باب القول في الاعتكاف والقول في ليلة القدر
[مسألة في شروط الاعتكاف]
لا اعتكاف إلا بالصيام، واعتزال النساء ليلاً ونهاراً ما دام معتكفاً.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (1).
قلنا: إنه لا اعتكاف إلا بالصيام لما:
أخبرنا به أبو /151/ العباس الحسني قال: أخبرنا محمد بن الحسين بن حبيب، قال: حدثنا محمد بن سليمان الواسطي، قال: حدثنا محمد بن هاشم البعلبكي، قال: حدثنا سويد بن عبد العزيز، عن سفيان، عن حسين، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: (( لا اعتكاف إلا بصيام )). وهذا نص في موضع الخلاف.
وأخبرنا أبو بكر محمد بن العباس، قال: حدثنا محمد بن شعيب، قال: حدثنا أحمد بن هارون، عن أبي بكر بن أبي شيبة، قال: حدثنا حاتم بن إسماعيل، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام قال: (لا اعتكاف إلا بصوم) (2).
وأخبرنا محمد بن العباس، قال: حدثنا محمد بن شعيب، قال: حدثنا أحمد بن هارون، عن ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، عن ابن أبي ليلى، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس، قال: لا اعتكاف إلا بصوم(3).
وروى زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام قال: (لا اعتكاف إلا بصوم).
وروي نحوه عن عائشة، وابن عمر. فصار ذلك كالإجماع من الصحابة.
وروي عن ابن عمر أن عمر قال للنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: إني نذرت أن أعتكف يوماً. قال: (( اعتكف، وصم )). على أنه رأى أهل البيت عليهم السلام لا أحفظ عنهم فيه خلافاً، وما كان كذلك، لم يجز عندنا خلافه، وكذلك ما يروى عن علي عليه السلام.
فإن قيل: روي عن علي عليه السلام أنه قال: لا صوم على المعتكف، إلا أن يوجبه على نفسه.
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/249 وهو بلفظ قريب.
(2) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 2/333.
(3) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 2/334.(40/1)
قيل له: معناه أن المعتكف إذا لم يوجب الاعتكاف على نفسه لا يجب عليه الصيام، وفائدته التنبيه، على أنه لا يجب بالدخول ما لم يكن معه إيجاب، ويدل على ذلك أن الاعتكاف لفظ مجمَل مفتقر إلى البيان؛ لأنه من طريق اللغة يفيد اللبث فقط، ولا خلاف أنه يفيد في الشرع سوى اللبث، ألا ترى أن قائلاً لو قال: لله عليَّ أن أعتكف، لزمه الاعتكاف، وإذا قال: لله عليَّ أن ألبث، لم يلزمه شيء، فإذا ثبت ذلك، ووجدنا النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم اعتكف صائماً، كان فعله بياناً له، وهو محمول على الوجوب؛ لكونه بياناً للواجب، فوجب الصيام في الاعتكاف.
فإن قيل: فقد اعتكف صلى اللّه عليه وآله وسلم في مسجده، في(1) شهر رمضان، في العشر الأواخر منه، كما اعتكف صائماً، وشيء من ذلك لم يكن شرطاً في الاعتكاف، فكذلك الصيام.
قيل له: لولا قيام الدليل على أن ما ذكرت ليس بشرط في الاعتكاف، لوجب أن يكون الجميع شرطاً فيه.
فإن قيل: فقد روي عن عمر أنه قال [للنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم] (2): إني كنت نذرت في الجاهلية إعتكاف ليلة. فقال له: (( أوف بنذرك ))، واعتكاف ليلة لا يكون فيه الصيام، فثبت أن الصيام ليس شرطاً فيه.
__________
(1) ـ في (أ): وفي.
(2) ـ سقط من (أ).(40/2)
قيل له: ألفاظ هذا الحديث مختلفة. فقد روي أنه قال: إني نذرت اعتكاف ليلة، وروي: إعتكاف يوم، وروي: إعتكاف يوم وليلة، ويجوز أن يكون قال: إعتكاف يوم وليلة. فروى راوٍ: إعتكاف ليلة، وروى راوٍ: إعتكاف يوم؛ إذ من الجائز أن يعبَّر عن الزمان المشتمل على الليل واليوم بكل واحد منهما، كما قال اللّه تعالى لزكريا: {آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ}، وقال في سورة أخرى: {ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيّاً} فإذا احتمل، ذلك وجب حمله عليه؛ للأدلة التي ذكرناها، على أنه قد ثبت أن الاعتكاف حكم شرعي، فلا خلاف أن المعتكف يكون معتكفاً مع الصيام، فثبت أنه معتكف للإجماع، ولا دليل على حصول الاعتكاف بغير صيام، فلم يثبت اعتكافاً، ولا خلاف أن من قال: لله عليَّ أن ألبث، لم يلزمه شيء، ومن قال: لله عليَّ أن أعتكف، لزمه الاعتكاف، فلولا أن /152/ الاعتكاف يقتضي معنى سوى اللبث، لاستوى حكم اللفظين في النذر، فإذا ثبت ذلك، فلم يقل أحد بانضمام معنى إلى الاعتكاف إلا الصوم، فوجب أن يكون الصوم شرطاً فيه.
فإن قيل: ما أنكرتم أن يكون المعنى المضموم إليه هو النية؟
قيل له: النذر لا يتناول النية؛ لأن النية تجب بوجوب الْمَنوي، فيجب أن يحصل الوجوب للمَنوي حتى تجب النية له، ولا خلاف أن اللبث بعرفه لا يكون قربة إلا بانضمام معنى آخر إليه، فأوجب أن لا يكون اللبث في المساجد قربة إلا بمعنى آخر يُضم إليه، والمعنى أنه إقامة في موضع مخصوص، ولم يوجب أحد ذلك إلا أوجب الصيام.
فإن قيل: ما أنكرتم أن يكون المعنى المنضم إليه انتظار الصلاة؟
قيل له: لم يقل أحد بذلك، فوجب سقوطه، على أن الشافعي وهو المخالف في هذه المسألة يُجَوِّز اعتكاف أقل من يوم، ويُجَوِّز أن [لا] (1) يكون [فيه] (2) منتظر للصلاة.
فإن قيل: لو كان الصوم شرطاً فيه، لوجب أن لا يصح الاعتكاف ليلاً.
__________
(1) ـ سقط من (أ).
(2) ـ سقط من (أ).(40/3)
قيل له: يدخل فيه على سبيل التبع بحصول التتابع، ألا ترى أن المعتكف قد جُوز له الخروج من المسجد لحاجة لابد منها، وهذا لا يدل على أن اللبث في المسجد ليس شرطاً في صحته، وكذلك المبيت بمنى يكون قربة؛ لما يتعلق على الإنسان من حكم الرمي، ولا رمي بالليل(1)، فيدخل الليل تبعاً.
فإن قيل: لو كان الصوم شرطاً فيه، لما صح [أن] (2) يدخل في رمضان؛ لأن صوم(3) رمضان لا يقع عن غيره.
قيل له: نحن لا نوجب عليه صوماً مستأنفاً للإعتكاف وإنما نقول: أن المعتكف لا يكون معتكفاً إلا أن يكون صائماً، فإذا حصل صائماً من أي وجه كان صومه، صح اعتكافه، وهذا كما نقول(4) أن من تطهر للصلاة، جاز له أن يصلي غيرها، ولم يمنع ذلك من كون الطهارة شرطاً في صحة الصلاة، وكذلك نقول أن الإحرام شرط لجواز دخول مكة، وهذا لا نوجب له إحراماً مجدداً، بل إذا كان محرماً لأي شيء كان من حجة، أو عمرة، أو حجة الإسلام، أو حجة نذر، جاز له ذلك، وكذلك الصوم في الاعتكاف.
واشترطنا اعتزال النساء ما دام معتكفاً ليلاً ونهاراً، والمراد به المجامعة، وما جرى مجراها؛ لقوله تعالى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِيْ الْمَسَاجِدْ}، على أنه لا خلاف في ذلك.
مسألة: [في أقل الاعتكاف]
قال: وأقل الاعتكاف يوم، ويجب على من اعتكف أن يدخل المسجد قبل طلوع الفجر إلى العشاء، وينوي الاعتكاف، أو يتلفظ به، إن أحب أن يوجبه على نفسه. فيقول: لله عليَّ اعتكاف يوم، أو أيام.
وجميعه منصوص عليه في (الأحكام) (5).
وروي أن أقل الاعتكاف يوم عن أبي حنيفة، وخالف فيه أبو يوسف، ومحمد، والشافعي.
__________
(1) ـ في (أ): في الليل.
(2) ـ سقط من (ب).
(3) ـ في (أ): صيام.
(4) ـ في (أ): يقول.
(5) ـ انظر الأحكام 1/249، 263 ، 264 وهو بلفظ قريب.(40/4)
والوجه في أن بعض اليوم لا يصح الإعتكاف فيه أنه زمان لا يكون ما يختصه من الإمساك صوماً شرعياً، فوجب أن لا يكون ما يختصه من اللبث إعتكافاً شرعياً، قياساً على زمان الحيض والنفاس، وزمان الليل، على أن ما ذهبوا إليه يقتضي أحد أمرين قد ثبت فسادهما وهو أن من نوى اعتكاف نصف النهار إذا اعتكف إلى الظهر صائماً، ثم خرج من اعتكافه، وأفسد صومه، فلا بد من أن يكون اعتكافه بغير صوم، وقد قدمنا(1) الدليل على فساده، على أن /153/ أبا يوسف، ومحمد، لا يخالفان فيه. أو يفسد ما مضى من اعتكافه كاملاً صحيحاً، وهذا لا يجوز؛ لأنه يمتنع في جميع العبادات إذا وقعت صحيحة كاملة أن(2) تفسد بعد الفراغ منها بما يعرض بعدها، وكذلك الصيام، والحج، فلما ثبت بما بيناه أنه يؤدي إلى أحد أمرين فاسدين، ثبت فساده.
فإن قيل: روي عن عائشة أنها قالت: كان النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر، ثم دخل معتكفه. وفي هذا أنه صلى اللّه عليه وآله وسلم كان يعتكف في بعض النهار.
قيل له: هذا لا يدل على ما ذكرت؛ لأنه يجوز أن تكون أرادت بقولها: ((معتَكَفَه))، الموضع الذي اتَّخَذَ للجلوس من جملة المسجد، يؤكد ذلك أنه من المعلوم أنه كان صلى اللّه عليه وآله وسلم يصلي الفجر، في المسجد، فلا بد من أن يكون دخوله المسجد قبل أن يصلي الفجر والمسجد كله معتكَف، إلا أنه يجوز أن تكون خصت بالذكر مجلسه صلى اللّه عليه وآله وسلم من جملة المسجد، يؤكد ذلك ما:
__________
(1) ـ في (أ): عرَّفنا.
(2) ـ في (أ): ولايجوز أن تفزع.(40/5)