والأصل في ذلك قوله تعالى: {وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ..} الآية(1)، فكانت المباشرة التي أريدت بالآية هي المباشرة التي يفسد الصيام؛ لقوله تعالى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ}؛ لأن ما عداها من المباشرة التي لا تفسد الصوم مباح له بعد الفجر، ولأن ذلك مما لا خلاف فيه، فبان بما ذكرناه من الإجماعُ ومقتضى الآية، أن الإباحة ليلاً كانت للمباشرة للصوم، قال تعالى بعد ذلك عاطفاً: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِيْ الْمَسَاجِدِ} فمنع المعتكف ما كان سبحانه أباح للصائم ليلاً من المباشرة، فكانت المباشرة المحظورة على المعتكف هي المباشرة التي تفسد الصيام، فصح بذلك ما ذهب إليه يحيى عليه السلام، على أنه لا خلاف أن المجامعة في الفرج تفسد الاعتكاف، فيجب أن يكون جميع ذلك مفسداً له إذا وقع على الوجه الذي بيناه، قياساً على الجماع، والمعنى [أنه] (2) حصول جنابة تفسد الصوم إذا وقع فيه، ولا خلاف أن اللمس بغير شهوة لا يفسد الاعتكاف، فوجب أن لا تفسده القبلة، والضمة /156/ والمباشرة فيما دون الفرج إذا لم يكن معه إنزال، قياساً عليه، والمعنى أنه مسيس لم تحصل معه جنابة.
فإن قيل: ما أنكرتم أن تكون سائر المعاصي تفسد الاعتكاف؛ لأن المعتكف منهي عنها، كما قلتم أن الجماع يفسده؛ لكون المعتكف منهياً عنه.
قيل له: لسنا نقول ذلك على الإطلاق الذي ذكرت، وإنما نقول أنه يفسد الاعتكاف؛ لأن المعتكف منهي عنه لأمر يختص الاعتكاف، فلا يجب أن يفسده، كما أن ما نهي عنه الصائم لأمر يختص الصيام لا يوجب فساد الصيام.
مسألة: [في من يوجب على نفسه اعتكاف جمعة ولم يسمها]
__________
(1) ـ في نسخة: {فالآن باشروهنَّ}.
(2) ـ ظنن عليها في الهامش.(40/11)


قال: ولو أن رجلاً أوجب على نفسه اعتكاف جمعة، ولم يسم أي جمعة هي، ولا في أي شهر هي، ولم ينو ذلك، فإنه يعتكف أي جمعة شاء، وإن سمى جمعة بعينها، لزمه اعتكافها، إلا أن يمنعه منه مانع، فإنه يعتكف جمعة مكانها إذا زال المانع.
جميعه منصوص عليه في (الأحكام) (1).
ووجهه أنه إذا أوجب على نفسه اعتكاف جمعة على الإطلاق لم يكن فيه تعيين، فكان سبيله سبيل من أوجب على نفسه اعتكاف يوم على الإطلاق، أنه يجزي(2) أي يوم اعتكفه بعد أن يكون يوماً(3) يصح فيه الاعتكاف، فكذلك الجمعة، فأما إذا عيّن جمعة، بأن سمّاها، أو نواها، فإنه يلزمه اعتكافها بعينها، وقد بينا فيما تقدم أن النية توقع اللفظ على وجه دون وجه، وتَجري مجرى النطق، فأما إذا سمى جمعة بعينها، فلا خلاف فيه، فإن منعه مانع من اعتكافها، تركه، وقضاه إذا زال المانع، لا خلاف فيه.
مسألة: [في من ألزم نفسه؟ اعتكاف أيام ونوى نهارها]
قال: ومن قال: لله علي أن أعتكف عشرين يوماً، ونوى نهار تلك الأيام دون لياليها، فله نيته، ولزمه أن يدخل المسجد قبل طلوع الفجر في تلك الأيام، ولا يخرج حتى يدخل وقت الإفطار، إلا لما ذكرنا من الأمور التي يجوز للمعتكف الخروج لها.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (4).
وهذا ـ أيضاً ـ قد مضى الكلام فيه؛ لأنا قد بينا أن للنية تأثيراً في إخراج بعض ما اقتضاه الإطلاق من جملته، وشبهناه بالعموم، واللفظ المحتمل، فلا فائدة في إعادته.
مسألة: [في المرأة إذا أوجب عليها اعتكاف أيام ثم أتاها الحيض]
قال: وإذا أوجبت المرأة على نفسها اعتكاف أيام، ثم حاضت في تلك الأيام، خرجت من مسجدها، فإذا طهرت، عادت إلى المسجد، وقضت ما فاتها من الاعتكاف، وأي معتكف أو معتكفة خافا على أنفسهما في مسجد معتكفهما، فلهما أن يخرجا إلى مسجد غيره.
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/264 وهو بلفظ قريب.
(2) ـ في (أ): يجزيه.
(3) ـ في (أ): أي يوم.
(4) ـ انظر الأحكام 1/264 ـ 265 وهو بلفظ قريب.(40/12)


وهذا منصوص عليه في (الأحكام)(1).
قلنا: إنها إذا حاضت خرجت من اعتكافها؛ لأن(2) الاعتكاف مع الحيض لا يصح لوجهين:
أحدهما: أن الحائض ممنوعة من المسجد، فلا بد من خروجها منه، والاعتكاف لا يكون إلا في المسجد.
والثاني: أنه لا اعتكاف إلا بالصوم، والحيض مناف للصوم، والاعتكاف، فإذا خرجت من الحيض، عادت إلى الاعتكاف، وقضت ما فاتها، كما تقضي ما يفوتها من الصيام بالحيض، وكما تقضي ما يفوتها من الطواف بالحيض.
وقلنا: إنه إذا خاف على نفسه خرج إلى غير ذلك الموضع(3)، ويصير الموضع الذي انتقل إليه في حكم الموضع الذي انتقل عنه، والمعنى أن كل واحد منهما، لزمه لبث في مكان مخصوص، فانتقل عنه ضرورة إلى مكان يصح أن يكون فيه ابتداء، ويؤيد ذلك قوله تعالى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِيْ الْمَسَاجِدِ}، فإذا انتقل إلى مسجد غير /157/ الأول يجب أن يكون على اعتكافه بحكم الظاهر.
فإن قيل: ما تنكرون على من قال لكم أنه بالخروج يكون قد أفسد اعتكافه؟
قيل له: الخروج لِما لا بد منه من الحاجة لا يفسد الاعتكاف، وكذلك هذا الخروج لأنه لا بد منه، ويجيء على هذا أن مسجده لو انهدم، أو أخرجه ظالم كُرهاً منه، فصار في مسجد سواه، أنه يكون على اعتكافه، وقد ذكر ذلك أبو العباس الحسني(4) رضي اللّه عنه في (النصوص).
مسألة: [في الإيصاء بالاعتكاف]
قال: ومن كان عليه اعتكاف أوجبه على نفسه، فحضرته الوفاة، فأوصى أن يعتكف عنه، أُخرج من ثلثه ما يستأجر به رجل من المسلمين يعتكف عنه ما كان عليه، ويلزم الأولياء إجازة هذه الوصية.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (5).
قلنا: إنه يُعتَكف عن الميت لما:
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/266 وهو بلفظ قريب.
(2) ـ في (أ): مع.
(3) ـ في (أ): من المواضع.
(4) ـ في (أ): رضي الله تعالى.
(5) ـ انظر الأحكام 1/266 وهو بلفظ قريب.(40/13)


رواه هناد بن السري في كتاب (المناسك)، قال: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: أتت النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم امرأة فقالت: يا رسول اللّه، إن أمي ماتت، وعليها صوم شهر، أفأصوم عنها؟ قال: (( أرأيتِ لو كان على أمك دين، أكنت تقضينه ))؟ قالت: بلى(1). قال: (( فدين اللّه أحق أن يقضى )).
وأخبرنا أبو بكر محمد بن العباس، قال: حدثنا محمد بن شعيب، قال: حدثنا أحمد بن هارون، عن ابن أبي شيبة، قال: حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، عن حماد بن سلمة، عن حجاج، عن عبد اللّه بن عبيد الله بن عتبة، أن أمه نذرت أن تعتكف عشرة أيام، فماتت، ولم تعتكف، فقال ابن عباس: اعتكف عن أمك(2).
وأخبرنا محمد بن العباس، قال: حدثنا محمد بن شعيب، قال: حدثنا أحمد بن هارون، عن ابن أبي شيبة، قال: حدثنا أبو الأحوص، عن إبراهيم بن المهاجر، عن عامر بن مصعب، أن عائشة اعتكفت عن أخيها بعدما مات فلما روي ذلك عن ابن عباس، وعن عائشة، ولم يرو عن غيرهما خلافه، جرى ذلك مجرى إجماع الصحابة.
وروى ابن أبي شيبة بإسناده عن ابن عباس أنه يصام عن الميت للنذر. (3) ولا خلاف في أن الميت قد يُحج عنه، فوجب أن يكون الاعتكاف كذلك؛ إذ هو مشتمل على عبادة يدخل المال فيه على بعض الوجوه، وهو الصوم، فإذا ثبت أنه يعتكف عنه، جاز أن يستأجر من يعتكف عنه؛ لأن ما صحت النيابة فيه، صح أن يستأجر من ينوب عنه، وكونه قربة لا يمنع من الاستئجار لها، كبناء المسجد، والقنطرة، وحفر السقاية، والقبر.
__________
(1) ـ الصواب: نعم.
(2) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 2/339.
(3) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 3/113 وإسناده: حدثنا ابن علية عن علي بن الحكم، عن ميمون، به.(40/14)


وقلنا: يستأجر من الثلث؛ لأنه مما لا يختص المال، فلم يجب أن يكون حكمه حكم الزكوات إذا مات وهي عليه، ويجب أن يكون سبيله سبيل الحج، ويلزم الورثة إجازته، كما يلزمهم إجازة سائر وصاياه، ما لم يتجاوز الثلث.
[مسألة: في العبد والمدبر وأم الولد والمكاتب يوجبون على أنفسهم الاعتكاف، هل يمنعهم سيدهم؟]
نص في (الأحكام)(1) على أن العبد، والمدبر، وأم الولد، والمكاتب، إذا أوجبوا الاعتكاف على أنفسهم، لزمهم، ولسيدهم أن يمنعهم غير المكاتب؛ لأن تصرفهم مستحق عليهم، فأما المكاتب، فلا يجوز له منعه منه؛ لأنه قد ملك تصرفه.
مسألة: [في ليلة القدر]
قال القاسم عليه السلام: ليلة القدر من أولها إلى آخرها في الفضل سواء، وهي ليلة ثلاث وعشرين، أو سبع وعشرين من شهر رمضان.
وهذا منصوص عليه في (مسائل النيروسي). وذلك قول اللّه تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِيْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ..} الآية.
وروي عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه قال: (( إذا كانت ليلة القدر نزل جبريل عليه السلام في كوكبة من الملائكة(2) يسلمون على كل قائم، وقاعد، يدعون اللّه، إلا لمدمنٍ على خمر، أو قاطع رحم)).
وروي عنه صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه قال: (( هي في العشر الأواخر في الوتر /158/ منها، وهي ليلة طلقة، لا حارة، ولا باردة، تصبح الشمس [فيها](3) من يومها حمراء ضعيفة)).
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/267 وهو بلفظ مقارب.
(2) ـ في (أ): عليهم السلام.
(3) ـ سقط من (ب).(40/15)

21 / 142
ع
En
A+
A-