باب القول في الدخول في الحج والعمرة
[مسألة: في بيان أشهر الحج]
لاينبغي للحاج أن يهل بالحج في غير أشهره، وأشهر الحج شوال، وذو القعدة، والعشر الأُوَل من ذي الحجة، ومن أهلَّ بالحج في غير هذه الأشهر، فقد أخطأ، ولزمه ما دخل فيه. وهذا كله منصوص عليه في (الأحكام) (1).
ما ذهبنا إليه من أن أشهر الحج شوال، وذو القعدة، والعشر الأُوَل من ذي الحجة قد رواه أبو العباس الحسني ـ رحمه اللّه ـ بإسناده في (النصوص) عن علي عليه السلام. [و] لاخلاف فيه بين الفقهاء إلا في اليوم العاشر من في الحجة ما فمن الناس من ذهب إلى أنه ليس من أشهر الحج، وجعل آخرها التاسع من ذي الحجة، والصحيح ما ذهبنا إليه؛ لأنه لاخلاف أن ليلة النحر يجوز الوقوف فيها، والوقوف معظم الحج بالإجماع، وطواف الزيارة وقته يوم النحر، فصح بذلك أن اليوم العاشر من ذي الحجة معدود في أشهر الحج، على أن العشر عبارة عن الليالي، ولا إشكال في أن ليلة النحر من أشهر الحج لما بينا.
وقلنا: إن من أهلَّ بالحج قبل أشهره، يكون /168/ قد أخطأ وأساء، لقول اللّه تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٍ} ومعلوم أن المراد به أن وقت الحج أشهر معلومات؛ لأن الحج لايكون أشهراً، وإذا ثبت ذلك، لم تخل أشهر الحج من أن تكون وقت الاختيار للحج، أو وقت الإجزاء، ولايجوز أن يكون وقت الإجزاء؛ إذ قد دل الدليل على أنه يجزي في سائر الشهور، على ما نذكره بعد هذا، فوجب أن يكون ذلك وقت الاختيار، فإذا ثبت أنه وقت الاختيار، كان العدول عنه مكروهاً، كما ثبت أن العدول عن أوقات الصلوات ـ التي هي أوقات الاختيار ـ لغير عذر مكروهٌ، على أني لست اعرف في هذا خلافاً، فلا وجه للاستقصاء فيه.
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/273 كما ذكره فيه ص 4 ـ 3 ـ 305 مفصلاً.(42/1)


ويدل على أن من أهل بالحج قبل أشهر الحج، يلزمه ما دخل فيه قول اللّه تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيْتُ لِلَّنَاسِ وَالْحَجّ} فجعل جميع الأهلة مواقيت للناس، والحج، فوجب أن يصح الإحرام له في جميع الشهور.
فإن قيل: هو مخصوص بقوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٍ}.
قيل له: بل يحتمل قوله: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٍ} على أنها وقت الاختيار، ويجري قوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ} على عمومه.
فإن قيل: كيف صرتم أنتم باستعمالكم أولى منا باستعمالنا؟
قيل له: لأن الآية التي تعلقنا بها حقيقة فيما ادعيناه، ومفيدة له بظاهرها، والآية التي تعلقتم بها لابد من أن يدخل فيها الضمير، ويقدر بوقت الحج أشهر معلومات، فيصير مجازاً، ولايفيد بظاهرها ما ادعيتموه، فكان استعمالنا أولى من استعمالكم؛ لأنا قضينا بما هو حقيقة على المجاز، وأنتم قضيتم بالمجاز على الحقيقة.
فإن قيل: قوله تعالى: {مَوَاقِيْتُ لِلَّنَاسِ وَالْحَجّ} محمول على العمرة؛ لأن العمرة يقال لها الحج.
وروي عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه قال: (( العمرة هي الحجة الصغرى )) فتكون الأهلَّة كلها مواقيت للعمرة.
قيل له: لو ثبت أن العمرة مرادة بالآية، كان حق العموم يقتضي أن تكون الأهلة كلها مواقيت للحج، والعمرة؛ لأن دخول الألف واللام على الحج يقتضي استغراق الجنس، كما اقتضى دخولهما على الأهلة استغراق الجنس، على أن إطلاق الحج يقتضي في عرف الشرع، وعرف اللغة، الحج المعهود، دون العمرة، وإن كان يجوز إطلاقه على العمرة، فلا يجب إذاً أن تكون العمرة مرادة بها؛ إذ الإطلاق لايتناولها.
فإن قيل: فإن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أهل بالحج في أشهر الحج وقال: (( خذوا عني مناسككم )) .(42/2)


قيل له: إنه صلى اللّه عليه وآله وسلم أهل في آخر ذي القعدة، فقد روى أبو داود في السنن ـ بإسناده ـ عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أنها قالت: خرجنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم مراقبين هلال ذي الحجة، فلما كان بذي الحليفة، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( من شاء أن يهل بحجة، فليهل، ومن شاء أن يهل بعمرة، فليهل )) ومع هذا فلا يجب أن يكون الإهلال بالحج في ذي القعدة.
فإن قيل: أجزنا العدول عن هذا الوقت للدلالة التي قلنا.
قلنا: وكذلك أجزنا العدول عن أشهر الحج للدلالة، على أن فعل النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم لايتناول موضع الخلاف؛ لوقوعه في وقت مخصوص من أشهر الحج، فإذاً نحن وأنتم سواء، ونقيس الأهلة التي قبل أشهر الحج على أشهر الحج في جواز /169/ الإهلال بالحج فيها، والعلة أنه زمان يصح أن يهل فيه بالعمرة، ولاخلاف أن من أهل بالحج في أشهر الحج، جاز، فكذلك إذا أهل قبله، والمعنى أنه أحرم بالحج مَن يصح منه عقد الإحرام، فوجب أن يجوز إحرامه به.
فإن قيل: أليس لايجوز الإحرام بالظهر قبل الزوال؛ لأنه إحرام به قبل وقته، فما أنكرتم أن لايجوز الإحرام بالحج قبل أشهره؟(42/3)


قيل له: لسنا نسلم أن قبل أشهر الحج ليس بوقت للحج، فلا يلزم ما سألت، ونظير ما قلنا في ذلك من أحرم للظهر عند اصفرار الشمس لغير عذر، فإنه يكون مسيئاً، ويجزيه، فكذلك من أحرم بالحج قبل أشهره؛ لأنه عدول عن وقت الاختيار، أما قبل الزوال فليس بوقت للظهر على وجه من الوجوه، لا للإحرام، ولا للإختيار، على أنه لاخلاف أن الإحرام بالحج يصح في وقت لايصح أن يؤتى فيه بسائر أفعاله متصلاً به وليس كذلك الصلاة لأنه لايصح أن يفعل إحرامها إلا في وقت يصح أن يفعل فيه سائر أفعاله متصلاً بها، وجميع ما ذكرناه في هذا الباب يحج من زعم أن إحرامه لاينعقد، ويكون وجوده كعدمه، ومن زعم أنه ينعقد، وأنه لايجزي عن الحج، ويتحلل منه بعمل عمرة، على أن من قال أنه يكون للعمرة، فلا معنى لقوله؛ لأنه قد عقد الإحرام للحج، وقد قال صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( وإنما لكل(1) امرئ ما نوى )) ، وقال: (( الأعمال بالنيات )) على أن ذلك الوقت وقت لاينافي الإحرام بالإجماع، لأن المحصَر لو بقي على إحرامه إلى ذلك الوقت، لم يَنفِ ذلك إحرامه بالحج، فإذا صح أن يبقى فيه، صح أن يبتديه فيه.
مسألة: [في ذكر المواقيت]
قال: والمواقيت التي وقَّتَها رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم خمسة، وهي مواقيت لأهل الآفاق، وقَّت لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل العراق ذات عرق، ولأهل نجد قرناً، ولأهل اليمن يلملم، فهذه مواقيت لأهلهن، ولمن أتى عليهن من غير أهلهن، ومن كان منزله أقرب إلى مكة من هذه المواقيت، أحرم من منزله. جميعه منصوص عليه في (الأحكام) (2) إلا ما ذكرناه من حكم من يكون منزله أقرب إلى مكة من هذه المواقيت فإنه منصوص عليه في (المنتخب)(3).
__________
(1) ـ في (أ) و (ب): لامرءٍ ما نوى.
(2) ـ انظر الأحكام 1/273 وهو بلفظ قريب جداً.
(3) ـ انظر المنتخب 95.(42/4)


والأصل فيه ما أخبرنا به أبو العباس الحسني قال: أخبرنا علي بن الحسن بن شيبه المروزي، قال: حدثنا موسى بن عمر بن علي الجرجاني، قال: حدثنا عمر بن يحيى النيسابوري، قال: حدثنا محمد بن جابر، عن أبي إسحاق، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: وقَّت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل العراق ذات عرق، ولأهل اليمن يلملم.
وأخبرنا أبو الحسين البروجردي، قال: حدثنا سفيان بن هارون القاضي، قال: حدثنا الزعفراني، قال: حدثنا سفيان، عن ابن طاووس، عن أبيه، أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وقَّت لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل اليمن يلملم، ولأهل نجد قرناً، وهذه المواقيت لأهلها ولمن أتى عليها من غير أهلها لمن حج(1)، أو اعتمر، ومن كان أهله دون الميقات فمن ثَم ينشئ الحج حتى يأتي مكة، فهذه الأخبار نصوص فيما ذهب إليه يحيى عليه السلام. /170/ وذهبت الإمامية إلى أن ميقات أهل العراق قبل ذات عرق، وذلك لا معنى له، للأخبار التي تقدمت ولما أخبرنا به أبو العباس الحسني رحمه اللّه قال: أخبرنا علي بن الهيثم السعدي، قال: حدثنا سفيان، قال: حدثنا ابن أبي شيبة، قال: حدثنا ابن دكين، عن إسرائيل، عن إبراهيم بن عبدالأعلى، عن سويد بن غفلة، قال: خرجت مع علي عليه السلام، فأحرم من ذات عرق.
مسألة: [في مجاورة الميقات دون إحرام]
قال: ومن جاز بعض هذه المواقيت من غير أن يحرم فيها، وجب عليه أن يرجع إليها، ويحرم فيها، فإن لم يمكنه الرجوع إليها لعذر قاطع، أحرم وراءها قبل أن ينتهي إلى الحرم، ويستحب له أن يهريق دماً؛ لمجاوزة الميقات غير محرم. وهذا منصوص عليه في (المنتخب) (2).
__________
(1) ـ في (ب): اعتمر أو حج.
(2) ـ انظر المنتخب 96 وهو بلفظ قريب، إلا أنه قال: إذا جاوزه متعمداً استحب له أن يهريق دماً.(42/5)

26 / 142
ع
En
A+
A-