والذي يدل على وجوب الوفاء بالنذور قوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ} وقوله سبحانه: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}.
وروي عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه قال لعمر ـ حين قال: كنت نذرت اعتكاف يوم ـ: (( أُوفِ بنذرك )). وقال للتي نذرت أن تحج ماشية: (( لتحج، وتركب، وتهدي )) ، والمسألة وفاق لا خلاف فيها.
مسألة: [فيمن جعل على نفسه صيام سنة]
قال: وإن جعل على نفسه صيام سنة، صامها، وأفطر العيدين، وأيام التشريق، ثم قضاها، وقضى شهر رمضان، إلا أن يكون استثنى ما ذكرنا، أو بعضه، بنيته.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (1).
قلنا: إذا أوجب على نفسه صيام سنة، صامها، وأفطر العيدين، وأيام التشريق، ثم قضاها، وقضى شهر رمضان؛ لأنه إذا أوجب على نفسه صيام سنة، فقد أوجب صيام اثني عشر شهراً؛ لأن السنة إذا أُطلقت، كانت عبارة عن اثني عشر شهراً، وليس يجوز أن يصوم العيدين، وأيام التشريق؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن صيامها، وصيام شهر رمضان لا يقع عن النذر، فجعل صومه أحد عشر شهراً إلا خمسة أيام، فعليه أن يقضي شهراً وخمسة أيام ليكون قد تم له صيام اثني عشر شهراً عن النذر الذي أوجبه على نفسه.
وقلنا: إنه إذا استثنى بعض ذلك، أو جميعه، بنِيَّتِه، لم يلزمه قضاء ما استثنى؛ لأنا قد بيَّنا قبل هذه المسألة أن للنية مدخلاً في إيقاع اللفظ على وجه دون وجه، وفي أن يُجعل العام خاصاً، والحقيقة مجازاً، فإذا أوجب على نفسه صيام سنة، ونوى سنة. قد استثنى منها ما ذكرنا، كان ذلك في حكم المنطوق به، كما نقول(2) ذلك في العام إذا أريد به الخاص، ولفظ الحقيقة إذا أريد به المجاز، فكان الإيجاب يتناول أحد عشر شهراً إلا خمسة أيام.
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/254 وهو بلفظ قريب.
(2) ـ في (أ): يقول.(39/3)
فإن قيل: إن ذلك جائز في لفظ العموم، ولفظ الحقيقة؛ لأن لفظ العموم يُستعمل في الخصوص، ولفظ الحقيقة يستعمل في المجاز، ولا يستعمل لفظ السنة في أحد عشر شهراً إلا خمسة أيام.
قيل له: ليس /144/ يمتنع ذلك إذا أريد به المجاز، وإن لم يكن استعماله على هذا الحد في الشهرة كاستعمال لفظ العموم في الخصوص، وكثير من ألفاظ الحقيقة في المجاز، ونظير ذلك أن اللّه(1) تعالى قال: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} فسمى شهرين وعشرة أيام أشهراً، وإن كان أقل ما يجوز أن يطلق عليه اسم الأشهر ـ على الحقيقة ـ ثلاثة أشهر، فأجرى اسم الأشهر على ما ذكرناه على سبيل التوسيع(2)، وعلى ذلك يجري مجرى أن يواضع نفسه على أن يعبر عن أحد عشر شهراً إلا خمسة أيام باسم السنة، فوجب أن يصح ذلك، كما لو واضع غيره على ذلك، صح أن يخاطبه به.
مسألة: [في القضاء هل يكون متصلاً أم مفرقاً؟]
قال: ولو أن رجلاً أوجب على نفسه صيام شهر كامل، أو شهرين متتابعين، أو أكثر من ذلك، فإنه يجب عليه أن يصومها كما أوجبها، وإن قطع بين ذلك بإفطار يوم، وجب عليه أن يستأنف الصيام، إلا أن يكون رجلاً لا يفارقه السُقم أبداً ،و(3)لا يطمع من نفسه بمواصلة؛ لضعف بدنه، ودوام سقمه، فإن كان كذلك، جاز له البناء على ما صام.
جميع ذلك منصوص عليه في (الأحكام) (4).
وقال في (المنتخب) (5): إذا أفطر لعذر من مرض، أو سفر، فله البناء، وأما(6) إذا أفطر لغير عذر، فإن عليه الاستئناف.
ولا خلاف في أن المرأة إذا كان عليها صيام شهرين متتابعين، فحاضت أن لها البناء. وللشافعي في المريض، والمسافر، قولان، في البناء، والاستئناف.
__________
(1) ـ في (أ): قول الله تعالى.
(2) ـ في (أ): التوسع.
(3) ـ في (أ): أو.
(4) ـ انظر الأحكام 1/263 وهو بلفظ قريب جداً.
(5) ـ انظر المنتخب 92 وهو بلفظ قريب.
(6) ـ في (أ): أما.(39/4)
ووجه(1) ما ذكره في (الأحكام) أنهم أجمعوا(2) على أن الحيض إذا عرض، لم يوجب الاستئناف، وجاز معه البناء، وكذلك من لزمه السقم، وكان الغالب من أمره أنه لا تستمر الصحة به شهرين، والمعنى أنه عذر لا يرجى زواله في غالب الأحوال، فوجب أن لا يمنع من البناء، قياساً على الحيض.
والسقم أولى أن يجعل عذراً من الحيض؛ لأن الحيض يرجى زواله إذا طعنت المرأة في السن، والمرض كلما علَتِ السِّن، كان أقوى في العرف، على أن انقطاع الحيض لعارض يعرض أقرب في العاداتِ من عود مَنْ وصفنا إلى الصحة.
فإن قاسوه على المرض الذي يعرضْ ويزول، ففيه عن يحيى عليه السلام روايتان على ما ذكرناه، على أنا قد بينا أن استكمال شهرين في حكم المتعذر على ما وصفنا، فرد حاله إلى الحيض لإسقاط الاستئناف، وإجازة البناء، أولى من رده إلى المرض الذي يزول؛ لأن أصول الشرع واردة بالتخفيف على من يتعذر عليه الأمر، بل لا يكلَّف إذا صح التعذر، والعقل ـ أيضاً ـ يوجبه، ويقضي به. قال اللّه تعالى: {مَا جَعَلَ عَلِيْكُمْ فِيْ الدِّيْنِ مِنْ حَرَجٍ}. وقال سبحانه: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} فكل ذلك يرجِّح قياسنا، ويعضده.
فأما المرض العارض، فإن الاستئناف، واجب متى أفطر من أجله؛ لأن حاله كحال الصحيح في أن استكمال شهرين مع التتابع ممكن له، فوجب أن يلزمه الاستئناف قياساً على من أفطر لغير عذر، وهذا القياس أولى من قياس من رده إلى الحيض بعلة أنه أفطر معذوراً، وذلك أنا وجدنا ما يفسد الصوم لا يتغير عن حكمه بين أن يكون معذوراً فيه، أو غير معذور، ألا ترى أنه لو أُكْره على الإفطار، وأفطر [أو أفطر] (3) لمرض، أو سفر، كان معذوراً، ولم يخرجه ذلك من أن يكون مفسداً للصوم، وكذلك التتابع، وما يتعذر.
__________
(1) ـ في (أ): ووجهه.
(2) ـ في (ب): لما أجمعوا.
(3) ـ سقط من (أ).(39/5)
والأصل فيه أنه /145/ معفو، ألا ترى أن دخول الغبار، والذباب، الحلقَ صار معفواً عنه، وكذلك ابتلاع الريق؛ لتعذر الاحتراز منه، ويفسده ما يمكن الاحتراز منه، لأنه من أحكام الصوم، أعني التتابع.
فإن قيل: فالحيض يفسد الصوم، وإن لم يمكن الاحتراز منه، ولا يفسد التتابع.
قيل له: الحيض يفسد الصوم، لأنه لا يتعذر قضاء ما أفسد به؛ ولأنه ليس مما يعرض في جميع الأحوال، أو عامتها، فكان في حكم الممكن احترازه، ولا يفسد التتابع؛ لأنه لا يمكن التتابع من غير أن يعرض، فبان أن المعتبر في ذلك هو التعذر.
ووجه ما ذكره في (المنتخب): أنه أفطر معذوراً، فوجب أن يجوز له البناء، قياساً على الحائض.
والأقوى ما ذكره في (الأحكام) على ما شرحناه، والذي يقتضيه قوله في (الأحكام): إن النفاس يفسد التتابع، وأن الحيض يفسد تتابع كفارة اليمين؛ لأن النفاس مما يمكن الاحتراز منه في التتابع، والحيض مما يمكن الاحتراز منه في تتابع الثلاثة الأيام، وما جرى مجراها من العدد الذي لا يجب من طريق العادة أن يقطع فيه الحيض.
فأما على رواية (المنتخب) فيجب أن يكون جميع ذلك لا يفسد التتابع، ويجوز معه البناء؛ لأن الإفطار وقع لعذر.
مسألة: [فيمن نذر بصيام شهر مشروط، ثم وقع الشرط في آخر شعبان]
قال: ولو أن رجلاً قال: لله عليَّ(1) أن أصوم شهراً من يوم أتخلص فيه من كذا، أو قال: لله عليَّ(2) أن أعتكف، فتخلص منه في آخر شعبان، أخر صيامه إلى اليوم الثاني من شوال، ثم يصوم ثلاثين يوماً.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (3).
__________
(1) ـ في (أ): عليَّ لله.
(2) ـ في (أ): عليَّ لله.
(3) ـ انظر الأحكام 1/265 وهو في ذكر الاعتكاف.(39/6)
ووجهه أنه قد أوجب على نفسه صيام شهر، بإيجابه إياه لفظاً، أو بإيجاب الاعتكاف؛ إذ إيجاب الاعتكاف عندنا يتضمن إيجاب الصوم، فإذا صادف ذلك الوقت شهر رمضان، لم يصح منه إيقاع ما أوجبه بالنذر فيه، كما لو صادف ذلك من المرأة حيضاً، أو نفاساً، لم يصح إيقاعها إياه فيها، فوجب تأخيره إلى انقضاء الوقت الذي [لا] (1) يصح إيقاع ما لزمه من الصوم بالنذر فيه، فكذلك قلنا إنه يؤخره إلى ثاني شوال، ليوقعه في وقت يصح وقوعه فيه.
مسألة: [فيمن نذر بصيام أو اعتكاف العيدين]
قال: وكذلك إن قال: لله عليَّ أن أصوم يوم الفطر، أو يوم النحر، أفطرهما، وقضاهما، وكذلك إن قال: عليَّ أن أعتكفهما.
نص في (المنتخب) (2) على أن من قال: لله عليَّ أن أصوم يوم الفطر، أو يوم النحر، يفطرهما، ويقضيهما.
ونص في (الأحكام) (3) على أن من أوجب على نفسه اعتكاف يوم الفطر، يفطره، ويعتكف بعده.
فقلنا ذلك في يوم النحر.
والأصل فيه قول اللّه تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودُ}، وقوله تعالى: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِيْ قُلُوبِهِمْ..} الآية، فذم الذين يخلفون بما وعدوا، فوجب أن يكون الخلف كله مذموماً، إلا ما منع منه الدليل.
وقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم لعمر: (( أوف بنذرك ))، فأوجب الوفاء بالنذر، فكذلك إذا نذر صوم يوم الفطر، أو يوم النحر.
فإن قيل: لا نذر في معصية.
__________
(1) ـ سقط من (أ).
(2) ـ انظر المنتخب 91 وهو بلفظ قريب.
(3) ـ انظر الأحكام 1/267 وهو بالمعنى.(39/7)