ويروى عن الحسن بن علي عليهما السلام، وقيل: عن ابن عمر، ولا يحفظ عن أحد من الصحابة خلافه، فجرى [ذلك] (1) مجرى الإجماع.
وجعل الإطعام نصف صاع لما في /141/ حديث زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام أن شيخاً كبيراً [أتى](2) إلى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال: يا رسول اللّه، هذا شهر مفروض، ولا أطيق الصيام، فقال: (( اذهب، فتصدق عن كل يوم بنصف صاع للمساكين )) .
وروي عن ابن عمر أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: (( من مات، وعليه صوم من شهر رمضان، فإن وليه يطعم عنه نصف صاع من بر )) ولأن ذلك القدر هو الذي يُتَقَوَّتَ به غالباً.
ووجه رواية (المنتخب) براءة الذمة، ولا دليل على إيجاب الفدية، وقوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِيْنَ يُطِيْقُونَهُ فِدْيَةٌ} قيل: إنه منسوخ، وقيل: إنه في الشيخ الهرم إذا لم يطق الصيام، وأطاق الإطعام.
وما قيل: إن وقت القضاء يتضيق في شعبان لا دليل عليه، وإنما أخبرت عائشة عن فعلها، واختيارها، وحكم القضاء قبل دخول شهر رمضان وبعده على أمر واحد، فلا خلاف فيمن قضى ما فاته قبل دخول شهر رمضان آخر، لم يلزمه الفدية، فكذلك من قضاه بعد ذلك، والمعنى أنه قضى ما فاته من الصوم، ولا خلاف أن من فاتته(3) صلاة، فقضاها في أي وقت كان، فليس عليه شيء سواه، فكذلك الصوم، والمعنى أن كل واحد منهما فرض يتكرر ابتداء.
وجملة الأمر أن الإجماع إن حصل على رواية (الأحكام) فهي أولى، وإلا فرواية (المنتخب) أقوى.
مسألة:[في المستعطش والهرم إذا لم يقدرا على الصيام، ما يلزمهما؟]
ومن لم يصبر على العطش من الرجال والنساء، يلزمه إطعام مسكين عن كل يوم أفطره، وكذلك الهرم الذي لا يطيق الصيام.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (4).
والأصل فيه:
__________
(1) ـ سقط من (أ).
(2) ـ سقط من (أ).
(3) ـ في (أ): فاته.
(4) ـ انظر الأحكام 1/255 وهو بلفظ قريب.(38/33)


حديث زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام، قال: لما أنزل اللّه تعالى فريضة شهر رمضان أتى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم صاحب العطش فقال: يارسول اللّه، هذا شهر مفروض، ولا أصبر عن الماء ساعة واحدة. فقال: (( انطلق، فأفطر، فإذا أطقت، فصم )).
وأتاه شيخ كبير يتوكأ بين رجلين فقال: يا رسول اللّه، هذا شهر مفترض، ولا أطيق الصيام. فقال: ((انطلق، فافطر، وأطعم عن كل يوم مسكيناً، نصفَ صاع )) .
وروي عن ابن عباس أنه كان يقول ذلك في الهرم ويقرأ: {وَعَلَى الَّذِيْنَ يُطِيْقُونَهُ(1)}(2) ويتأوله في الشيخ الهم ويقول: إن معناه لا يطيقه، وهذه القراءة وإن لم تكن في الشهرة بحيث يجوز أن يُقرأ بها، فإنه يجوز أن يؤخذ بحكمها؛ لأنها تجري مجرى خبر الواحد.
وأخبرنا محمد بن العباس قال: حدثنا محمد بن شعيب، قال: حدثنا أحمد بن هارون، عن ابن أبي شيبة، قال: حدثنا حفص، عن حجاج، عن أبي(3) إسحاق، عن الحارث، عن علي عليهم السلام، قال: ((الشيخ الكبير إذا عجز عن الصيام، أفطر، وأطعم عن كل يوم مسكيناً)).
فإن قيل: فقد قال اللّه تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} وهو غير قادر على الصوم، فكيف يُكَلَّفه؟
__________
(1) ـ في (أ): لا يطيقونه.
(2) ـ وفي الكشاف: وقرأ ابن عباس {يطوَّقونه} تفصيل من الطوق، إما بمعنى الطاقة، أو القلادة أي يكلفونه أو يقلدونه، ويقال لهم: صوموا، وعنه يتطوقونه بمعنى يتكلفونه أو يتقلدونه، إلى أن قال: وفيه وجهان: أحدهما معنى يطيقونه، والثاني: يكلفونه أو يتكلفونه على جهد منهم وعسر وهم الشيوخ والعجائز، وحكم هؤلاء الإفطار والفدية. انظر الكشاف 1/266.
(3) ـ في (أ): ابن.(38/34)


قيل له: إنه لم يكلَّف الصوم، وإنما كلف الفدية بدلاً منه، وهو مستطيع لها، وإن لم يستطع الصوم، وهذا كالمظاهر إذا لم يقدر على العتق /142/ جاز أن يكلَّف الصوم، فإن لم يقدر على الصيام، جاز أن يكلف الإطعام، وكالمريض الذي لا يستطيع على الصيام، يكلف القضاء إذا قدر عليه، فإذا ثبت ذلك في الشيخ الهم،كان من به عطش لازم قياساً عليه، بمعنى أن المانع له من الصوم مأيوس من زواله في غالب الأحوال، فوجب أن تلزمه الفدية.
فإن قيل: فقول النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( فإذا أطقت، فصم )) دليل على أن العارض غير مأيوس من زواله.
قيل له: يجوز أن يكون النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قصد إلى تعريفه الحكم في زوال العارض، وكان ذلك المستعطش بعينه ممن يرى زوال علته.
ونحن نقول فيمن يكون كذلك: أنه لا فدية عليه، وأن سبيله سبيل سائر المرضى، وإنما نوجب الفدية على من كان الغالب في علته أنها لا تزول.
وقد روي مثل قولنا في الشيخ الهم عن أنس، وابن عباس، وابن عمر، وسعيد بن جبير، وعطاء. وقيل: إنه لا يحفظ فيه خلاف بين الصحابة، وهو قول عامة الفقهاء.
وحكي خلافه عن مالك، وأبي ثور، وصاحب الظاهر.
[مسألة: فيمن عزم على إفطار يومه ثم استمر على الصيام]
نص الهادي عليه السلام في (المنتخب) (1) على أن من عزم على الإفطار، فصام، ولم يفطر، واستمر على صومه، لا يكون بذلك مفطراً.
والأصل في ذلك أن النية لا تؤثر في إفساد الصحيح، ألا ترى أنه لو نوى فساد الصلاة، لم تفسد صلاته، وإنما تأثيرها في إيقاع الفعل على وجه دون وجه، فأما مجردها، فلا تأثير لها.
__________
(1) ـ انظر المنتخب 91 وهو بلفظ مقارب.(38/35)


باب القول في صيام النذور، والظهار، وقتل الخطأ
[مسألة فيمن تنذر بصيام أيام، هل يصومها مجتمعة أم متفرقة؟]
ولو أن رجلاً قال: لله علي أن أصوم عشرين يوماً، لزمه صيامها، فإن نواها مجتمعة، لزمه صيامها مجتمعة، وإن لم يكن نواها مجتمعة، صامها كيف شاء، مجتمعةً، أو متفرقة، ولا يكون الإيجاب إلا بالأقاويل.
ما ذكرناه أولاً منصوص عليه في (الأحكام) (1).
وقولنا أن الإيجاب لا يكون إلا بالأقاويل، رواية يحيى عليه السلام(2) في (الأحكام) (3) عن جده القاسم عليه السلام، ودل عليه أيضاً كلامه، أما إذا لم ينوِ التتابع، أو لم يشترطه لفظاً، فله الخيار بين أن يصومها متتابعة، أو متفرقة؛ لأن التتابع صفة زائدة على العدد، فإذا أتى بالعدد متعرياً عن تلك الصفة التي لم ينوها، ولم يشترطها لفظاً، فقد أدى ما ألزم نفسه، وهذا مما لا خلاف فيه.
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/254 وهو بلفظ قريب.
(2) ـ في (أ): عن جده القاسم. نخ في الأحكام.
(3) ـ انظر الأحكام 1/247 ـ 248 وهو فيه بلفظ قريب.(39/1)


فأما إذا نوى التتابع، فلا يجزي إلا متتابعاً؛ لأن النية ضرب من الإرادة، وللإرادة مسرح في إيقاع الفعل والقول على وجه دون وجه، إذا كان يصح وقوعه عليه، كما أن العموم لما صلح للاستغراق، وصلح للخصوص، فمتى أريد به الخصوص، وقع خاصاً، وكذلك اللفظ المحتمِل كقولنا قُرء، لما احتمل الطهر، واحتمل الحيض، كان اللفظ لفظاً لِمَا هو مرادٌ به من الطهر والحيض، وكذلك القول في المجاز، والحقيقة، فإذا ثبت ذلك، وثبت أن قول القائل: لله عليَّ أن أصوم عشرين يوماً، يحتمل أن يكون عشرين يوماً متتابعة، وعشرين يوماً متفرقة، وجب أن تُصْرَف النية إلى أحدهما؛ لاحتمالهما جميعاً، ولهذا قال أصحابنا: إن النية /143/ في باب الأيمان أوكد من العرف؛ لأنه يقع بها القول على أحد المحتملين(1) على ما بيناه، فإذا قال: لله علي أن أصوم عشرين يوماً، ونوى التتابع، صار التتابع كالمنطوق به، كما أنه تعالى لما قال: {اقْتُلُوا الْمُشْرِكِيْنَ} وأراد الحربيين، صار ذلك كالمنطوق به.
فإن قيل: إذا كان الصوم لا يجب بالنية إذا انفردت عن القول، فيجب أن لا يجب بها التتابع.
قيل له: النية لا مسرح لها في الإيجاب إذا انفردت، ولها مدخل في إيقاع اللفظ على أحد الوجهين الذي يحتملهما على ما بيناه، فلم يمنع أن يقع اللفظ بها على الصوم المتتابع، فيكون الإيجاب في الحقيقة راجعاً إلى القول، ويكون تأثير النية في صرفه من وجه إلى وجه.
وقلنا: إن الإيجاب لا يكون إلا بالأقاويل؛ لأن إيجاب ما لم يوجبه اللّه ابتداءً من العبادات، لا يخلو إما أن يكون بالدخول(2) أو بالنية، أو باللفظ الموجب، وقد دللنا أن الصوم لا يجب بالدخول فيه في كتاب الصلاة، ولا خلاف أنه لا يجب بالنية، فلم يَبق إلا أنه يجب بالقول، على أنه لا خلاف أن النذر لا يكون إلا بالأقوال.
__________
(1) ـ في (أ): الاحتمالين.
(2) ـ في (أ): بالنية أو بالدخول.(39/2)

15 / 142
ع
En
A+
A-