وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((الأعمال بالنيات، وإنما لامرئٍ ما نوى)) فأخبر أن جميع الأعمال بالنيات؛ لأن دخول الألف واللام يقتضي التعميم، إلاَّ ما خص منه الدليل، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إنما لامرئ ما نوى)) دليل على أنَّه إذا لم ينوِ، لم يكن له شيء؛ لأن (إنما) تدخل في الكلام لتفيد ما ذكرناه.
وقوله: ((لا صيام لمن لم يُبَيِّت الصيام من الليل)) يدل على وجوب النية.
فإن قيل: فأنتم تجوزون نية صوم رمضان في بعض النهار، فكيف تعلقتم بهذا الحديث؟
قيل له: هذا الحديث دل على وجوب النية، ونحن بدلالة أخرى أجزناها في بعض النهار، ولو خُلِّينا وظاهر هذا الحديث، كنا لا نجيز الصوم إلاَّ بنية من الليل.
وهو قياس على الصلاة، والزكاة، والحج، والمعنى أنَّه عبادة مقصودة في نفسها، فكل عبادة مقصودة في نفسها يجب أن تكون النية شرطاً في صحتها، على أن الصوم قربة، والقربة لا بد فيها من النية، والأصول تشهد بصحة ذلك.
فإن قيل: قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} يوجب الصيام، وهو الإمساك، فمن أمسك فقد امتثل، وإن لم يكن له نية.
قيل له: لسنا نسلم أن الإمساك المتجرد من النية صوم، والصوم /112/ اسم شرعي منقول عما كان عليه في اللغة، فليس يمكنهم التعلق بما ذكروه.
فإن قيل: إن صوم شهر رمضان يستحق العين، فاكْتُفى باستحقاق عينه عن النية، كرد الوديعة، والغصب.
قيل له: لا يشتبه الأمران؛ لأن رد الوديعة يحصل، وإن لم تكن معه النية، ولسنا نسلم أن الصوم يحصل بغير نية، فلا يمكن لهم رده إلى ما ذكروه؛ لأن الرد حاصل، والصوم غير حاصل، وكذلك الجواب إن سألوا عمن أعتق بغير نية، هذا إن سلمنا أن العتق يقع بغير نية.
المسألة الثانية [في أن القرض لا يؤدي بنية التطوع]
الخلاف في هذه المسألة مع أبي حنيفة وأصحابه؛ لأن الشافعي يوافقنا على أن صوم رمضان لا يؤدَى بنية التطوع.(35/13)


والدليل على ذلك قوله: ((الأعمال بالنيات، وإنما لامرئٍ ما نوى)) فمن نوى التطوع، لم يحصل له الفرض بهذا الظاهر.
فإن قيل: فخبركم يقتضي أن يحصل له النفل.
قيل له: قد منع منه دليل الإجماع، والخبر منع حصول الفرض، فلا يحصل له لا الفرض، ولا النفل، وهو مقيس على قضائه، وعلى الكفارات؛ بعلة أنَّه صوم مفروض، فلا يسقط فرضه بنية التطوع، أو يقال: إنه صوم مفروض، فلا بد من تعيين النية فيه، أو لا بد من نية الفرض، ويقاس ـ أيضاً ـ على الصلاة المفروضة؛ بعلة أنها عبادة على البدن لا يتعلق وجوبها بالمال من شرطها النية، فلا يؤدى فرضها بنية التطوع.
فإن قاسوه على رد الوديعة، ورد الغصب؛ بعلة أنَّه مستحَق العين، كان قياسنا أولى؛ لأنا رددنا العبادات بعضها إلى بعض، وهم ردوا العبادة إلى المعاملة؛ ولأن النية لا تأثير لها في رد الوديعة، ألا ترى أنه لو ردها بغير نية أصلاً، أو ساهياً، لوقع الرد موقعه؟ فنحن رددنا ما للنية فيه تأثير إلى ما للنية فيه تأثيرٌ، وهم ردوا ما للنية فيه تأثير إلى ما لا(1) تأثير فيه للنية، ألا ترى أنهم لا يخالفون في أن الصوم لا بد فيه من النية؟ فبان أن قياسنا أولى من قياسهم ـ وأيضاً ـ قياسنا يقتضي الإيجاب، وما اقتضى الإيجاب أولى مما بقَّاه على الأصل.
فإن قيل: قد ثبت أن من أمسك في غير رمضان بنية الصوم من غير أن ينوي فرضه أو نفله، يكون صائماً، فكذلك(2) من أمسك في رمضان بنية الصوم يجب أن يكون صائماً، صوماً شرعياً، فإذا حصل صائماً، لم يخل صومه من أن يكون تطوعاً، أو عن(3) فرض سوى رمضان، أو عن رمضان، وإذا قد ثبت أنَّه لا يقع تطوعاً، ولا عن فرض غير رمضان، صح أنَّه يقع عن رمضان.
__________
(1) ـ في (أ): للنية نية تأثير.
(2) ـ في (ب): كذلك.
(3) ـ في (أ): عين، وفي (ب): غير مظنن فيهما على ما أثبتناه.(35/14)


قيل له: لسنا نسلم أن من صام رمضان على نحو ما ذكرت يكون صائماً صوماً شرعياً، بل قياسكم الإمساك في رمضان على الحد الذي ذكرتم [على] (1) الإمساك في غير رمضان نقلبه عليكم، فنقول: لا خلاف أن من أمسك في غير رمضان على الحد الذي ذكرتم، لا يكون ذلك واقعاً عن شيء من الفرض، فكذلك إذا أمسك في رمضان على هذا الحد، لا يجب أن يقع شيء من الفرض، وإذا صح ذلك، لم يجب أن يكون صائماً بتة؛ لأنَّه لا خلاف أن الإمساك الذي لا يقع عن فرض رمضان ـ في رمضان ـ لا يكون صياماً، وإذا ثبت هذا، بطل ما بنوا عليه كلامهم في هذا الباب، وإذا بطل أن يكون من ذكرناه صائماً، بطل عامة استدلالهم؛ لأنهم إن استدلوا بقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} منعناهم من ذلك، وإن قالوا: إنَّه أُخذ علينا صيام هذا اليوم، فعلى أي وجه صامه، فقد /113/ امتثله لم يصح ذلك؛ إذ لا نسلم أنَّه صامه، على أن قلبنا القياس عليهم أسعد من ابتداءهم به، وذلك أنا بالقلب ثبتنا مذهبنا من غير واسطة؛ لأنا منعنا به صحة الفرض به، وهم أثبتوا بابتداء قياسهم الفرض بواسطة، وذلك أن قياسهم أفاد أنَّه صائم فقط، ثم تطرقوا بذلك إلى أن قالوا: إذا ثبت كونه صائماً، فلا قول بعد ذلك إلاَّ القول بأنه واقع عن فرضه، ثم الأصول تشهد لنا؛ لأن حكم النية في الأصول أن يكون مطابقاً للمنوي في الوجوب والندب.
المسألة الثالثة [في أن صوم الشك يكون بنية مشروطة]
ذهب أبو حنيفة إلى أن يوم الشك يجب أن يكون بنية شعبان، وعندنا أنه يجب أن ينوي الفرض إن كان من رمضان، والتطوع إن كان من شعبان، وحكي أنَّه مذهب أبي هاشم.
__________
(1) ـ سقط من (أ) و (ب): وظنن عليها في اللهامش.(35/15)


ووجه المسألة أنا قد بينا ـ فيما تقدم ـ أن صوم رمضان لا يجزي بنية التطوع، فإذا ثبت ذلك، وثبت أن يوم الشك يصام احتياطاً لرمضان، وثبت أنَّه لا يجوز قطعاً من رمضان، لم يبق إلاَّ أن يصام على ما ذكرنا، على أنَّه لا خلاف بيننا وبين المستحبين لصيامه أنَّه يصام ويُنْوَى التطوع، وإنما الخلاف في نية الفرض [وقد اتفقنا على أنَّه إذا شهد شاهد واحد بالرؤية، فيجوز أن يُنْوَى الفرض](1)، فكذلك إذا لم يشهد، والمعنى أنَّه يحتاط فيه لرمضان، أو يقاس بهذه العلة على آخر يوم من رمضان إذا شك فيه، وتقوَّى العلة بشهادة الأصول؛ لأن الأصول تشهد أن النية يجب أن تكون في حكم المنوي في الوجوب، والندب، في العبادات التي يقصد إليها نفسها، كالصلاة، والحج، والعمرة، والزكاة، فإذا ثبت ذلك، وثبت أن اليوم يوم مشكوك فيه، [كان صومه مشكوكاً فيه](2)، فوجب أن تكون النية مشروطة.
فصل [هل يجب تجديد النية لكل يوم من رمضان؟]
قول يحيى عليه السلام في صوم يوم الشك: إذا نوى الفرض، يكون قد أدى صومه إن كان من رمضان بما عقد من نيته، إذا تضمن أن أداء الصوم بعقد النية، وجب تجديد النية لكل يوم من رمضان.
وقد حكى ذلك على هذا الوجه أبو العباس الحسني ـ رحمه اللّه ـ في (النصوص). وخالف في ذلك مالك.
ودليلنا الظواهر التي احتججنا بها على زُفَر في إيجاب النية، ونقيس كل يوم من رمضان على أول يوم منه؛ إذ لا خلاف في أن النية تجب له، والمعنى أنَّه صوم يوم منفرد، ونقيس صوم أيام رمضان على صوم أيام الكفارات، والمعنى أنَّه صوم أيام، فوجب أن لا يصح صوم كل يوم إلاَّ بنية تختصه(3).
__________
(1) ـ ما بين المعكوفين ساقط من (أ) و (ب)، وذكره في الهامش عن نسخة القاضي زيد.
(2) ـ ما بين المعكوفين ساقط من (ب).
(3) ـ في (أ): مختصة.(35/16)


ونقيس كل يوم [منه](1) على صلاة منفردة بعلة أنَّه عبادة منفردة، لها حكم يختصها في الصحة والفساد، فوجب أن لا يجزي بغير نية تخصه.
فإن قيل: الشهر كله قياس على صلاة واحدة في أن نية واحدة تجزي فيه؛ والعلة أنَّه عبادة لا يتخللها فرضٌ غيرها من جنسها.
قيل له: هذا منتقض بصيام الظهار؛ لأنَّه لا يتخلله فرضٌ غيره من جنسه، على أن قياسهم لو صح، كان قياسنا أولى؛ لأنه يتضمن الإيجاب، والاحتياط، والأصول تشهد له؛ لأنا وجدنا العبادات المتميزات لا تنوب نية بعضها عن بعض.
مسألة [هل يجزي صيام يوم الشك، أم يلزم القضاء؟]
قال: وإذا صام يوم الشك على ذلك، واتفق كونه من رمضان، لم يلزمه القضاء.
قد نص عليه في (الأحكام) (2) بقوله: (فإذا فعل ذلك فقد أدى صومه). وهو مذهب المزني.
وقال الشافعي: عليه القضاء، وحجتنا قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وهذا قد شهد، وصام، فصار ممتثلاً للظاهر.
ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((وإنما لامرئ ما نوى)) وهو قد /114/ نوى الفرض، فوجب أن يصح له فرضه، وهو قياس على من صام عن رؤية؛ بعلة أنَّه صام، ونوى فرضه، فيجب(3) أن يجزئه، وقياس على الأسير في دار الحرب إذا تحرى، وصام، فوافق ذلك رمضان، أنَّه يجزئ(4)؛ لأنَّه صام رمضان بنية الفرض، وقياس على من زكى [عن] (5) المال، فقال: إن كان سالماً، كان عن فرضه، وإلا فهو تطوع، فكان سالماً، أجزئه، فكذلك ما اختلفنا فيه، والمعنى أنَّه أدى الفرض بنية الفرض، ومضى وقته.
فإن قيل: إنَّه دخل فيه عن(6) غير أصل، فوجب أن لا يجزئه، كمن دخل في الصلاة شاكاً في وقتها، فوافق الوقت، أو توجه شاكاً في القبلة من غير تحرٍ، فوافق القبلة.
__________
(1) ـ سقط من (أ).
(2) ـ انظر الأحكام 1/239.
(3) ـ في (أ): فوجب.
(4) ـ في (أ): يجزئه.
(5) ـ سقط من (أ).
(6) ـ في (أ): من.(35/17)

3 / 142
ع
En
A+
A-