وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (1).
ونص ـ أيضاً ـ في (المنتخب) (2) على أنه يقضي كما أفطر.
وتحصيل المذهب أن التتابع مستحب، وتركه يجزئ، وإن كان مكروهاً؛ لأن القاسم عليه السلام قال في (مسائل النيروسي): فإن قضى متفرقاً، فقد أساء وقصَّر، ولم يوجب الإعادة.
وقال يحيى عليه السلام في (الأحكام) (3) في القضاء متتابعاً: (هذا أحسن ما في هذا وأقربه).
فدل ذلك على الاستحباب، وأجزأ ما عداه، والأصل في ذلك ما:
أخبرنا به أبو بكر محمد بن العباس، قال: حدثنا محمد بن شعيب، قال: حدثنا أحمد بن هارون، عن ابن أبي شيبة، قال: حدثنا ابن سليم الطائفي، عن موسى بن عقبة، عن محمد بن المنكدر، قال: بلغني أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم سئل عن تقطيع قضاء شهر رمضان، فقال: (( ذلك إليه، أرأيتَ أحدكم لو كان عليه دين، فقضى الدرهم والدرهمين، ألم يكن قضاء الدين؟ والله أحق أن يعفو، ويغفر)) (4) . ففي هذا الخبر دليل على أنه يكره، وأنه يجزئ وقوله: ذلك إليه، وتشبيهه بقضاء الدين، يدل على أنه يجزي، وقوله: (( اللّه أحق أن يعفو ويغفر ))، يدل على التقصير والإساءة؛ لأن العفو والغفران يكونان للإساءة والتقصير، وكذلك تشبيهه بقضاء الدرهم والدرهمين، يدل على ذلك؛ /149/ لأنه يكره للرجل أن يقضي ما عليه، الدرهم والدرهمين، مع القدرة على القضاء جملة، وتَوجُه المطالبة عليه بالجميع، ويكون مسيئاً بفعله ذلك.
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/248 ـ 249 وهو بلفظ قريب.
(2) ـ انظر المنتخب وهو بلفظ قريب.
(3) ـ انظر الأحكام 1/249.
(4) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 2/292.(39/13)
وأخبرنا محمد بن العباس، قال: حدثنا محمد بن شعيب، قال: حدثنا أحمد بن هارون، عن ابن أبي شيبة، قال: حدثنا أبو الأحوص، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي عليه السلام، قال: ((من كان عليه صوم من رمضان، فليصمه متصلاً، ولا يفرقه)) (1). فيدل ذلك على الاستحباب.
فإن قيل: هلا استدللت به على الإيجاب؟
قيل له: ليكون ذلك جمعاً بينه وبين ما رويناه عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم.
ويدل على ذلك قول اللّه تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرٍ}، وقرأ أُبي: فعدة من أيام أخرَ متتابعات، وهذه القراءة، وإن لم يرد الخبر بها وروداً يوجب العلم، فإنه يوجب العمل، فدل ذلك على التتابع على ما ذكرناه، على أنه قد ثبت أن القضاء للفرض والنفل يوجب أن يكون سبيله سبيل المقضي في جميع أصول العبادات، وقد ثبت أن التتابع ليس بشرط في صحة الصوم؛ بدلالة أن من أفسد يوماً منه، لم يفسد سائره، وإذا ثبت أن التتابع ليس بشرط في صحة أداء صوم شهر رمضان، لم يجب أن يكون شرطاً في صحة القضاء، وإذا لم يكن شرطاً في الصحة، دلت الآية، والخبر المروي عن أمير المؤمنين عليه السلام على أن تركه مكروه مع الإجزاء، فأما إذا أفطر أياماً مفترقة، وقضاها مجتمعة، فهو أفضل، لدلالة الآية والخبر عليه، إذ ليس فيهما أن ذلك إذا كان ما فات مجتمعاً؛ ولأنه مبادرة إلى رد(2) الواجب، ومسارعة إليه، فهو أولى.
مسألة: [هي المتطوع إذا أفطر، هل يقضي؟]
قال: ومن دخل في صيام متطوعاً، ثم أفطر، لم يجب عليه قضاؤه.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (3). وقد استقصينا هذا الكلام في هذا الباب في مسألة من دخل في صلاة التطوع، ثم أفسدها، من(4) كتاب الصلاة، فلا غرض في إعادته.
مسألة: [في من يجن في رمضان يفيق، هل يقضي؟]
__________
(1) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في الكتاب المصنف 2/294.
(2) ـ في (ب): أداء.
(3) ـ انظر الأحكام 1/247 وهو بلفظ قريب.
(4) ـ في (أ): في.(39/14)
قال: ولو أن رجلاً جُنَّ شهر رمضان كله، ثم أفاق، لزمه القضاء، وكذلك إن جُن بعض الشهر، قضاه.
وهذا منصوص عليه في (المنتخب) (1)، وقال فيه: (إنما هو علة عرضت)، فدل على أن المراد به الجنون الطارئ بعد التكليف. وعلى ذلك حمله أبو العباس الحسني ـ رحمه اللّه ـ تعالى في (النصوص)، وهو صحيح؛ لأن الجنون إذا لم يكن طارئاً على التكليف، يكون سبيل صاحبه سبيل من لم يبلغ، فلا يلزمه قضاء ما فاته من الصوم. والأصل في ذلك قول اللّه تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيْضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}، فأوجب القضاء على المريض، والمسافر، والجنون مرض، فلزمه القضاء.
فإن قيل: روي عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( رفع القلم عن ثلاثة، عن المجنون حتى يفيق..)).
قيل له: كذلك نقول، ولا نوجب عليه القضاء، إلا بعد الإفاقة، وسقوط وجوب الصوم عنه في حال الجنون لا يدل على سقوط القضاء، كالمريض، والحائض، والنفساء.
ولا خلاف أن من أغمي عليه الشهر كله، يقضيه إذا أفاق، فكذلك إذا جُنَّ، والمعنى جواز(2) الصوم بزوال العقل، وليس ينتقض ذلك بمن لا يكون زوال عقله طارئاً؛ لأنا عللنا لأن نجعل حكم الجنون /150/ حكم الإغماء، ونسوّي بينهما.
فإن قيل: لا نسلم؛ لأن المغمى عليه زائل العقل.
قيل له: ذلك جهل لمعنى العقل؛ لأن العقل ليس هو أكثر من حصول العلوم الضرورية(3)، وقد علمنا أن المغمى عليه داخل في هذا الباب من الجنون، على أنا لو جعلنا العلة في ذلك زوال العلوم الضرورية، جاز، فلا وجه لتعلقهم بذلك.
__________
(1) ـ انظر المنتخب 91.
(2) ـ في هامش (ب): فوات ظنن عليها.
(3) ـ في (أ): العلم الضروري.(39/15)
وأبو حنيفة يوافقنا على أنه إذا جن، ثم أفاق في بعض الشهر، لزمه قضاء ما جُنَّ فيه، فكذلك إذا أفاق بعد مضيه، والمعنى أنه فاته الصوم بجنون عارض. فإن قاسوه على الصبي؛ بعلة أنه يستحق به الولاية، كان منتقضاً بمن أفاق في بعض الشهر، على أن قياس الجنون، على الجنون وعلى الإغماء، أولى من قياسه على الصبي؛ لأن الجنون، والإغماء، لا ينافيان الصوم، وليس كذلك الطفولية؛ لأنها تنافي الصوم، على أن الإغماء عندنا إذا طال، كان مثل الجنون في استحقاق الولاية، فلا وجه للتفرقة به، على أن إيجاب القضاء لا ينفصل في شيء من المواضع بين الكل والبعض؛ لأن الصبا، والكفر، إذا زالا، فلا يجب قضاء بعض الشهر، ولا كله، والحيض، والنفاس، والإغماء، والمرض، إذا زالت، وجب قضاء البعض والكل من الشهر، فكان ما قلناه من التسوية بين زوال الجنون في بعض الشهر، أو(1) آخره.
مسألة: [في المرتد إذا أسلم مرة أخرى، هل يقضي ما فاته من رمضان]
قال: ولو أن رجلاً ارتد عن الإسلام سنين، فلم يصُم، ثم رجع إلى الإسلام، لم يلزمه قضاء ما أفطر في حال ردته.
وهذا منصوص عليه في (المنتخب) (2). وقد استقصينا الكلام فيه في كتاب الصلاة في مسألة المرتد، إذا رجع إلى الإسلام أنه لا يقضي ما فاته من الصلاة بما يغني عن إعادته.
مسألة: [في وجوب قضاء رمضان على المسافر، والمريض، والحائض، والنفساء، والمرضع، والحامل]
قال: ومن أفطر من الرجال والنساء لعلة من العلل، كنحو السفر، والمرض، وكنحو الحيض والنفاس في النساء، وكالحامل والمرضع إذا خافتا على الجنين والمرضَع، لزمهم القضاء إذا خرجوا من عللهم.
قال: وللمستحاضة أن تصلي، وتصوم، وتقضي ما فاتها من الصوم، إذا خرجت من أيام حيضها.
__________
(1) ـ في (أ): و.
(2) ـ انظر المنتخب 91 وهو بلفظ قريب.(39/16)
جميع ذلك منصوص عليه في (الأحكام) (1).
قلنا: إن المسافر والمريض يقضيان ما أفطرا؛ لقول اللّه تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيْضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرٍ}.
وقلنا ذلك في الحائض، والنفساء، لما(2):
ذكره يحيى عليه السلام عن أبي جعفر عليه السلام أنه قال: كان أزواج النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم يرين ما ترى(3) النساء، فيقضين الصوم، ولا يقضين الصلاة، وقد كانت فاطمة بنت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ترى ما يرى النساء، فتقضي الصوم، ولا تقضي الصلاة.
وقلنا: إن المستحاضة تصوم، وتصلي، لما:
روي أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أمرها أن تتوضأ وتصلي بعد مضي أيام أقرائها، فلما جازت الصلاة لها، جاز صيامها، وجميع هذه المسائل وفاق، لا خلاف فيها، فلا وجه للإطالة.
__________
(1) ـ نص على وجوب قضاء الحائض والمستحاضة والمريض في الأحكام 1/246 ـ 247 ونص على ذلك كله في الأحكام 1/255 ـ 256 وهو بلفظ قريب.
(2) ـ في (أ): كما.
(3) ـ في (أ): يرين.(39/17)