قال: ولو أن صبياً بلغ، أو عبداً عتق، أو ذمياً أسلم ليلة عرفة، وأمكنه أن يحرم تلك الليلة بمكة في مسجدها، ثم يلحق بالحجاج، فعل ذلك، إن كان بمكة أحرم فيها، وإن كان في بعض جهات المواقيت، أحرم من موضعه، وكذلك إن كان بمنى، أو عرفات، رجع إلى مكة إن أمكنه ذلك، فإن لم يمكنه، أحرم من موضعه، وكذلك لو كان ذلك يوم عرفة، أو ليلة النحر، أجزأهم بعد أن يلحقوا الموقف قبل طلوع الفجر من يوم النحر.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (1).
والأصل فيه أن الحج يدرَك بإدراك الموقف بعرفة قبل طلوع الفجر من يوم النحر على ما نبينه في موضعه، فإذا أحرم هؤلاء، ثم لحقوا الموقف، فقد أدركوا الحج.
واستحب لهم الرجوع إلى مكة من منى وعرفات، وابتداء الإحرام منها؛ لتكون الحجة مكية ،فإنها أقل ما جرت به السنة لأهل الأمصار، وهي حجة المتمتع، فإن تعذر ذلك، أجزى الإحرام من سائر المواضع بعد أن يلحقوا الموقف.
وذكر أبو العباس الحسني أن الذمي والصبي يجددان الإحرَام ـ إن أسلم الذمي، أو بلغ الصبي ـ لأن إحرامهما ليس بإحرام، وأما العبد فإن كان أحرم، ثم عتق، مضى في حجته، فإن إحرامه منعقد، ولم يجزه عن حجة الإسلام؛ لأنه وقع مع الرق، فجرى مجرى أن يقع كمال الحج مع الرق في أنه لايجزئه عن حجة الإسلام بعلة أن كمال الحج لم يحصل في حال الحرية.
مسألة: [في فرض الحج عن الشيخ والعجوز وهل يصح الحج عنهما؟]
قال القاسم عليه السلام: (فرض الحج زائل عن الشيخ الكبير، والعجوز اللذين لايثبتان على الدابة والراحلة، فلا يقدران [أن] يسافَر بهما في محمل؛ لأنهما للحج غير مستطيعَين، فإن حجا عن أنفسهما، أو حج عنهما أحد، فحسن)(2). وهذا منصوص عليه في (مسائل النيروسي)، ورواه يحيى في (الأحكام) (3).
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/303 ـ 304.
(2) ـ ما بين القوسين في الأحكام.
(3) ـ انظر الأحكام 1/313.(41/10)
والأصل فيه أن الصحة شرط في وجوب الحج لقوله تعالى: {وَلِلَّه عَلَى النَّاسِ حَجُّ الْبِيْتِ مِنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيْلاً} ومن يكون مفارقاً لحال الصحة بحيث لايثبت على الراحلة، لايكون مستطيعاً، فوجب أن لايلزمه الحج.
فإن قيل: فإن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فسر الاستطاعة بالزاد والراحلة.
قيل له: كونهما مرادين بالآية لايمنع كون الصحة مرادة بها.
فإن قيل: فقد قلتم أن قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم جرى مجرى البيان لها، فلايجب أن يكون مقصوراً على بعض المراد.
قيل له: إذا كان الإشكال حصل في بعض المراد، فلايمتنع أن يكون البيان بياناً له، وكون الصحة من جملة الاستطاعة مما لايقع فيه إشكال، إذ هو معلوم من طريقة /163/ اللغة، والعرف، فكأنه قصد صلى اللّه عليه وآله وسلم إلى بيان ما أشكل، دون ما ظهر واتضح.
فإن قيل: من يمكنه فعل الشيء بغيره لايمتنع أن يقال أنه مستطيع له، ألا ترى أن القائل يقول فلان يستطيع البناء، وهو يريد أنه يستطيعه بغيره؟
قيل له: هذا ضرب من المجاز، والمجاز لا يُثبت مراداً إلا بالدليل، ويدل على ذلك قول اللّه تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} والوسع هو الطاقة، فمن لم يطق الحج، لم يجز أن يكلَّفه.
ويدل على ذلك ما رواه ابن عباس أن امرأة من خثعم قالت: يارسول اللّه، إن فريضة اللّه سبحانه في الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً لايستطيع أن يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: نعم. فدل ذلك على أن الحج لم يجب عليه، إذ لو وجب عليه، لم يجز أن تحج هي عنه، وإجازته صلى اللّه عليه وآله وسلم لها أن تحج عنه دليل على أنه لم يجب عليه.
فإن قيل: ففي هذا الخبر ما يدل على أن الحج وجب عليه، وهو أنها لما قالت فريضة اللّه على عباده أدركت أبي شيخاً كبيراً لايستطيع أن يثبت على الراحلة، فلم ينكر النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قولها وقارَّها فدل ذلك على وجوب الحج عليه.(41/11)
قيل له: يجوز أن تكون أرادت الحال التي معها يجب الحج أدركت، كما تقول الحائض أدركتنا الصلاة في موضع كذا، ومرادها وقت الصلاة، وأن يكون النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم عرف ذلك من مرادها، فلم ينكر عليها.
فإن قيل: فهذا صرف لكلامها عن ظاهره.
قيل له: لايمتنع من ذلك للأدلة التي قدمناها، على أن كلامها لا ظاهر له؛ لأنها قالت: فريضة اللّه على عباده في الحج أدركت أبي، ومن فريضة اللّه في الحج، أمور مخصوصة من جملة الحج وقد علمنا أنه لايصح أن يقال أنها أدركته، ولاكانت تلك مرادها، فلا بد من التأويل لما ذكرناه، ولاخلاف أن القوي إذا لم يجد الزاد والراحلة، لم يلزمه الحج، فكذلك إذا عدم الصحة، والمعنى أنه عادم كمال الاستطاعة، فوجب أن لايلزمه الحج، وأيضاً لاخلاف أن الصبي والمجنون لاحج في مالهما، فكذلك من لايستقر على الراحلة، والعلة أنه لايلزم الحج في نفسه، وكل من لم يلزمه الحج في نفسه، لم يلزمه في ماله، وليس لأحد أن يقول إن الصبي والمجنون لما سقط عنهما التكليف جملة، سقط الحج، فلا يكون لعلتكم تأثير، وذلك أنه متعلق بأموالهما الحقوقُ، فهذا الحق ـ أعني وجوب الحج ـ لم يسقط عنهما إلا لأنه لم يلزمهما في أنفسهما، واستحسن أن يحج عن نفسه، أو يحج عنه غيره؛ لأن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أذن للخثعمية أن تحج عن أبيها بعدما ذكرت حاله.
مسألة: [في فروض الحج التي لا بدل لها، ماهي؟]
قال: وفروض الحج التي لابدل لها الإحرام، والوقوف بعرفة، وطواف الزيارة.
نص في (الأحكام) (1) على أن الدخول في الحج هو الإحرام فلا يكون داخلاً فيه بغير الإحرام. ونص في (الأحكام) (2) و(المنتخب) (3) على أن من فاته الوقوف بعرفة، بطلت حجته.
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/273 وهو بلفظ قريب.
(2) ـ انظر الأحكام 1/295 وهو بالمعنى.
(3) ـ انظر المنتخب 105 وهو بالمعنى.(41/12)
ونص في (الأحكام) (1) على أن من فاته طواف الزيارة وخرج لزمه الرجوع له وأنه في حكم المحصر حتى يرجع ويطوف. فهذه النصوص تفيد الجملة التي ذكرناها، وهذه الجملة لاخلاف فيها، لأنه لاخلاف أن من قضى نسكه غير محرم، لايكون حاجاً، وكذلك لاخلاف أن من فاته الوقوف بعرفة، بطل /164/ حجه وأنه لايجبر بغيره إلا شيئاً. يحكى عن بعض الإمامية أن الوقوف بالمشعر يجزئ، والإجماع يحجهم، وكذلك قول النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( الحج عرفة )) .
وروى أبو الحسن الكرخي في (المختصر) ـ بإسناده ـ يرفعه إلى عبد الرحمن بن يعمر الديلي، قال: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يقول: (( الحج عرفات، الحج عرفات ـ ثلاثاً ـ فمن أدرك عرفة قبل طلوع الفجر فقد أدرك)) .
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: حدثنا ابن وهب، قال: حدثنا شعبة، عن ابن أبي السفر، وإسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي، قال: سمعت عروة بن مُضَرِّس بن أويس الطائي، يقول: أتيت النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بالمزدلفة فقلت: يارسول اللّه، جئت من طيء، ووالله ما جئت حتى أتعبت نفسي، وأنضيت راحلتي، وما تركت جبلاً من الجبال إلا وقفت عليه فهل لي من حج؟ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( من شهد معنا هذه الصلاة ـ صلاة الفجر ـ بمزدلفة وقد كان وقف بعرفة ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه وقضى تفثه ))(2) .
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/327 وهو بلفظ قريب.
(2) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 2/207 ـ 208 ولكنه قال: ((يا رسول الله، هل لي من حج وقد أنضيت راحلتي)) أما هذا الحديث المذكور فذكره بسند آخر في نفس الصفحة فليرجع إليه.(41/13)
وروى ابن أبي شيبة ـ بإسناده ـ عن عطاء أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: (( من أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر، فقد أدرك الحج، ومن فاتته عرفة فاته الحج )) (1).
على أن الإمامية رووا أنه لايجوز الوقوف بعرفة عند الأراك، ورووا أن أصحاب الأراك لاحج لهم، فإذا كان العدول في الوقوف بعرفة من موضع إلى موضع يبطل الحج، فالأولى أن يبطل حج من لم يقف أصلاً.
وكذلك لا خلاف أن طواف الزيارة لايجبر بدم، وأن الإتيان به واجب، ويدل على ذلك قول اللّه تعالى: {لِيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلِيَطَّوَّفُوا بِالْبِيْتِ الْعَتِيْقِ}.
وقد اختلف في غير ما ذكرنا هل له جبر إذا فات؟ وعند يحيى ما عدا هذه الثلاثة يُجبر، وسنذكر ما يجب في ذلك في مواضعه.
مسألة: [في حكم الوقوف بالمشعر الحرام، والعمرة]
وأشار القاسم إلى وجوب الوقوف بالمشعر الحرام، وإلى أن العمرة غير واجبة.
المسئلتان على ما ذكرناه مذكورتان في (مسائل النيروسي).
وإذا قلنا بوجوب الوقوف بالمشعر، فلسنا نريد أن الحج يفوت بفواته كالوقوف بعرفة، وإنما المراد أنه يجب وجوب الرمي، والبيتوتة بمنى، ونحوه، والذي يدل على ذلك قول اللّه تعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ}، والذكر هناك لايكون إلا مع الكون فيه.
ويدل على ذلك أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وقف فيه وقال: (( خذوا عني مناسككم )). وقال صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( من شهد معنا هذه الصلاة ـ صلاة الفجر ـ بالمزدلفة، وقد كان وقف بعرفة ليلاً، أو نهاراً، فقد تم حجه )) .
فأما ما يدل على أن الحج يتم دونه، فقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( الحج عرفات، فمن أدرك عرفة قبل الفجر، فقد أدرك الحج )) ، وفيه دليل من وجهين:
__________
(1) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في الكتاب المصنف 3/225، وإسناده حدثنا أبو بكر، حدثا حفص بن غياث، عن ابن أبي ليلى، وابن جريح، به.(41/14)