وجميعه منصوص عليه في (الأحكام)(1). والأصل فيه أن الإحرام منعقد بالنية، وإن تجردت عن التلبية، كما لا ينعقد [ما قاله الرجل] حاكياً أو قارئاً كتاب المناسك، وإذا ثبت ذلك، وجب فيمن عقد الإحرام بالحج، ناوياً له، ولبى بعمرة غلطاً منه، أن يلزمه الحج؛ لأن النية توجبه على ما بيناه، وسبيله سبيل من عقد الإحرام بالحج بالنية من غير تلبية تقارنه، في أن الحج يلزمه، ويكون سبيل تلبيته سبيل التلبية المجردة عن النية، في أنها لاتوجب إحراماً، فيلزمه ـ على هذا ـ ما نواه من حج، أو عمرة، ولايعتبر باللفظ غلطاً مما خالف عقده، وعلى هذه الطريقة يجري الكلام فيمن أحرم بحجتين ناسياً، وهو ناوٍ لحجة واحدة. وقد كان شيخنا أبو الحسين بن /177/ إسماعيل ـ رضي اللّه عنه ـ يذكر فيه وجهاً آخر، وهو أنه كان يقول: إن العمرة عبارة عن القصد كالحج، ويستدل بقول كُثير عزَّة:
ومعتمرٍ في ركْب عزة لم يكن ... يريد اعتمار البيت إلا اعتمارها
فإذا ثبت أنهما في أصل اللغة عبارتان عن أصل واحد، فأيهما أطلقت، أفادت ما تقارنها النية، وعقدته، كما أنه لو لبى بحجة ناوياً لها، لزمته، وكذلك لو لبى بعمرة ناوياً لها لزمته.
مسألة: [في الإهلال بحجتين عمداً]
قال: ولو أنه أهل بحجتين معاً ذاكراً لهما، وعقد عليهما، كان عليه أن يمضي في إحداهما، ويرفض الثانية إلى السنة المقبلة، ووجب عليه لرفضها دم، وعليه أن يؤدي ما كان رفضه في السنة المقبلة، وكذلك لو أهل بعمرتين معاً، وعقد عليهما، لزمه المضي في إحديهما(2) ورفض الأخرى، ووجب عليه لرفضها دم، وقضى التي رفضها. وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (3).
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/305 ـ 306 وهو بلفظ قريب.
(2) ـ في (أ): إحداهما.
(3) ـ انظر الأحكام 1/305 ـ 306 وهو بلفظ قريب جداً.(42/21)
والدليل على ذلك قول اللّه تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} وهذا قد عقد على نفسه حجتين، فيلزمه الوفاء بهما حسب الإمكان.
فإن قيل: لسنا نسلم أنه قد عقد حجتين.
قيل له: ليس عقدهما بأكثر من أن يحرم ناوياً لهما، مُهِلاً بهما، وهذا مما لاخلاف فيه، وإنما الخلاف في انعقادهما، وإذا ثبت أن العقد قد حصل من جهته، لزمه الوفاء بظاهر الآية.
ويدل على ذلك قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( إنما لامرئٍ ما نوى )) وهذا قد نوى حجتين فيجب أن يكون له حجتان ـ وأيضاً ـ لاخلاف أنه يصح أن يعقد على نفسه الإحرام بحجة وعمرة معاً، فوجب أن يصح منه أن يعقد الإحرام بحجتين، والمعنى أن كل واحدة منهما عبادة تشتمل على الطواف، فوجب أن يصح الجمع بينهما في إحرام واحد، ويقال إن كل واحدة منهما عبادة يجب المضي في فاسدها، فوجب أن يصح الجمع بينهما في إحرام واحد، على أنه إذا صح الجمع بين الحج والعمرة للشَبه الذي بين أفعالهما، كان الأولى أن يصح الجمع بين الحجتين، لأن الشبه بينهما أقوى، وكذلك الجمع بين العمرتين، يبين ذلك أن الجمع بين إحرامي الصلاتين لَمَّا لم يصح، لم يختلف بين أن تكون الصلاتان من جنس واحد، أو من جنسين، فكذلك الجمع بين الإحرامين لما صح، وجب أن لايكون فرقاً بين أن يكونا بجنس واحد، أو بجنسين.
فإن قيل: يصح الجمع بين العمرة والحج؛ لأنه يصح المضي فيهما ولايصح الجمع بين الحجتين ولابين العمرتين لأنه لايصح المضي فيهما.(42/22)
قيل له: تعذر المضي لايمنع صحة العقد ألا ترى أن الإنسان قد يجرم بالحج، وإن علم أنه يتعذر المضي فيه لعذر يصده، أو مرض يصدفه، ومع ذلك يصح العقد، وكذلك لو أحرم بالحج في زمان يعلم أنه لايلحق الحج فيه، ينعقد إحرامه، ولايمنع من صحته تعذر المضي، فيه فإذا ثبت ذلك لم يقدح فيما ذكرنا من انعقاد إحرامه بحجتين أو عمرتين تعذر المضي فيهما، يبين ذلك أن الإنسان قد يتمتع بالعمرة إلى الحج ثم يتعذر عليه المضي لضيق الوقت، ولا يمنع ذلك صحة الإحرام.
فإن قيل: فإنه مندوب إلى الجمع بين الحج والعمرة، وليس بمندوب إلى الجمع بين الحجتين، أو(1) /178/ العمرتين.
قيل له: كونه غير مندوب إلى الجمع بين الحجتين، أو العمرتين، لايمنع ذلك صحة الإحرام بهما عندنا؛ لأنا نذهب إلى أن من أحرم بالحج قبل أشهر الحج، يكون قد فعل مالم يُندب إليه، ويكره له، ومع هذا فإن إحرامه ينعقد بالحج.
فإن قيل: لَمَّا لم يصح أن يكون الوقوف بعرفة عن حجتين، لم يصح أن يكون الإحرام إحراماً بحجتين.
قيل له: الوقوف قد ثبت أنه لايكون في السنة الواحدة إلا بحجة واحدة دون ما سواها، فلم يصح أن يكون بحجة أخرى، والإحرام الواحد يصح أن يكون بحجة وعمرة، فلم يمتنع أن يكون بحجتين.
فإن قاسوا الدخول في حجتين في أنه لايصح، على الدخول في الصلاتين، والصيامين، قُلِب ذلك عليهم بأن يقال لهم: إن الدخول في الصلاتين، والصيامين، لايختلف بين أن تكون الصلاتان من جنس واحد، أو من جنسين، وكذلك الصيامان، فوجب أن لايختلف حكم الإحرام بين أن يكون إحراماً بجنس واحد، وبين أن يكون إحراماً بجنسين ـ وأيضاً ـ لاخلاف أن الإحرام بالحج يوجبه، كالنذر به، فوجب أن يصح وجوب حجتين بالإحرام، كما صح وجوبهما بالنذر، والعلة أن كل واحد منهما يوجب الحج.
فإن قيل: النذر يوجبهما في الذمة، فكذلك(2) جاز أن يجتمع وجوب الحجتين.
__________
(1) ـ في (أ): و.
(2) ـ فلذلك ظ.(42/23)
قيل له: فالدخول أيضاً يوجبهما في الذمة، ثم يمضي في إحداهما بعد الأخرى، كما أنه إذا أوجب على نفسه حجتين، وجبتا، ثم يمضي(1) في إحداهما بعد الأخرى وعلى هذا النحو يجري الكلام في العمرتين فإذا ثبت ما ذكرناه فلا خلاف في أن عليه رفض إحداهما وأنه يجب عليه بعد ذلك قضاؤها، ودم لرفضها، كالمحصر الذي قد رفض ما دخل فيه لتعذر المضي في عمله.
مسألة: [في التلبية عن الأخرس]
قال القاسم عليه السلام في الأخرس الذي لايقدر على التلبية أنه لايجب أن يُلَبَي عنه.
وهذا منصوص عليه في (مسائل النيروسي).
والأصل فيه ما نذكره من بعد مِن أَنَّ تركها لايوجب شيئاً، فإذا ثبت، كان الأخرس أولى أن يكون معذوراً فيه، وأن لا تجب التلبية عنه.
مسألة: [في العمرة أهي للشهر الذي أهل بها فيه، أم للذي تحل فيه؟]
قال: والعمرة تكون للشهر الذي عقدت فيه، دون الشهر الذي يحل منها فيه، فلو اعتمر رجل من بعض البلدان في شهر رمضان، ودخل مكة في شوال، فطاف، وسعى، ورحل، وأقام بها إلى وقت الحج، لم يكن متمتعاً، وكذلك إن اعتمر بعد تلك العمرة، فإن أراد الحج، كان حكمه حكم أهل مكة، ولم يجب عليه دم. جميعه منصوص عليه في (الأحكام) (2)، وروي نحو قولنا عن عطاء، وأبي ثور.
والدليل على أن عقد العمرة إذا كان قبل أشهر الحج، لم يكن تمتعاً، ما روي أن أهل الجاهلية كانوا يرون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور فأنزل اللّه تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} فدل ذلك على أن المراد إيقاع العمرة في أشهر الحج؛ لما فيه من الرد على أهل الجاهلية على ما روي، تقديره: فمن تمتع بالعمرة إلى الحج في أشهر الحج، ومن أوقع الإحرام بالعمرة قبل أشهر الحج، لم يكن موقعاً في أشهر الحج، وإنما يكون موقعاً بعضها فيها، فوجب أن لايلزمه حكم الآية، وأن لايجب عليه دم.
__________
(1) ـ في (أ) مضى.
(2) ـ انظر الأحكام 1/306 ـ 307 وهو بلفظ قريب.(42/24)
وأيضاً لاخلاف أن من استوفى جميع أعمال عمرته قبل أشهر الحج أنه لايكون متمتعاً، فكذلك إذا ابتدأها قبل أشهر الحج، والمعنى أنه عقد /179/ إحرامها قبل أشهر الحج، ـ وأيضاً ـ اليسير من أعمالها لو فعل في أشهر الحج، والأكثر منها فعل قبلها، لم يكن متمتعاً، فكذلك وإن فعل الكثير(1) منها بعد أشهر الحج، والعلة أن بعض عمرته حصل قبل أشهر الحج.
فإن قاسوا من أوقع أكثر أعمال عمرته في أشهر الحج على من أوقع جميعها فيها، بعلة أن أكثر أعمالها في أشهر الحج، لم يصح ذلك، وذلك أن من استوفى جميع الأفعال، لايقال أنه فعل أكثرها، ألا ترى أنه لايقال صام أكثر شهر رمضان لمن صام جميعه، ولايقال: صلى أكثر صلاة يومه لمن صلى جميعها؟ ونظائرها اكثر من أن تعد، فإذا صح ذلك، لم يؤخذ وصفهم في الأصل، على أن قياسهم لو صح، لوجب أن يكون قياسنا أولى، وذلك أنا وجدنا كل زمان كان فيه لانتهاء(2) العمرة حكم، كان فيه لابتدائها مثل ذلك الحكم؛ لأن الأوقات التي تكره فيها العمرة، حكم انتهائه(3) حكم ابتدائها، وكذلك الأوقات التي لاتكره فيها، فإذا ثبت ذلك، فالواجب أن يكون ابتداء العمرة في أشهر الحج.
فإن قيل: التمتع هو الإحلال من العمرة في أشهر الحج، فمتى وقع الإحلال منها، حصل التمتع.
قيل له: [هذا] فاسد، وذلك أنه لو صادف آخر جزء من العمرة آخر شهر رمضان، لم يكن متمتعاً وإن كان الإحلال يقع في شوال، فبان أن الذي ذكروه لامعتبر به، على أنه لايصح لأبي حنيفة من وجه آخر، وهو أن المتمتع(4) عنده ليس من الإحلال في شيء؛ لأنه يذهب إلى أن المتمتع لو ساق هدياً، لم يكن له أن يُحل، ويكون مع ذلك متمتعاً.
__________
(1) ـ في هامش (ب): الأكثر نخ.
(2) ـ في (أ): لابتداء العمرة حكم كان فيه لانتهائنا.
(3) ـ في (أ) وهامش (ب): ابتدائها حكم انتهائها.
(4) ـ في (أ): التمتع.(42/25)