أحدهما أن قوله: (( الحج عرفات )) لايخلو من أن يريد به كمال الحج، أو يريد به استكمال الأركان التي لايتم الحج دونها، أو يريد امتناع طرو الفساد على الحج، وقد علمنا أنه صلى اللّه عليه وآله وسلم لم يرد كمال /165/ الحج؛ إذ قد ثبت أن الرمي، والكون بمزدلفة، والبيتوتة بمنى من الحج، فلم يبقَ إلا أن يريد استكمال الأركان التي لايتم الحج دونها، أو يريد امتناع طرو الفساد عليه، وأيَهما أراد صلى اللّه عليه وآله وسلم، ففيه دليل على أن الحج يتم دونه.
والوجه الثاني: قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( من أدرك عرفة قبل الفجر، فقد أدرك )) فجعل الوقوف إلى آخر جزء من الليل مجزئاً، وقد علمنا أن من وقف في ذلك الوقت، لم يلحق المشعر في وقته، فدل ـ أيضاً ـ أن الحج يتم دون الوقوف بالمشعر، ويدل على ذلك: ما أخبرنا به أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا محمد بن خزيمة، قال: حدثنا حجاج، قال: حدثنا حماد، قال: أخبرنا عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة، قالت: ((كانت سودة امرأة ثبطة، ثقيلة، فاستأذنت النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أن تفيض من جمع قبل أن تقف بالمشعر، فأذن لها ولوددت أني كنت استأذنت فأذن لي)) (1) فلما أذن لها في ترك الوقوف بالمشعر، علمنا أن الحج يتم دونه؛ لأن ما لايتم الحج دونه لارخصة في تركه للمعذور، وغير المعذور، ويدل على ذلك أيضاً: ما روى زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قدَّم النساء، والصبيان، وضَعَّفة أهله في السحر، ثم أقام هو حتى وقف بعد الفجر.
فصل: [في الاستدلال على عدم وجوب العمرة]
والذي يدل على أن العمرة غير واجبة [هو]:ـ حديث زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام قال: قيل يارسول اللّه، العمرة واجبة مثل الحج؟ قال: لا. ولكن أن تعتمر خير لك )).
__________
(1) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 2/210 وفيه سورة المرأة.(41/15)
وروى محمد بن المنكدر عن جابر قال: سأل رجل رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم عن الصلاة، والحج، أواجب؟ قال: ((نعم)). وسأله عن العمرة أواجبة هي؟ قال: ((لا، ولأن تعتمر خير لك)).
وروى أبو بكر الجصاص في (شرح المختصر) بإسناده يرفعه إلى طلحة بن عبيدالله أنه سمع النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم يقول: (( الحج جهاد، والعمرة تطوع )) .
وروى ـ أيضاً ـ في هذا الكتاب ـ بإسناده ـ عن ابن عباس قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( الحج جهاد، والعمرة تطوع )) .
وروي في هذا الحديث ـ بإسناده ـ عن أبي صالح مرسلاً عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم، وذكر أنه قد روي عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم.
فإن قيل: روى ابن لهيعة، عن عطاء، عن جابر، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( الحج والعمرة فريضتان واجبتان )).
قيل له: ابن لهيعة قد قيل إنه ضعيف، كثير الخطأ، وما رُوى عن جابر من قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم حين سئل عن العمرة أواجبة قال: لا، أحسن سنداً منه. ويحتمل أن يكون المراد بقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم ـ إن صح الحديث ـ أنهما قد يكونان فريضتين واجبتين بالنذر، على أن أكثر ما في هذا أن يعارض حديثنا حديث جابر، فيسقط ويسلم لنا سائر ما ذكرناه من الأحاديث.
فإن قيل: فقد روي عن سمرة أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: (( أقيموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وحجوا، واعتمروا )) والأمر يدل على الوجوب.
وفي حديث زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( أيها الناس /166/ عليكم بالحج والعمرة )) وذلك أيضاً يقتضي الوجوب.
قيل له: الخبران محمولان على أن المراد بالأمر الندب؛ للأدلة التي ذكرناها. فإن قيل: روي أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم سئل عن الإسلام، فذكر الصلاة، وغيرها، ثم قال: (( وأن تحج، وتعتمر )).(41/16)
قيل له: لايمتنع كثير من العلماء من القول بأن النوافل من جملة الإسلام ولايمتنع ذلك عندنا، ولاحجة للقوم فيه.
فإن قيل: روي عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ((دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة)). فدل ذلك على وجوبها.
قيل له: هذا لأن نستدل به، أولى من أن تستدلوا به؛ لأن المراد أن الحج ينوب عنها، ألا ترى أن أفعال العمرة كلها موجودة في الحج، ولايجوز أن يكون المراد أن العمرة واجبة كالحج؛ لأن ذلك لا يَجعل دخول الحج في العمرة بأولى من دخول العمرة في الحج، يكشف ذلك أنه لايصح أن يقال: دخلت الصلاة في الحج، أو دخل الصيام في الحج، وليس يمتنع أن يقال: دخل الوضوء في الغسل، يُراد به أن الغسل ناب عنه على مذهب من يرى ذلك، ويقال: إن أحد الحدين دخل في الآخر، إذا ناب أحدهما عن صاحبه، وإذا ثبت ذلك، ثبت أن من حج لم تلزمه العمرة، ولاقول بعد ذلك إلا القول بأنها سنة، وليست بواجبة.
فإن قيل: قول اللّه تعالى: {وَأَتِمُوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للهِ} يدل على وجوب العمرة.
قيل له: هو أمر بالإتمام وليس فيه دليل على وجوب الابتداء؛ لأنه يصح أن يقال: أتم الحج النفل، وأتم العمرة النافلة، وأتم الصلاة النافلة، فالأمر بالاتمام لايقتضي إيجاب الابتداء، فتكون الفائدة في ذلك إيجاب الإتمام بالدخول فيهما.
فإن قيل: فالأمر بالشيء يقتضي أنه أمر بما لايصح إلا به والاتمام لا يصح(1) إلا بالابتداء، فالأمر به يتضمن الأمر بالابتداء، فيحصل الابتداء بالعمرة واجباً.
قيل له: هذا كان يجب، لو ثبت أن من لم يدخل في العمرة مخاطب بالإتمام، فأما وذلك لم يثبت، وإنما خاطب من دخل فيها. فلا يجب ما ذكرتم، وهذا كما تقول: أوف بالنذر، أنه يوجب الوفاء إذا تقدم النذر، ولايوجب ابتداء النذر، وإن كان الوفاء بالنذر، لايصح إلا بتقدم النذر.
فإن قيل: ولم قلتم أنه خطاب يختص من دخل فيها؟
__________
(1) ـ في (ب): ولا تمام يصح.(41/17)
قيل له: لأن الظاهر في الأمر بالإتمام أنه لايستعمل إلا فيمن ابتدأ، أو بشرط أن يبتدئ، كما لايقال: أوف بالنذر، إلا لمن نذر، أو مع إضمار ابتداء النذر، فيكون تقديره إذا نذرت، فأوف بالنذر، فعلى أحد هذين الوجهين يجب أن تحمل الآية.
فإن قيل: روي عن ابن مسعود أنه قرأ: {وَأَقِيْمُوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للهِ}.
قيل له: هذه قراءة ليست بمشهورة، فإن صحت حمل على أن المراد بها الندب، كما قلنا فيما روي في معناه عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم؛ للأدلة التي ذكرناها.
فإن قيل: روي أن سراقة بن مالك قال: يارسول اللّه، عمرتنا هذه لعامنا هذا، أم للأبد؟ فقال: (( لو قلت لعامكم لوجبت، ولو وجبت، لم يطيقوها )) ولولا أنها واجبة في الأصل لم يكن لقوله هذا معنى، بل كان يقول: هي غير واجبة في الأصل، وكان لايشك في وجوب تكرارها.
قيل له: المشهور من سؤال سراقة على خلاف هذا، وهو: ما رواه أبو داود في السنن يرفعه إلى عطاء ابن أبي رباح، قال: حدثني جابر، قال: أهللنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بالحج، فقدمنا مكة لأربع خلون من ذي الحجة، فطفنا، وسعينا، فأمرنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أن نُحِل وقال: (( لولا هديي، لحللت )). فقام سراقة فقال: يارسول اللّه، أرأيت متعتنا هذه، لعامنا /167/ هذا، أم للأبد؟ فقال صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( بل هي للأبد )) فلم يكن ذلك سؤالاً عن العمرة وحدها، بل كان سؤالاً عن التمتع بالعمرة إلى الحج، والمراد به السؤال عن الحج، كما روي من سؤال الأقرع بن حابس في غيره، ويحتمل أن يكون بعض الرواة روى ذلك بلفظ العمرة، على أن ظاهر قوله: ((لو قلت لعامكم لوجبت)) يدل على أنها غير واجبة؛ لأن لو في كلام العرب موضوع لنفي الشيء لانتفاء غيره، وإذا كان هذا هكذا، فيحتمل أن يكون المراد به لو حضضت بها لهذا العام، لوجبت ووجب التكرار.(41/18)
ويدل على ذلك من طريق النظر أنها عبادة مبتدأة لم يوقت شيء منها، فوجب أن تكون نفلاً، قياساً على الطواف النفل، واشترطنا كونها مبتدأة؛ لئلا تنتقض بالنذور؛ والكفارات. وقلنا لم يوقت شيء منها؛ لئلا يعترض عليها الإحرام للحج؛ لأنه من الحج، وعامته مؤقتة، ويشهد له سائر الفرائض؛ لأن كل فرض ابتدئ، فلا بد أن يكون مؤقتاً، ويؤكده سائر ما يتطوع به من الصلاة والصيام، لَمَّا لم تكن واجبة، لم تكن مؤقتة.
فصل: [كم مرة يجب الحج؟]
حكى أبو العباس الحسني ـ رحمه اللّه ـ عن القاسم عليه السلام أنه ذكر في مسألة النفي لوجوب العمرة أن الحج يجب مرة واحدة، واستدل بقوله تعالى: {وَلِلَّه عَلَى النَّاسِ حَجُّ الْبِيْتِ مِنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيْلاً} فاقتضى فعل مرة واحدة، وهو صحيح؛ لأن الأمر لا يقتضي التكرار، وإنما يقتضي فعل مرة واحدة؛ لأنه هو المعقول في الشاهد، ألا ترى أن من أمر عبده بفعلٍ، إنما يعقل منه وجوب الفعل مرة واحدة، وليس يجب أن يحمل الأمر على النهي؛ لأن النهي عن الشيء في الشاهد يعقل منه استدامة الانتهاء، ويدل على ذلك: ما رواه ابن عباس ـ رحمه اللّه تعالى ـ عن الأقرع بن حابس، أنه سأل رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم عن الحج فقال: ألعامنا هذا، أم للأبد؟ فقال: (( للأبد، ولو قلت نعم، لوجب )) فدل ذلك على أنه يجب في العمر مرة واحدة.
وروى ابن أبي شيبة ـ بإسناده ـ عن ابن عباس أن الأقرع سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله، الحج في كل عام، أو مرة واحدة؟ فقال: ((لا، بل مرة واحدة، فمن أراد فليتطوع)) وروى أيضاً بإسناده عن أنس عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم نحوه(1).
وفي حديث زيد بن علي عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام، عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم نحوه.
__________
(1) ـ أخرجهما ابن أبي شيبة في المصنف 3/430.(41/19)