وقلان: إنه إن اعتمر بعد ذلك لم يخرج عن حكم أهل مكة ولم يكن له تمتع لن عقد الإحرام بالعمرة في غير أشهر الحج إذا كان يسقط حكم التمتع الموجب للدم فالاعتمار بعده وهو بمكة لايعيده.
وهذا يدل على أن يحيى عليه السلام يذهب إلى أن أهل مكة لهم أن يتمتعوا، ولكن لادم عليهم، وهو قول الشافعي، وقال أبو حنيفة: يكون من فعل ذلك من أهل مكة مسيئاً، وعليه للإساءة دم.
والذي يدل على ما ذكرناه قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للهِ} وقوله سحانه: {فَمَنْ فَرَضَ فِيْهِنَ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ}، ولم يختص مكياً من غيره، فاقتضى العموم أن لهم أن يحجوا، أو يعتمروا كما لغيرهم ذلك.
وفي حديث زيد بن علي عن أبيه، عن جده، عن علي عليه السلام قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( أيها الناس عليكم بالحج والعمرة، فتابعوا بينهما )) فكان ذلك خطابا طعاماً لجميع الناس، المكي منهم، وغير المكي.
وعن سمرة أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: (( أقيموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وحجوا، واعتمروا )) .
فإن قال: قال اللّه تعالى: {ذَلك لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}.(42/26)
قيل: الخطاب مما يدل على التمتع الموجب للدم، وكذلك نقول أن التمتع الموجب للدم لا يكون لأهل مكة وإنما اختلفنا في التمتع الذي لايوجب الدم وقد قيل في هذا أن قوله ذلك راجع إلى الهدي، دون /180/ التمتع، فإذا قيل لهم: لو كان المراد به الهدي، لقال: ((ذلك على من لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام)) ولم يقل: ((ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام)). قالوا: لايمتنع أن يقال وجوب ذلك لهم، ويراد عليهم، كما يقال وجوب الحج للأغنياء، ولزوم الحج للمطيقين، ونحوه، و ـ أيضاً ـ فإن المكي قياس على غيره في أنه يصح له أن يعقد الإحرام بالحج بعد العمرة في أشهر الحج، بمعنى أنه ممن يصح أن يخاطب بالحج على أن صحة إحرامه لا يخالف فيه أبو حنيفة، وإنما يخالف في أنه يكون مسيئاً، والإساءة لادليل عليها، وهذا القياس يمكن أن يجعل قياساً على نفي الإساءة.
فإن قيل: كيف تقولون ذلك وقد قال يحيى عليه السلام في (الأحكام) (1) بعد هذه المسألة: (وحكمه حكم أهل مكة، وليس هو من المتمتعين)؟.
قيل له: مراده أنه ليس من المتمتعين الذين يلزمهم الهدي، فقد بين ذلك في آخر المسألة.
مسألة: [في الرجل يعتمر ثم يجاوز ميقات بلده، ثم يحرم بعمرة، هل يكون متمتعاً ويلزمه دم؟]
قال: فإن خرج هذا الرجل إلى ميقات بلده، فجاوزه، ثم عاود(2) محرماً بعمرة، أو عاد، وأحرم بها بمكة، أو فيما بين ذلك، صار من المتمتعين، ولزمه الدم. وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (3).
قال أبو حنيفة: لايكون متمتعاً إلا أن يرجع إلى أهله. وقال أبو يوسف، ومحمد مثل قولنا. ووجه ما ذهبنا إليه قول اللّه تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} وهو قد حصلت له العمرة، والحج في أشهر الحج، فاقتضى الظاهر أنه متمتع، وأنه يلزمه الدم.
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/307.
(2) ـ في (أ): عاد.
(3) ـ انظر الأحكام 1/307 ـ 308 وهو بلفظ قريب.(42/27)
ويدل على ذلك قوله تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِيْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}، وهذا أهله غير حاضري المسجد الحرام، فوجب أن يكون متمتعاً، وأن يلزمه الدم، و ـ أيضاً ـ لاخلاف أنه لو لم يكن بمكة، فاعتمر من الميقات في أشهر الحج، ثم حج، لكان حكمه حكم المتمتع، فكذلك وإن حصل بمكة، والعلة أنه اعتمر من الميقات في أشهر الحج، ثم حج سنته، ولايخالفنا أبو حنيفة في أنه لو كان رجع إلى أهله، ثم عاد، لكان متمتعاً، فكذلك إذا جاوز الميقات، ثم عاد، قياساً عليه بعلة أنه قد أنشأ العمرة من الميقات، فاعتبار الميقات في هذا الباب أولى من اعتبار الوطن؛ لأن تأثير الميقات في الحج والعمرة أوكد من تأثير الوطن، فالاعتبار به أولى من الاعتبار بالوطن؛ لأن تعلق أحكام الإحرام به أقوى.
مسألة: [فيمن أهل بعمرة وهو محرم بحجة أو هل تدخل العمرة على الحج؟]
قال: ومن جهل، فأهل بعمرة ـ وهو محرم بحجة ـ رفض العمرة، وقضاها بعد الحج، وعليه لرفضها دم.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (1) و (المنتخب) (2).
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/308 وهو بلفظ قريب.
(2) ـ انظر المنتخب 106 وهو بلفظ قريب.(42/28)
إدخال العمرة على الحج مكروه على ما ذكره يحيى عليه السلام من قوله: ((من جهل فأهل)) وقال أيضاً في آخر هذه المسألة: ((العمرة لاتدخل على الحج)) فلم يكن لهذا الكلام مع تنصيصه على انعقادها وجه إلا الكراهة. فأما مالك فإنه يذهب إلى أنها لا تنعقد، فالذي يدل على أنها تنعقد ما قدمناه من الكلام في الإهلال بحجتين، أو عمرتين من أن الإحرام بهما يصح، وتعذر المضي في إحداهما لايمنع صحة انعقاده، على ما بيناه، ولاخلاف أن إدخال الحج على العمرة صحيح، فوجب أن يصح إدخال العمرة على الحج؛ لأنهما نسكان يصح الجمع بينهما، أو يقال يصح إدخال إحداهما على الأخرى. فأما كونه مكروهاً، فهو مما لا أحفظ فيه خلافاً، ونهيُ عمر عنها بقوله: ((متعتان كانتا على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أنا أنهى عنهما، وأعاقب على فعلهما)) في وفور من الصحابة، ومحضر منهم، يدل على /181/ ذلك؛ لأن إحدى المتعتين المذكورتين هي إدخال العمرة على الحج؛ إذ لاخلاف أن التمتع بالعمرة إلى الحج غير منهي عنه، وإذا ثبت بما بينا أنها تنعقد، فيجب رفضها؛ لأن المهل بالحج، قد لزمته أعمال الحج واستغرقته، ولايصح منه المضي في العمرة.
فإن قيل: أليس القارن تلزمه أعمال الحج، ويلزمه مع ذلك المضي في أعمال العمرة؟(42/29)
قيل له: إن القارن يلزمه أعمال الحج، وأعمال العمرة معاً، فلا تكون أعمال الحج مستحَقة عليه على طريق الانفراد، والتعيين، وليس المهل بالحج كذلك، لأنه مستحق عليه أعمال الحج على الانفراد والتعيين، فلم يجز له المضي في أعمال العمرة على أنه لاخلاف بيننا وبين أبي حنيفة أن المهل بالحج لو طاف، ثم أدخل عليه عمرة، بعد الطواف أنه يلزمه رفضها، فكذلك إذا ادخل عليها قبل الطواف، والمعنى أنه ادخل عمرة على حجة، فكل من أدخل عمرة على حجة، فيجب أن يلزمه رفضها، على أنه لايخالف في أن ذلك يكره، فلو كان سبيل من أدخل العمرة على الحج قبل الطواف على ما ذهب إليه سبيل القارن، لم يكن ذلك مكروهاً، ولم يكن الفاعل له مسيئاً، على أن نهي عمر عن ذلك لايفرق بين إدخال العمرة قبل الطواف، أو بعده، فهو على الحالين فدخل عمرة على حجة، وإذا ثبت ذلك صح ما ذكرناه من أن المضي في عمل العمرة لايصح على الحالين؛ إذ لاوجه للنهي عن ذلك، ألا ترى أن القران الذي يصح معه المضي في عمل العمرة صح، والحج غير مكروه، ولامنهي عنه؟ وإذا ثبت أنه يلزمه رفضها، فلا خلاف في لزوم قضائها؛ لأن العمرة تجب بالدخول فيها بالإجماع، كالحج، وإذا رُفضت، أو فَسدت، لزم قضاؤها، ولا خلاف في لزومه الدم لذلك، ولأنه كالمحصر؛ لأنه ممنوع من المضي فيما دخل فيه فيلزمه دم، كما لزم المحصر.
مسألة: [هي العمرة أيام التشريق](42/30)