثلاثة أيام، مثل وقت الأضحية، ونحن نعتبر بالرمي؛ بعلة أنَّه عبادة تختص بالحج، وآخر وقتها في أيام التشريق، فوجب أن يكون أربعة أيام، كوقت الرمي.
ويمكن أن يقاس على التكبير بعلة أنَّها عبادة لا تتعلق بالمال، تختص أيام التشريق، فوجب أن يكون آخر أيام منى من وقته، واعتبارنا بالرجى أولى من اعتبارهما بالأضحية؛ لأن الأضحية لا تختص بالحجج؛ لأن الحاج وغيره فيها سواء، واعتبارنا يفيد شرعاً؛ لأنَّه يجعل اليوم الرابع في حكم ما قبله، في أنَّه وقت للطواف.
ويمكن أن يقاس آخر يوم من أيام منى على أولها، بعلة أنَّه من أيام منى، فوجب أن يكون وقتاً لطواف الزيارة. وقلنا إنَّه إذا دخل المسجد، طاف، وسعى إن كان متمتعاً، أو كان مفرداً، أو قارناً لم يكن طاف عند القدوم؛ لأن طواف القدوم واجب عندنا، وقد دللنا على ذلك فيما مضى، ويجب أن يرمل فيه.
__________
(1) ـ في (أ): لحجته.
(2) ـ انظر الأحكام 1/287، 293 وهو بلفظ قريب.
(3) ـ انظر المنتخب 111 وهو بلفظ قريب.(43/28)
وقلنا: إنَّه يطوف بعد ذلك طواف الزيارة لقول الله تعالى: {ثُمَّ لِيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلِيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلِيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيْقِ}، ولا خلاف في أن المراد به طواف النساء، ولا خلاف ـ أيضاً ـ في أنَّه فرض، ولا يُخير بغيره، ولا خلاف أنَّه لا رمل فيه؛ إذ لا سعي بعده. وقلنا: إنَّه يحل له النساء بعده؛ لأنه لا خلاف فيه، وفي أن جميع أحكام الإحرام تنقطع به، ومن أجل ذلك سُمي طواف النساء. وروى زيد بن علي، عن أبيه، عن جده عليهم السلام، في قوله تعالى: {وَلِيَطَّوَّفُوا بِالْبيت العتيق}، قال: ((هو طواف الزيارة، وهو الطواف الواجب، فإذا طاف الرجل طواف الزيارة، حلَّ له النساء)).
مسألة [في البينونة بمكة أيام منى، هل تجوز؟]
قال: وإذا خرج إلى مكة قبل النفر الأولُ فلَيعُد منها إلى منى، فى يومه، إن دخلها نهاراً، أو ليلته إن دخلها ليلاً، وإن دخلها ليلاً، وأصبح بها، أو دخلها نهاراً، وأمسى بها، وجب عليه دم.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (1) و(المنتخب) (2).
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/287 وهو بلفظ قريب جداً.
(2) ـ انظر المنتخب 111 وهو بلفظ قريب.(43/29)