رواه أبو داود في (السنن)، عن نافع أنه قال: أراني عبد اللّه ـ يعني ابن عمر ـ المكان الذي كان يعتكف فيه النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم من المسجد. فإذا ثبت ذلك، صح ما قلناه من أن المعتكِف يدخل المسجد قبل الفجر إلى العشاء، ليكون مستوفياً للنهار أجمع؛ لأنه لو دخل المسجد بعد طلوع الفجر، أو خرج منه قبل وقت العشاء، حصل اعتكافه في بعض النهار.
وقلنا: إنه ينوي الاعتكاف؛ لأن الاعتكاف لا يصح إلا بالنية كسائر العبادات؛ ولأنه لا خلاف فيه، ويدل عليه قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( الأعمال بالنيات )) وقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((وإنما لامرئ ما نوى )) .
وقلنا: إنه إن أحب أن يوجبه على نفسه تلفظ به وقال: لله عليَّ(1) اعتكاف يوم أو أيام؛ لأن الإيجاب طريقه اللفظ والنطق على ما بيناه في إيجاب الصوم بما يغني عن إعادته.
مسألة: [ومكان الاعتكاف المساجد]
قال: (والاعتكاف جائز في كل مسجد).
__________
(1) ـ في (أ): عليَّ لله.(40/6)


وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (1)، وقال فيه: الاعتكاف هو إقامة الرجل في المسجد، فدل على أنه لا يجوز في غير المسجد. ويدل على ذلك قوله تعالى(2): {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِيْ الْمَسَاجِدِ}، فمنع من المباشرة العاكفين في المساجد أجمع من غير تخصيص، فدل ذلك على أن الاعتكاف يصح في جميع المساجد، ولما كان الاعتكاف حكماً شرعياً، وكان ورد في من يكون عاكفاً في المساجد، قلنا: إنه معتكِف، ومنعنا أن يكون المعتكف في غير المساجد معتكفاً؛ إذ لا دليل عليه، على أنا قد بينا أن الاعتكاف لفظ مجمل يفتقر إلى البيان، وأن ما هذا سبيله يجب(3) أن يكون فعل النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بياناً له، وقد ثبت أنه اعتكف في المسجد، فوجب أن يكون ذلك شرطاً في صحة الاعتكاف، كما قلناه في الصوم، ولا خلاف أن الاعتكاف في مسجد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم جائز، فوجب أن يكون في سائر المساجد، قياساً عليه، والمعنى أنه مسجد على الإطلاق، ولا خلاف أنه لا يجوز في مكان لا يكون له بالصلاة ضرب من الاختصاص، فوجب أن لا يجوز في غير المساجد؛ بعلة أنه ليس بمسجد على الإطلاق،أو بعلة أنه لا يُمنع الحائض والجنب، وتقاس سائر المساجد على مسجد النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم؛ بعلة أنه يمنع الحائض والجنب.
مسألة: [في جواز خروج المعتكف من المسجد لحاجة أو قربة]
قال: ولا بأس أن يخرج المعتكف من مسجد اعتكافه لحاجة، أو لشهادة /154/ جنازة أو عيادة مريض.
قال: وإن احتاج إلى أن يأمر أهله، أو ينهاهم، وقف عليهم، وأمرهم، ونهاهم، وهو قائم، لا يجلس حتى يعود إلى المسجد.
وجميع ذلك منصوص عليه في (الأحكام) (4).
والأصل فيه ما:
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/249.
(2) ـ في (أ): قول الله تعالى.
(3) ـ في (أ): فيجب.
(4) ـ انظر الأحكام 1/264 وهو بلفظ قريب.(40/7)


أخبرنا به أبو بكر محمد بن العباس، قال: حدثنا محمد بن شعيب، قال: حدثنا أحمد بن هارون، عن ابن أبي شيبة، قال: حدثنا أبو الأحوص، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، عن علي عليه السلام، قال: إذا اعتكف الرجل، فليشهد الجمعة، وليعد المريض، وليشهد الجنائز، وليأت أهله، فليأمرهم بالحاجة، وهو قائم(1).
وروي عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة قالت: كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يعود المريض، وهو معتكف. فإذا ثبت جواز العيادة، ثبت جواز شهود الجنازة؛ إذ لم يفرق أحد بينهما.
فإن قيل: روي عن عائشة أنها قالت: كان النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم يمر بالمريض، وهو معتكف، فيمر كما هو، لا يُعرِّج يسأل عنه. فصار هذا الخبر منافياً لخبركم، ودافعاً له.
قيل له: لا يمتنع أن يكون النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم عاد في بعض الأوقات في حال اعتكافه، وترك العيادة في بعضها، فلا يلزمنا شيء، ولا ينتفي خبرنا؛ إذ نحن لا نقول أن العيادة واجبة لا يجوز تركها، وإنما الخلاف في الجواز، فإذا ثبت عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه كان يفعلها، ثبت الجواز، ولم يَنْفِهِ ما روي أنه كان لا يفعلها.
وروى ـ أيضاً ـ زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام قال: إذا اعتكف الرجل، فلا يرفث، ولا يجهل، ولا يقاتل، ولا يساب، ولا يمار، ويعود المريض، ويشيّع الجنازة، ويأتي الجمعة، ولا يأتي أهله إلا لغائط، أو لحاجة، فيأمرهم بها، وهو قائم لا يجلس.
وأيضاً لا خلاف أنه يخرج لصلاة الجمعة، فوجب أن يجوز خروجه لصلاة الجنازة، قياساً عليها؛ والعلة أنها صلاة واجبة لا يصح فعلها في معتكفه، وإذا ثبت ذلك في الصلاة على الجنازة، ثبت في عيادة المريض؛ إذ لم يفرق أحد بينهما.
__________
(1) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 2/334.(40/8)


ولا خلاف بيننا وبين أصحاب أبي حنيفة أن الاعتكاف إذا كان تطوعاً، جاز للمعتكف أن يعود المريض، ويشهد الجنازة، فكذلك إذا كان الاعتكاف واجباً، والمعنى أن كل واحد منهما اعتكاف صحيح، فوجب أن لا يفسد بهما.
ومما يؤكد هذا القياس أنا وجدنا كل ما يفسد الاعتكاف إذا كان واجباً، أفسده إذا كان تطوعاً، وهذا مما يمكن أن يحرر، ويجعل قياساً.
فأما الخروج من المسجد لقضاء الحاجة على الوجه الذي ذكرنا فمما لا اختلاف فيه.
مسألة: [فيما يجوز للمكلف فعله]
قال: ولا بأس للمعتكف أن يتزوج، ويزوج غيره، ويشهد على التزويج، ولكن لا يدخل بأهله، ولا بأس أن يكتحل، ويدهن، ويتطيب بأي طيب شاء، من مسك أو غيره، ويستحب له أن لا يبيع، ولا يشتري، ولا يشتغل عن ذكر اللّه، وله أن يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، بلسانه، ويده.
وجميع ذلك منصوص عليه في (الأحكام) (1).
ووجه ما ذكرنا من جواز هذه الأمور للمعتكف أنها أمور أبيحت له قبل الاعتكاف، ولم يدل الدليل [على] (2) أنها صارت محظورة بالاعتكاف، فهي على ما كانت عليه.
وقلنا: لا يدخل بأهله؛ لأن الدخول بأهله، إما أن يكون جماعاً، وهو مفسد للاعتكاف بالإجماع ونَصَّ التنزيل، أو يكون خلوه معها في بيت على وجه /155/ المكث، وهو ينافي اللبث، الذي هو الاعتكاف.
واستحببنا له أن لا يبيع، ولا يشتري؛ لأن موضع الاعتكاف للتفرغ للعبادة، فاستحببنا له أن يتوفر عليها، ويقل اشتغاله بأمر الدنيا.
وأما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهما من أعظم الطاعات، والفروض، والتوفر عليهما(3) من أعظم القرب إلى اللّه تعالى، فلذلك قلنا إن للمعتكف أن يأتي منهما ما أمكنه.
مسألة: [في من جعل على نفسه ألا يكلم أحداً في اعتكافه، ما عليه؟]
قال: ومن جعل على نفسه أن لا يكلم أحداً في اعتكافه، فينبغي له أن يحنث، ويطعم عشرة مساكين.
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/255 ـ 256 وهو بلفظ قريب جداً.
(2) ـ سقط من (ب).
(3) ـ في (أ): عليها.(40/9)


وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (1).
وهذا ينظر فيه، فإن عرض له أمر يلزمه بأن يُكلم أحداً، فإنه يحنث كما ذكر، وإن لم يعرض له، مضى على ما ألزم نفسه إن أحب، ولم تلزمه الكفارة.
ووجه لزومه الكفارة على الوجه الأول ما:
روي عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه قال: (( لا نذر في معصية، وكفارته كفارة يمين، فإن كان نذره يؤديه إلى المعصية، سقط، ولزمته كفارة يمين على ما ذكره )).
مسألة: [في مفسدات الاعتكاف]
قال: وكل ما أفسد الصوم أفسد الاعتكاف.
نص في (الأحكام) (2) على ذلك فقال: (يفسد الاعتكاف ما يفسد الصوم، ويجوز فيه ما يجوز في الصوم) عاطفاً على قوله: (ولا يجوز للمعتكف غشيان النساء في ليل ولانهار)، فبان أنه أراد به الجماع، وما جرى مجراه، دون الأكل والشرب، وما جرى مجراهما؛ إذ من المعلوم أن الأكل والشرب ليلاً لا يفسدان الاعتكاف؛ إذ لو أفسداه، لم يصح اعتكاف أيام كثيرة فأما إذا أفسد الصوم بالأكل ونحوه نهاراً، فسد اعتكافه؛ إذ لا اعتكاف إلا بالصوم، فتحصيل المذهب في الجماع ونحوه: أن الجماع في الفرج، وإن كان ليلاً يفسد الاعتكاف، أنزل، أو لم ينزل، كما أنه يفسد الصيام إذا وقع نهاراً، وما عدا ذلك من المباشرة في غير الفرج، والقبلة، واللمس، أو النظر إن كان معه إنزال، فسد به الاعتكاف، كما يفسد الصوم، وإن لم يكن معه إنزال، لم يفسد الاعتكاف كما لا يفسد الصوم.
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/263 وهو بلفظ قريب.
(2) ـ انظر الأحكام 1/264.(40/10)

20 / 142
ع
En
A+
A-