قيل له: ليس فيه إيجاب الحج بغير الزاد والراحلة على الإطلاق، وإنما أخبر تعالى أنهم يأتون رجالاً، وليس في الآية أن ذلك واجب عليهم، على أنه يحتمل أن يكون المراد أن من قَرُب من مكة يأتي راجلاً، فأما من كان من الفجاج العميقة، فإنه يأتي راكباً، وهذا نص مذهبنا، ولاخلاف أن من أمكنه المشي الضعيف، وإن كان يصل به إلى مكة بزمان طويل، ومشقة شديدة، لايلزمه الحج إذا عدم الزاد والراحلة، فكذلك من أمكنه المشي القوي، والعلة أنه قَطْع مسافة بعيدة لقضاء نسك الحج، والراحلة قياس على الزاد، والعلة أنها بعض استطاعة الحج، وقياسنا أولى من قياسهم أهلَ الفجاج العميقة على سكان الحرم بعلة أنه مستطيع لقوَّته؛ لأن قياسنا مستند إلى قوله تعالى: {وَعَلَى كِلِّ ضَامِرٍ يَأَتِيْنَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيْقٍ} وإلى /160/ قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( هي الزاد، والراحلة )) لأن القول بخلافه يؤدي إلى أن لايتعلق الحج بالزاد والراحلة إلا لمن لايستطيع الحج بنفسه؛ لأن كل من استطاع الحج بنفسه أمكنه المشي إلى مكة، ولو بزمان بعيد، وهذا خلاف الإجماع، على أن موضوع العبادات على غير الحرج، وإلزام ما فيه المشقة العظيمة، ألا ترى أن المريض، والمسافر أبيح لهما الإفطار، وكذلك المريض أبيح له ترك القيام إلى القعود في الصلاة، والمسافر وُضع عنه بعض الصلاة، فوجب أن يكون سبيل الحج هذه السبيل.
فأما الأمان على النفس، فإنه شرط في الحج. قال اللّه تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيْكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} والأمر يبنى على غالب الأحوال، فإذا كانت الحال حالاً يغلب معها التلف، لم يكن معها للسلامة المجوزة حكم [سقط وجوب الحج] (1).
__________
(1) ـ ما بين المعكوفين زيادة لتوضيح المعنى.(41/5)
قال أبو العباس الحسني رضي اللّه عنه: والبحر فيه كالبر، وحكى عن محمد بن يحيى عليه السلام أنه احتج بقوله تعالى: {هُوَ الَّذِيْ يُسَيِّرُكُمْ فِيْ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ}، وقوله تعالى: {وَالْفُلْكُ تَجْرِي فِيْ الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ}، والاعتبار فيه بغالب الأحوال في السلامة والهلاك كما بيناه في البر، وأما صحة البدن، فسنذكر فيها ما يجب في مسألة من لايستقر على الراحلة.
مسألة: [في حكم تأخير الحد إذا وجب، وهل يقتص الأمر القوي أم التراخي]
ولا يجوز تأخير الحج لمن يجب عليه، إلا لعذر مانع. وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (1).
والأصل فيه قول اللّه تعالى: {وَلله عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيْلاً} فأوجب الحج، وتوعد على تركه.
وأخبرنا أبو الحسين بن إسماعيل، قال: حدثنا الناصر، قال: حدثنا محمد بن منصور، قال: حدثنا أحمد بن عيسى، عن حسين بن علوان، عن أبي خالد، عن زيد بن علي، عن أبيه، عن آبائه، عن علي عليهم السلام، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( من أراد دنيا وآخرة، فليؤم هذا البيت، أيها الناس عليكم بالحج والعمرة، فتابعوا بينهما )) .
وأخبرنا أبو الحسين البروجردي، قال: حدثنا أبو بكر محمد بن عمر الدينوري، قال: حدثنا عبد اللّه بن أحمد بن أبي مرة، قال: حدثنا عثمان بن اليمان، عن زمعة بن صالح، عن ابن طاووس، قال: سمعت عكرمة بن خالد يحدث طاووساً، أنه سمع عبد اللّه بن عمرو بن العاص يحدث عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: ((بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لاإله إلا اللّه، وأن محمداً رسول اللّه، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم شهر رمضان )) .
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/312 وهو بلفظ قريب.(41/6)
وروي عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه قال: (( حجوا قبل أن لاتحجوا )) فكل ذلك يدل على الأمر به، والإيجاب والأمر يقتضي الفور، فوجب ألا يجوز تأخير الحج. فإن قيل: فلم قلتم أن الأمر على الفور، والبدار دون أن تقولوا على التراخي؟
قيل له: لأن الأمر قد ثبت أنه يقتضي الإيجاب، فلو قلنا: إن للمأمور أن يفعل المأمور به، وأن لايفعل، وجعلنا له التخيير بين فعله وتركه عقيب الأمر، كنا قد أخرجناه من أن يكون واجباً، وألحقناه بالمباح، أو النفل، وفي هذا إن ورد الأمر وأن لايرد سواء في أنه لايقتضي الإيجاب، وفي هذا صرف الأمر عن جهته، وفساد ذلك يقتضي أن الأمر يقتضي البدار.
فإن قيل: ما أنكرتم أن يكون الأمر لايقتضي تعجيل فعل المأمور به، ومع هذا لايجب أن يصير في حكم الإباحة، ولا في حكم الندب؟
قيل له: لأن المباح هو ما يكون الإنسان مخيراً بين أن يفعله، وأن لايفعله على الإطلاق، ونحن نخير المأمور بالفعل بين أن يفعله، وأن لايفعله في ذلك الوقت.
قيل له: لو قلنا إن له تركه إلى وقت آخر، لخيرناه في ذلك الوقت بين فعله وتركه، فقد أخرجناه عن أن يكون ذلك واجباً عليه، وهذا هو صورة المباح في ذلك الوقت.
فإن قيل: ما أنكرتم على من قال /161/ لكم أنه لايكون بصورة المباح، ولا النفل؛ لأن المأمور مخير بين فعله، وفعل بدله في ذلك الوقت ـ وهو العزم على فعله في الثاني، أو ما بعده ـ كما يقولون إن كفارات اليمين تكون واجبة على البدل.
قيل له: إنما قلنا في كفارات اليمين أنها واجبة على البدل؛ لأن النص ورد به، وههنا لاسبيل إلى إثبات العزم بدلاً منه؛ لأن السمع لم يرد به، وإذا لم يجز إثباته بدلاً منه عاد(1) الأمر إلى ما قلناه بدئاً من أن الواجب يصير بصفة المباح، أو المندوب.
فإن قيل: إنه لايصير بصفة المباح لأن المباح هو ما يستوي فعله وتركه ونحن لانقول ذلك في المأمور به عقيب الأمر بل نقول إنه إذا فعله استحق الثواب.
__________
(1) ـ في (ب): أعاد.(41/7)
قيل له: كان غرضنا أن نبين أن الفعل المأمور به على أوضاعكم خارج عن حد الوجوب، ولم يكن الغرض أن يثبت أنه على التحقيق يكون مباحاً، وأكثر ما في هذا الذي أوردتموه أن يكون بصورة التطوع، وهذا لايعصمه من فساد مذهبكم.
فإن قيل: ما أنكرتم على من قال لكم إن الواجب على ضربين: مخير فيه، ومضيق، فإذا ثبت ذلك، احتاج التضيق إلى الدليل؟
قيل له: قد قدمنا نحن في دليلنا أن الإيجاب يقتضي التضييق، فصار التخيير هو المفتقر إلى الدليل، على أن التخيير إذا احتاج إلى إثبات وجود بدل لم يقتضه لفظ الإيجاب، يكون أولى بالافتقار إلى الدليل من التضييق الذي لايقتضي إلا إيجاب ما أوجبه اللفظ.
ومما يدل على أن وجوب الحج على التضييق ما روي عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه قال: (( من مات، ولم يحج، مات ميتة جاهلية )) ، وفي بعض الأخبار: (( فليمت إن شاء يهودياً، أو نصرانياً )) فثبت بذلك أنه يكون عاصياً إذا مات، ولم يحج، فليس يخلو كونه عاصياً من أحد أمرين، إما أن يكون بالموت، وذلك لايجوز؛ لأنه فعل اللّه في العبد، والعبد لايجوز أن يصير عاصياً بفعل اللّه تعالى، أو يكون عاصياً بالتأخير، فلما لم يجز أن يصير عاصياً بالموت، لم يبقَ إلا أن يكون عاصياً بالتأخير، وهذا يقتضي إيجابه.
فإن قيل: روي عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه أمر مناديه بأن ينادي أَلا إن رسول اللّه حاج، فمن أراد الحج، فليحج، فعلقه بالإرادة، فدل ذلك على جواز التأخير.
قيل له: لايمتنع أن يكون المراد به من أراد الحج لوجوبه، وتعليقه بالإرادة لايمنع تضيق الوجوب، كما لايمنع الوجوب.
فإن قيل: لو كان وجوب الحج مضيقاً، لم يؤخره النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم إلى سنة عشر، وفي تأخيره وتأخير أصحابه إياه دليل على أن وجوبه على التخيير.(41/8)
قيل له: هذا لو ثبت أنه صلى اللّه عليه وآله وسلم أخره لا لعذر، فأما إذا لم يثبت، ذلك فلا يصح ما ادعيتموه؛ لأنا لانمنع من جواز تأخيره لعذر، وليس علينا أن نعرف عذره صلى اللّه عليه وآله وسلم، على أنه يحتمل أن يكون وجه العذر ما علم من الصلاح في مقامه في المدينة؛ لإظهار كلمة الحق، ودعاء ما حولها، ويجوز أن يكون غير ذلك.
وقد قيل: إنه امتنع من الحج لأن المشركين كانوا يطوفون عراة، فلم يجز أن يراهم على تلك الحال، فامتنع لذلك، وجملة الأمر أن معرفة العذر بعينه لايجب علينا، ويكفي أن يكون ذلك مجوَّزاً.
فإن قيل: فإن المسلمين يتركون النكير على من أخره لغير عذر، فكان ذلك جارياً مجرى الاتفاق بينهم على جواز تأخيره.
قيل له: ترك النكير يجوز أن يكون لأنهم لايعرفون أن من أخره، أخره لغير عذر، ويجوز أن يكون لأن المسألة فيها للاجتهاد، مسرح وما /162/ جرى هذا المجرى فلا يجب النكير، فيه على أن المسلمين قد تركوا النكير على أكثر المنكرات لا لرضى، بل لمعاذير يطول ذكرها، فهذا كان دأبهم مذ قبض النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم إلى يومنا هذا.
وهو قياس على الصيام؛ لأنه عبادة للمال فيها مدخل، وعلى الزكوات بعلة أنها عبادة يتعلق فرضها بالمال، فوجب أن لايجوز تأخيره عن وقت وجوبه مع القدرة عليه، وزوال العذر، وهذا القياس أولى من قياسهم جواز تأخير الخروج إلى مدة يمكن فيها لحوق الحج؛ لأن هذا ليس بتأخير للحج على التحقيق، على أن قياسنا يتضمن الحظر، فهو أولى، وفيه الاحتياط، والمسارعة إلى أداء الواجب، واستناد إلى قوله تعالى: {سَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} وقوله: {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ}.
مسألة: [في الصبي يبلغ، والعبد يعتق، والذمي يسلم، ليلة عرفة](41/9)