ووجه ما قلناه من أن الناسي للصوم فيه كالذاكر في فساد الصوم ما مضى في مسألة الأكل ناسياً.
وقلنا: إن شيئاً منه لو دخل إلى جوفه من غير اختيار منه ولا فعل من قبله كنحو أن يكون نائماً مفتوح الفم، أو يفتح فمه في حال اليقظة غير قاصد به إلى تناول شيء، فيقع [شيء] (1) منه في فيه حتى يصل إلى جوفه أنه لا يفسد صومه، قياساً على الغبار والذباب، والمعنى أنه وصل إلى جوفه بغير اختيار كان منه له، أو لسببه.
مسألة: [في الصائم يتمضمض ويستنشق فيدخل الماء جوفه]
قال: وكذلك إن تمضمض، واستنشق، فدخل الماء إلى جوفه من مضمضته واستنشاقه، فسد صومه، ولزمه القضاء.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (2). وهو قول أبي حنيفة، وأحد قولي الشافعي.
وروي عن جعفر بن محمد عليهما السلام أنه إن كان فعل ذلك متلذذاً بالماء، فعليه القضاء، وإن كان فعله للوضوء، فلا قضاء عليه.
ووجه ما ذهبنا إليه:
قول النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( بالغ في الاستنشاق، إلا أن تكون صائماً ))، فاستثنى المبالغة في الاستنشاق في حال الصوم، مع الأمر بها في سائر الأحوال.
فإن تعلقوا بقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( رفع عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استُكرِهوا عليه ))، لم يصح تعلقهم به؛ لما بيناه فيما تقدم أن التعلق بظاهره لا يصح، فإنه(3) متأول على رفع المآثم، دون فساد الصوم، ألا ترى أنه لا خلاف فيمن أُكره على الطعام والشراب، فتناولهما مكرَهاً، أنه يفسد صومه؟ وأن الذي سقط(4) عنه هو المآثم.
وهو قياس على من شرب الماء؛ بعلة أنه وصل المشروب إلى جوفه بفعله، فوجب أن يفسد صومه، وقياس على سائر ما يفسد الصوم؛ بعلة أنه وقع باختيار الصائم لسببه.
فإن قيل: ما أنكرتم على من قال لكم أنه لا يفسد صومه، قياساً على الغبار والذباب إذا وصل إلى جوفه؛ لتعذر الاحتراز منه؟
__________
(1) ـ سقط من (ب).
(2) ـ انظر الأحكام 1/253 وهو بلفظ مقارب.
(3) ـ في (أ): فإنه.
(4) ـ في (أ): يسقط.(38/28)


قيل له: الوصف غير مسلَّم؛ لأن الاحتراز منه ممكن للمتمضمض، والمتنشق، على أن الغبار والذباب لا(1) يفسدان الصوم؛ لأنهما وصلا إلى الجوف بغير اختيار الصائم للوصول أو سببه.
فإن قيل: إذا كان ذلك متَولِّداً عن فعل مباح، أو مندوب إليه، أو واجب، لم يفسد صومه.
قيل له: هذا فاسد بمن قبّل امرأته، أو ضمها، ثم أنزل، ألا ترى أن المفسد للصوم متولد عن فعل مباح؟ وكذلك من أُكره على الطعام، فأكل، أو مرض مرضاً مخوفاً، فأفطر، ألا ترى أن المفسد للصوم متولد عن أمر واجب؟ وهو زائد على المندوب، والمسافر مباح له الأكل، ومع ذلك يفسد صومه إذا أكل.
مسألة: [في الغبار والذباب وغيره مما لا يضبط إذا دخل الحلق]
قال: فأما الغبار والذباب والدخان وغير ذلك مما لا يضبط، فإن دخوله الحلق لا يفسد الصوم، ولا يلزم القضاء، وكذلك ذوق الشيء بطرف اللسان مثل المضمضة، ولا يفسده ما دخل الفم، ما لم يجر إلى الحلق، من عسل، أو خل، أو غيرهما.
جميعه منصوص عليه في (الأحكام) (2).
والذباب /139/ والغبار ونحوهما لا يفسد بهما الصوم لوجهين:
أحدهما: تعذر الاحتراز منه(3)، فأشبهت الريق.
والثاني: أنها تصل إلى الجوف بغير اختيار الصائم لها، أو لسببها، وعندنا أن ما كان هذا سبيله، لم يفسد الصوم.
مسألة: [في الصائمة إذا جومعت وهي نائمة]
ولو أن صائمة جومعت وهي نائمة، فعلمت، وطاوعت، فسد صومها، ولزمها القضاء، وكذلك القول في المجنونة.
وهذا منصوص عليه في (المنتخب) (4). وهو قول الشافعي، وحكي عن زفر.
وقال أبو حنيفة: يفسد صومها.
__________
(1) ـ في (ب): لم يفسدا.
(2) ـ انظر الأحكام 1/253 ـ 254 وهو بلفظ قريب.
(3) ـ في (أ): منها.
(4) ـ انظر المنتخب 92 وهو بلفظ قريب.(38/29)


أما إذا علمت، وطاوعت، فلا خلاف في فساد صومها، فأما إذا لم تعلم، ولم يحصل منها مطاوعة، فالذي يدل على أن صومها لا يفسد، أنها قد أمسكت على ما أُمرت، فلم يجب أن يفسد صومها، قياساً عليها لو احتلمت، والمعنى أنها اجتنبت بغير اختيار منها.
ويقاس على الذباب إذا دخل الحلق، وصار إلى الجوف، في أنه لا يفسد الصوم، والمعنى أنه أمر للاختيار فيه مسرح، فوجب أن لا يفسد الصوم؛ بعلة أنه ليس باختيار من الصائمله، أو لسببه.
فإن قيل: الجماع ينافي الصوم، فوجب أن يستوي حصوله باختيار، أو بغير اختيار، في أنه يفسد الصوم.
قيل له: لا نسلم أن الجماع ينافي الصوم، وهو الأمر الذي اختلفنا فيه، وعلى هذا لو جومعت مكرهة من غير أن كانت منها مطاوعة، أو تمكين، لم يفسد صومها، وكذلك إن أُوجِرت الطعام مكرهة، لم يجب أن يفسد صومها، فإن أكرهت حتى طاوعته اتقاءً على نفسها، أو أكلت على هذا الوجه، فسد الصيام، لا خلاف فيه.
مسألة: [في من أفطر، هل يمسك باقي يومه؟]
قال: ومن أفسد صومه من رمضان لعارض، أمسك بقية يومه، إذا زال ذلك العارض، ولزمه القضاء، وهذه المسألة قد بينا ما يجب فيها، وفصلنا بين الموضع الذي الإمساك فيه مستحب، وبين ما يكون فيه واجباً، واستوفينا ذلك فيما تقدم، فلا وجه لإعادته.
مسألة: [في الرجل يقبل رمضان عليه قبل أن يقضي ما عليه]
قال: ولو أن رجلاً أفطر أياماً من شهر رمضان، ثم لم يقضها حتى دخل عليه شهر رمضان من قابل، لزمه إطعام مسكين لكل يوم أفطره، والقضاء بعد الخروج من شهر رمضان، وإن كان تَرْكُه القضاء إلى هذا الوقت لعلته، والإطعام نصف صاع من بر.
وقال في (المنتخب) (1): إن كان أفطره لعلة، ثم لم يقضه حتى دخل شهر رمضان من قابل، فليس عليه إلا القضاء.
ماذكرناه أولاً منصوص عليه في (الأحكام) (2).
__________
(1) ـ انظر المنتخب 93 وهو بلفظ قريب.
(2) ـ انظر الأحكام 1/257 وهو بلفظ قريب، إلا أنه قال: وإن صام ولم يطعم أجزأه.(38/30)


وما عزيناه(1) إلى (المنتخب) منصوص عليه. وكان أبو العباس الحسني ـ رحمه اللّه ـ يجعل الروايتين رواية واحدة ويقول: إن الذي ذكره في (الأحكام) من إيجاب الفدية إنما هو حكم من أفطر لغير علة ولا عذر؛ إذ لم يذكر أن ذلك حكمه لو أفطر لعذر، وما ذكره في (المنتخب) هو حكم من أفطر لعلة، وقد ذكر ذلك، فكان يحصل من ذلك أن أصل الإفطار إذا كان لعلة، فلا فدية، وإن تأخر القضاء إلى أن يدخل شهر رمضان من قابل، وإن كان لغير علة وعذر، ففيه الفدية مع القضاء.
وهذا عندي مما يبعد؛ لأنه خلاف الإجماع؛ إذ لا يحفظ عن أحد أنه فرق في هذا /140/ الباب بين من أفطر في الأصل لعذر، أو لغير عذر، لأن الناس فيه على قولين، فقائل يقول: إن عليه الفدية، وإن كان أفطر لعذر، وقائل يقول: لا فدية، وإن كان أفطر لا لعذر، ولأن إطلاق لفظ (الأحكام) يقتضي بعمومه المعذور، وغير المعذور، والصحيح عندي أنهما روايتان مختلفتان، وما في (المنتخب) من تخصيص(2) المعذور بالذكر، فالسب فيه أنه جواب صدر على حسب السؤال، والسائل سأل عن المعذور؛ لأنه أراد الفصل بين المعذور، وغير المعذور.
فوجه ما في (الأحكام) قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِيْنَ يُطِيْقُونَهُ فِدْيَةٌ} فالكناية(3) في قوله يطيقونه لا يخلو إما أن يكون راجعاً إلى الصيام، أو الإطعام، وأي ذلك كان مراداً، فعمومه يوجب الفدية على كل من أفطر، وهو مطيق لأيهما كان، سواء قضى ما فاته قبل رمضان آخر أو لم يقضه، فلما خُص من قضى قبله بالإجماع، لزم من سواه الفدية بحكم العموم.
وقد روي هذا القول عن ابن عباس، وأبي هريرة.
__________
(1) ـ في (أ): عزينا.
(2) ـ في (أ): من غير تخصيص.
(3) ـ في (أ): والكناية.(38/31)


وأخبرنا محمد بن العباس قال: حدثنا محمد بن شعيب، قال: حدثنا أحمد بن هارون، عن أبي بكر بن أبي شيبة، قال: حدثنا يزيد بن هارون، عن سفيان، عن حسين، عن أبي علي الرحبي، عن عكرمة، قال: سُئل الحسن بن علي عليهما السلام مقدمه من الشام عن رجل مرض في رمضان، فلم يصم حتى أدركه رمضان آخر، قال: ((يصوم هذا، ويقضي ذلك، ويطعم عن كل يوم مسكيناً)).
ولا خلاف أن من دخل في الحج، وأحصر، وتحلل، أن عليه الفدية مع القضاء، فكذلك من عليه صوم رمضان، ثم لم يقضه حتى دخل عليه رمضان آخر، والمعنى أنه عبادة يدخل في جبرانها المال، فتأخر عن وقتها المخصوص(1).
فإن قيل: لسنا نسلم أن لقضائه وقتاً محصوراً يتضيق.
قيل له: ندل على ذلك، ولا يمتنع القياس بوصفٍ مدلول عليه، كما لا يمتنع بوصفٍ متفق عليه، والدليل على ذلك قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيْضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرٍ}، فاقتضى قوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرٍ} إيجاب القضاء عقيب الإفطار لوجهين:
أحدهما: أنه بمعنى الأمر، والأمر على الفور.
والثاني: أنه قال: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَر}، والفاء توجب التعقيب، فلما أجمعوا أن له تأخير القضاء إلى أن يدخل شهر رمضان من قابل، قلنا به، وبقي ما بعده على حكم الفوات.
وروي عن عائشة أنها قالت: كان يكون عليَّ القضاء من رمضان، فلا أقضيه حتى يدخل شعبان اشتغالاً برسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، ففيه دليل على أن شعبان آخر وقت القضاء، وأنها أخبرت بذلك، فيَعلم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بقولها: كنت أفعل ذلك اشتغالاً برسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم، ومثل ذلك لا يخفى عليه.
وأقوى ما في هذا أنه مروي عن ابن عباس، وأبي هريرة، روى(2) ذلك عنهما ابن أبي شيبة.
__________
(1) ـ في (أ): المحصور.
(2) ـ في (أ): وروى.(38/32)

14 / 142
ع
En
A+
A-