قيل له: كذلك نقول إن نذره قد انطوى على قربة، ومحظور، فألزمناه القربة، وأسقطنا عنه المحظور؛ لأن الصوم قربة، وإيقاعه في يوم الفطر، ويوم النحر، محظورٌ، فألزمناه الصوم، ومنعنا إيقاعه في الزمان المحظور فيه، فنكون قد استعملنا الظواهر كلها، ومما يدل على ذلك أنه لا خلاف فيمن قال: لله علي أن أصوم يوماً، أو يوم الخميسُ أو يوم /146/ كذا، فإنه يلزمه نذره، فكذلك إذا قال: لله علي أن أصوم يوم الفطر، أو يوم النحر، والمعنى أنه نذر صوم يوم يصح الصوم فيه.
فإن قيل: لِمَ قلتم أن الصوم فيه يصح؟
قيل له: لأنه لا خلاف أن صوم أيام التشريق يصح، فوجب أن يكون يوم النحر ويوم الفطر كذلك؛ لأنها لا تتميز عن سائر الأيام إلا بالنهي عن الصوم فيه، وقد ثبت أن النهي عن الصوم فيه لا يبطل الصوم، فثبت أن الصوم يصح فيهما.
ويمكن أن يقاس يوم الفطر، ويوم الأضحى، على سائر أيام السنة في أن إيجاب النذر يصح فيها، والمعنى أنه علق إيجاب الصوم بالنهار، ولا ينتقض ذلك بمن قال: عليَّ لله(1) أن أصوم يوم الحيض أو يوم آكل فيه؛ لأن غرضنا بالتعليل أن نسوي بين يوم الفطر، ويوم النحر، وبين سائر الأيام.
ومما يدل على ذلك أن قربة الوقت لا يتعلق بها الإيجاب، فكان ذكر الوقت ووجوده كعدمه فيما يتعلق به حكم إيجاب الصوم، ويبين أن قربة الوقت لا يتعلق بها الإيجاب أنه لو قال: لله علي صوم يوم عاشوراء وصوم يوم عرفة، ثم أفطرهما، جاز قضاؤهما في غير يوم عاشوراء، ويوم عرفة، ولم يلزمه أن ينتظر للقضاء يوم عاشوراء، ويوم عرفة، في العام القابل، ومع ذلك أن الصوم في يوم عاشوراء ويوم عرفة أفضل من الصوم في غيرهما، فثبت بذلك أن قربة الوقت لا يتعلق بها الإيجاب، وصار النذر المعلق بالوقت كالنذر المطلق في هذا الباب.
__________
(1) ـ في (أ): لله عليَّ.(39/8)
ومما يدل على ذلك أن من نذر صيام يوم بعينه، ففاته الصيام في ذلك اليوم، فعليه أن يصوم يوماً مكانه، فبان أن الوقت لا معتبر به؛ إذ الصيام يُقضى مع فواته، وليس كذلك سائر ما هو شرط في صحة الصوم؛ إذ الصوم لا يصح دونه، فجرى ذلك مجرى أن يقول: لله علي أن أصلي ركعتين في موضع بعينه، أن الموضع لا يصير شرطاً في صحة أدائهما، فبان أن كون الوقت ممنوعاً من الصيام فيه لا يخل بالنذر.
وروي عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه قال للتي نذرت أن تحج حافية غير مختمرة: (( مروها، فلتختمر، ولتركب ))، فأثبت ما كان قربة، ونفى ما كان محظوراً، فكذلك ما ذهبنا إليه.
مسألة: [في المظاهر والقتل خطأ إذا عجزا عن العتق ما يجب عليهما؟ وهل يجب عليهما الاستئناف إذا أفطرا]
قال: والمظاهر إذا عجز عن العتق، صام شهرين متتابعين، فإن أفطر منهما يوماً واحداً، استأنفهما، إلا أن يكون إفطاره لعلة لا يرجى زوالها، فيجوز له البناء، وكذلك القول فيمن قتل خطأ، إذا عجز عن العتق.
وجميع ذلك منصوص عليه في (الأحكام) (1)، وقد مضى الكلام فيما يجب معه الاستئناف إذا أفطر وما يجوز معه البناء، مستقصى، فلا وجه للإعادة فيه.
فإن قيل: فهلاَّ جعلتم في المظاهر إذا عجز عن استيفاء شهرين متتابعين لأي علة كانت، أنه يعدل إلى الإطعام، لأنه تعالى(2) قال: {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِيْنَ مِسْكِيْناً}.
قيل له: لما ثبت في غير المظاهر إذا كان عليه صوم شهرين متتابعين، أنه إذا صام، وفرَّق على نحو ما بيناه أنه يجوز معه البناء، أنه يكون في حكم من صام شهرين متتابعين، وأن ذلك التفريق لا يبطل /148/ حكم التتابع.
قلنا: إن المظاهر إذا صام على ذلك الحد، كان في حكم من صام متتابعاً، فلذلك قلنا: إن عليه الصوم، ولم نأمره بالعدول عنه إلى الإطعام.
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/258 وهو بلفظ قريب، وأما القائل خطأ فنص عليه فيه 1/268.
(2) ـ في (أ): قال تعالى.(39/9)
مسألة: [في المظاهر والقاتل إذا قدرا على العتق قبل تمام الصيام]
قال: ولو أنهما صاما بعض الصيام، ثم قدرا على العتق، تركا الصيام، وأعتقا، وإن قدرا على العتق بعد إتمام الصيام، لم يلزمهما العتق، وكذلك إذا عجز المظاهر عن الصيام، وأطعم بعض المساكين، ثم قدر على الصيام، رجع إلى الصيام، ولا(1) يعتد بما كان منه من الإطعام، فإن قدر على الصيام بعد إتمام الإطعام، لم يلزمه الصوم.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (2). وخالف الشافعي في ذلك فقال: إذا دخل في الصوم، لم يلزمه العتق، وإن أمكن.
والأصل فيه قول اللّه تعالى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٌ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ..} الآية، وقوله تعالى: {وَالَّذِيْنَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيْرُ رَقَبَةٍ..} الآية، فأجاز تعالى له العدول إلى الصيام بشرط أن لا يجد الرقبة، وأجاز العدول إلى الإطعام في كفارة الظهار بشرط أن لا يستطيع الصيام، فمن وجد السبيل إلى الرقبة، لم يجزه(3) الصيام، ومن أمكنه الصيام، لم يجزه(4) الإطعام، فوجب أن يكون من وجد الرقبة، وقد صام بعض الشهرين ألا يجزيه ما بقي من الصيام، وإذا لم يجزه باقيه، لم يجزه ماضيه، لأن بعضه معلق ببعض.
فإن قيل: لا يخلو فرض الرقبة من أن يكون قائماً عليه قبل الدخول فقط، أو يكون قائماً عليه قبل الدخول وبعده، فإن كان قائماً عليه قبل الدخول وبعده، فالواجب أن لا يتناهى صومه؛ لأنه كلما مضى يوم، وعَدِم الرقبة، وجب أن يلزم صوم شهرين.
__________
(1) ـ في (أ): لم.
(2) ـ انظر الأحكام 1/260 وهو بلفظ قريب.
(3) ـ في (أ): يجز له.
(4) ـ في (أ): يجز له.(39/10)
قيل له: فرض الرقبة ساقط عنه مع عجزه عنه، سواء دخل في الصيام، أو لم يدخل؛ لأنه لا يجوز بقاء الفرض على الإنسان مع جزه عنه، لكنه متى وجدها، عاد الفرض عليه، ما لم يخرج من الكفارة، ألا ترى أن المحدث إذا لزمته الصلاة، لزمه فرض الطهارة، ثم إن عجز عنها، سقط فرضها، ومتى قدر عليها، عاد عليه فرضها، فكذلك فرض الرقبة، ولا خلاف أن الابتداء بالصوم لا يجزئه عن كفارته، إذا كان واجداً للسبيل إلى الرقبة، فكذلك البناء على الصوم، والمعنى أنه مظاهر واجد للسبيل إلى الرقبة، فوجب أن لا يجزئه أن يصوم عن كفارته.
ويدل على ذلك ـ أيضاً ـ أن التيمم لما كان بدلاً عن الطهارة بالماء، لم يجز البناء عليه مع التمكن من الماء، وبقاء حكم الأصل، كما لم يجزه الابتداء، فكذلك الصيام الذي هو بدل من العتق، لما لم يجزه الابتداء به، لم يجز البناء عليه مع التمكن من المبدَل، وبقاء حكم الأصل.
ويمكن أن يقاس بهذه العلة على القعود الذي هو بدل من القيام في الصلاة للمعذور.
ويمكن أن يقاس على الاعتداد بالشهور للتي لم تَحِضْ إذا حاضت قبل استكمال العدة بالشهور.
فإن قيل: المتمتع إذا لم يجد الهدي، وصام ثلاثة أيام في الحج، إذا وجد الهدي، لم يلزمه الهدي.(39/11)
قيل له: نحن نوجب عليه الهدي إذا وجده في أيام الذبح، وإنما لم نوجب الهدي عليه بعد أيام الذبح؛ لأنه في الحكم مستكمل للكفارة؛ لأنه لم يبقَ /148/ عليه حكم ترفعه الكفارة، ألا ترى أن الإحلال قد جاز له، وليس كذلك سائر ما ذكرناه؛ لأن(1) حكم الأصل باقٍ في جميعه، ألا ترى أن المتيمم حكم الحدث باقٍ عليه، ما لم يستكمل الصلاة، والمعتدة بالشهور حكم المنع من التزويج باقٍ عليها، ما لم تستكمل العدة، وليس كذلك من صام ثلاثة أيام، ومضت أيام الذبح؛ لأن التحلل جاز له، فلم يبق عليه حكم الأصل، فكانت الكفارة مستكملة حكماً، على أن أيام الذبح إن فاتت، فالذبح(2) إن فعل، كان قضاءً، لا أداءً، فهو في حكم من لم يجد البدل، فإن قاسوا من صام بعض الشهرين على من استكملهما؛ بسقوط فرض العتق عنه؛ بعلة أنه قد صام عن كفارته مع عدم الرقبة كانت هذه العلة غير مؤثرة؛ لأن من استكمل شهرين فقد استكمل الكفارة، ولم يبق عليه حكم الأصل، وهو حكم الظهار، فلا معنى لشيء من الكفارات في هذه الحال، على أنه يمكن أن يعارَضوا بما هو من جنس هذا القياس الذي لا تأثير لعلته، وهو أن يقال لهم: لا خلاف أن من استكمل الشهرين إذا وجد الرقبة، فلا مساغ معها للتكفير بالصيام، فكذلك إذا صام بعض الشهرين، وهذه المعارضة لم نذكرها على أنها مؤثرة، لكنا أردنا أن نبين أن قياسهم مع فساده مقابل بمثله، فوجب سقوطه من كل وجه.
وجميع ما استدللنا به على أنه لا يجوز الصيام مع وجود الرقبة دلالة على أنه لا يجوز الإطعام في كفارة الظهار مع استطاعة الصيام على الوجه الذي مضى الكلام فيه، فلا غرض في إعادته.
باب القول في قضاء الصيام
[مسألة في كيفية قضاء رمضان]
من أفطر من(3) شهر رمضان أياماً مجتمعة، قضاها مجتمعة، وإن أفطرها مفترقة، قضاها مفترقة، وإن أفطرها متفرقة، فقضاها مجتمعة، كان أفضل.
__________
(1) ـ في (أ): لأنه.
(2) ـ في (أ): والذبح.
(3) ـ في (أ): في.(39/12)