وقال الشافعي: يجزيه طواف واحد. والأصل فيه قول الله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للهِ} وتمام الحج أن يطاف ويسعى له، وتمام العمرة أن يطاف ويسعى لها، فوجب على من جمع بينهما لكل واحدة منها طواف وسعى بحكم الظاهر، ويدل على ذلك: ما أخبرنا به أبو العباس الحسني ـ رضي الله عنه ـ حدثنا علي بن هارون بن إبان، حدثنا عمر بن أيوب، حدثنا محمد بن بكار بن ريان، عن حفص بن أبي داود، عن ابن أبي ليلى، عن عمرو بن مرة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن علي عليه السلام أنَّه جمع بين الحج والعمرة، فطاف لهما طوافين وسعى سعيين، ثُمَّ قال له: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فعل.
وروى ابن أبي شيبة ـ أيضاً بإسناده ـ عن عمرو بن الأسود، عن الحسين بن علي، عليهما السلام، قال: إذا قرنت بين الحج والعمرة فطف طوافين، واسع سعيين(1).
فإن قيل: فكيف استدللتم بما رويتم عن علي عليه السلام على أنَّه طاف لهما طوافين وسعى سعيين، وقال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فعل، وقد روي(2) أنَّه كان عليه السلام متمتعاً، وروي أنَّه كان مفرداً، فكيف يستقيم لكم هذا الاستدلال؟
قيل له: هو محمول على أحد الوجهين، إما أن يكون صلى الله عليه وآله وسلم دخل مكة قارناً، كما روي فرآه أمير المؤمنين علي عليه السلام يطوف طوافين، ويسعى سعيين، وهذا هو الذي يقتضيه ظاهر الخبر، أو يكون دخل مفرداً، أو متمتعاً فيكون معنى قوله: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فعل، الأمر بذلك، وأي الوجهين ثبت، حصل ما ذهبنا إليه من أن القارن عليه طوافان وسعيان.
فإن قيل: ما أنكرتم على من قال لكم هو محمول على أنَّه تطوع بأحدهما؟
__________
(1) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 3/291 وإسناده حدثا أبو بكر حدثنا حفص بن غياث عن حجاج عن حكم عن عمرو بن الحسن بن علي.
(2) ـ في (أ): وقد روى عليه السلام أنه كان.8(43/10)
قيل له: السعي لا يُتطوع به، فبطل هذا التأويل.
فإن قيل: روي عن نافع، عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((من جمع بين الحج والعمرة، كفاه لهما طواف واحد، وسعي واحد.
قيل له: ذكر الطحاوي(1) أن الحفاظين رووه موقوفاً على ابن عمر، وأن من رفعه، فقد أخطأ، على أنه يحتمل أن يكون مراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم لقوله: ((طواف واحد)) نصفه واحدة إن صح الخبر، وهذا أولى لأن أمير المؤمنين عليه السلام إذا روى خلافه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فهو أولى بالإتباع، أما على أصولنا، فإنا نوجب إتباعه ولا نجيز مخالفته، وأما على أصول مخالفينا، فلأنه كان أحفظ وأشد إيقاناً من ابن عمر، وكان عليه السلام أعرف بأحوال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبمقاصده من ابن /186/ عمر.
فإن قيل: روي عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((طوافك يجزيك لحجك وعمرتك)).
قيل له: إن عائشة لم تكن قارنة، وإنها أفردت الحج، ثُمَّ أفردت العمرة من التنعيم، فكيف يصح ذلك، على أنَّه إن ثبت، كان محمولاً على ما تأولنا عليه خبر ابن عمر، أن المراد به طوافك على صفة واحدة يجزيك لحجك وعمرتك.
ومما يدل على ذلك أنَّه لو أفرد الإحرام لكل واحد لزمه لكل واحد منهما طواف وسعى، فكذلك إذا جمع، والمعنى أنَّه محرم بهما جميعاً، وأيضاً لا خلاف أن الوقوف الواحد بعرفه لا يقع إلاَّ عن حجة فقط، فوجب أن يكون الطواف الواحد كذلك، والمعنى أنَّه ركن من أركان الحج، فوجب أن لا يقع واحده إلاَّ عن حجة فقط.
فإن قيل: هذا يعترضكم في الإحرام؛ لأنَّه إحرام واحد يقع عن الحج والعمرة.
__________
(1) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 2/197.(43/11)
قيل له: لسنا نسلم أنَّه إحرام واحد، بل نقول إنهما إحرامان، أحدهما عن الحج، والآخر عن العمرة، ولهذا نوجب على القارن إذا قتل صيداً جزاءين، على أنَّه لا خلاف أنَّه يحتاج إلى نيتين، نية العمرة ونية الحجة، فبان بذلك أنهما إحرامان؛ لأنَّه لو كان إحراماً واحداً لم يحتج إلى نيتين؛ لأن العبادة الواحدة لا تحتاج إلى نيتين إذا كانت تقع على وجه واحد، فإذا ثبت هذا لم يمكنهم أن يجعلوا الإحرام أصلاً يقيسون عليه الطواف.
فإن قيل: ليس يصير محرماً بهما جميعاً بتلبية واحدة، فهلا دل على أنَّه إحرام واحد؟
قيل له: لا يجب ذلك لأن التلبية ليست هي الموجبة للإحرام ألا ترى أنا نجيز الإحرام بغير التلبية فليس في الإجتزاء بالتلبية دليل على أن الإحرام واحد، بل الاعتبار إنَّما هو بالنية؛ لأن الإحرام لا ينعقد إلاَّ بالنية، وفي إجماع الجميع على أنَّه لا بد من نيتين يبين صحة ما ذهبنا إليه.
فإن قيل: أليس الحلق الواحد يوجب الخروج منهما؟
[قيل له](1): ليس هو من أعمالهما، وفي الخروج لا يمتنع ما يمتنع في العمل، ألا ترى أن الإنسان يصح(2) أن يخرج عن الصيام والصلاة بفعل واحد، وإن كان عمل أحدهما لا ينوب مناب عمل الآخر، يبين ذلك أنَّه لو خرج بغير الحلق، لكان خروجاً منهما، فبان بذلك أنَّه لا يجب أن يكون سبيل الحلق سبيل الطواف والسعي، ومما يزيد قياسنا قوة وترجيحاً أنا وجدنا أفعال الحج لا تتداخل، ألا ترى أن من طاف أسبوعاً بعد إسبوع، لزمه لكل واحد منهما ركعتان؟ ولم تتداخل الصلاة، وكذلك الطواف يجب فيه التكرار، ولا يتداخل، ألا ترى أن أصل الوضوء لما كان موضوعاً على التداخل، كان التكرار فيه غير واجب؟ فدل وجوب التكرار في الطواف على أن موضوعه لا يتداخل، كالصلاة لما وجب تكرير ركعاتها لم نكن موضوعاً على التداخل.
__________
(1) ـ سقط من (أ) و (ب): وظنن عليه في الهامش.
(2) ـ في (ب): قد يصح له.(43/12)
ومما يبين ذلك أيضاً أن طواف الدخول، وطواف النساء، وطواف الوداع، لا يتداخل بل يجب إفراد كل واحد منهما، فوجب أن يكون طواف الحج والعمرة كذلك، وقلنا إنَّه يطوف أولاً، ويسعى، وينوي أنهما لعمرته، ثُمَّ يطوف لحجته، ويسعى؛ لأن عمل العمرة مقدم على عمل الحج؛ لأن كل من أوجب عليه طوافين وسعيين، قال في /187/ ذلك: على ما قلناه، على أنَّه لا خلاف أنَّه يجوز تاخير طواف الحج والسعي إلى حين الإنصراف من منى، ولا يجوز ذلك في طواف العمرة وسعيه، فصح بذلك ما ذهبنا إليه من أن عمل العمرة مقدم على عمل الحج.
مسألة [في تأخير الطواف والسعي]
قال: فإن(1) أحب المفرد تأخير طوافه وسعيه، والقارن تأخير طوافه وسعيه إلى أن ينصرفا من منى، جاز ذلك. وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (2) للمفرد، ودل فيه عليه للقارن. واختلفوا في طواف القدوم، فقال: مالك، وأبو ثور بوجوبه، وقال أبو حنيفة: هو سنة، وليس بواجب، وحكي عن الشافعي أنَّه قال: ليس بنسك، وإنه كالتحية للمسجد.
والدليل على وجوبه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فعَلَه حين قدم، وفعلُه كان بياناً لمحمل لأن قوله تعالى: {وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيْلاً} مجملٌ، مثل قوله: {أَقِيْمُوا الصَّلاةَ} وفعله صلى الله عليه وآله وسلم إذا وقع بياناً لمجمل [واجب](3)، دل على الوجوب، ويدل على ذلك قوله: ((خذوا عني مناسككم)). وفي حديث طارق بن شهاب، عن أبي موسى الأشعري قال: قدمت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو منيخ بالبطحاء فقال: ((بم أهللت))؟ قلت(4): إهلالاً كإهلال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ((أحسنت، طف بالبيت، وبالصفا والمروة)). والأمر يقتضي الوجوب على الفور.
__________
(1) ـ في (ب): وإن.
(2) ـ انظر الأحكام 1/282، 287 وهو بالمعنى.
(3) ـ سقط من (أ).
(4) ـ في (ب): فقلت.(43/13)
فدل ذلك على وجوب طواف القدوم. وفي حديث زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليه السلام قال: أول مناسك الحج أول ما يدخل مكة، يأتي الكعبة، فيمسح(1) بالحجر الأسود، ويكبر، ويذكر الله، ويطوف، فدل ذلك على أنَّه من النسك، على أنه رأي أهل البيت عليهم السلام لا أحفظ فيه بينهم خلافاً، على أنَّه لا خلاف أن المعتمر يلزمه طواف القدوم، فكذلك الحاج، والمعنى أنَّه محرم، فكل محرم يلزمه طواف القدوم، ولا خلاف بيننا وبين أبي حنيفة أنَّه مفعول للإحرام، فوجب أن يكون لازماً، قياساً على طواف العمرة، وعلى طواف الزيارة؛ لأنَّه مفعول للإحرام.
فإن قيل: لو كان طواف القدوم واجباً، لم يسقط عن الحائض؟
قيل له: كذلك نقول إنَّه لا يسقط عن الحائض، وإنَّما يجوز تأخيره كما يجوز تأخير طواف الزيارة، وقياسنا في هذا الباب يقوى بالإيجاب، وبأنه يفيد شرعاً مجدداً، أو بالاحتياط، وبالاستناد إلى فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وفعل الكافة.
فإن قيل: الإحرام لا يوجب سعيين، وقد ثبت وجوب السعي بعد طواف الزيارة، فلا يجب القدوم؛ إذ السعي لا يجب إلاَّ بعد طواف واجب؛ لأنَّه يجب بعد طواف الزيارة، وإن أجيز فعله بعد طواف القدوم.
قيل له: لسنا نُسَلِّم ما ادعيتم من وجوب السعي بعد طواف النسا؛ لأنه يجب عندنا بعد طواف القدوم، فكذلك السعي بعده، على أن إحرام القارن يوجب طوافين وسعيين، فوصف عليهم غير مسلم، قالوا: المكي ليس عليه طواف القدوم، فيجب أن يكون سعيه بعد طواف النسا.
__________
(1) ـ في (ب): فيتمسح.(43/14)