قيل له: إطلاقه القول بأنه صلى اللّه عليه وآله وسلم رخص للصائم أن يحتجم من غير ذكر القضاء يدل على أن الحجامة لا تفسد الصوم؛ لأن إفساد الصوم للعذر، كان معلوماً قبل ذلك، فكانت فائدة الترخيص إسقاط القضاء، وبيان أنها لا تفسد الصوم، ولا خلاف أن الفصد لا يفسد الصيام، فكذلك الحجامة، والعلة أنه خروج دم لا يوجب الاغتسال، أو خروج دم لا يختص النساء، ويقاس بهذه(1) العلة على الرعاف، ويرجح بسائر(2) ما يخرج من البدن من النجاسات وغيرها في أنها لا تفطر الصائم.
وقلنا: إنه إذا لم يَخَفْ الضعف، لما روي عن ابن عباس، وأبي سعيد الخدري، وأنس أنهم قالوا: إنما كرهت الحجامة للصائم من أجل الضعف.
وروى ذلك عنهم الطحاوي(3) بأسانيده. ولأن على الإنسان أن يوقي نفسه المضار ما أمكن، قال اللّه تعالى: {وَلا تُلْقُوا بَأَيْدِيْكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}.
مسألة: [في الكحل، والذرورة، والحقنة، وصب الدهن في الأذن، والأهليل، والسعوط]
قال: ولا بأس للصائم بالكحل، والذرورة، والحقنة، وصب الدهن في الإحليل والأذن، ويكره السعوط؛ لأنه ربما صار إلى الحلق.
جميع ذلك منصوص عليه في (الأحكام) (4).
والأصل عند يحيى عليه السلام في الصيام أنه لا يفسد إلا بالجماع، أو بالإنزال إذا فُعِل سببه مختاراً له، وبالأكل، والشرب، وما جرى مجراهما، فعلى هذا إن كل واصل إلى الجوف من جهة الحلق مفسد للصوم إذا فعله الصائم مختاراً له، أو لسببه، وما عداه لا يفسد الصوم.
ومذهب أبي حنيفة على ما حصله أبو بكر الجصاص أن كل واصل إلى الجوف /136/ يفسد الصوم، وهو قول الشافعي.
وقال أبو حنيفة: صب الدهن في الإحليل لا يفسد الصوم؛ لأنه لا يصل إلى الجوف.
__________
(1) ـ في (أ): لهذه.
(2) ـ في (أ): سائر.
(3) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 2/100.
(4) ـ انظر الأحكام 1/251 ـ 252 وهو بلفظ قريب.(38/23)


وقول أبي يوسف ومحمد: أنه لا يفسده إلا ما وصل إلى الجوف من المجاري المعهودة، والحجة لذلك قول اللّه تعالى: {عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُوْنَ أَنْفُسَكُمْ..} الآية، فنبه بالآية على إباحة ما كان محظوراً إلى أن يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود، وَذكَر المباح، وهو الجماع، والأكلُ والشرب، فدل على أن الممنوع بالصوم هو ما أباحه ليلاً بالآية، دون ما سواه، ثم قال تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصَّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} والصيام هو الإمساك المخصوص، فكان الإمساك المراد، هو الإمساك عما تقدم ذكره.
فأما الكحل فقد روى أبو بكر الجصاص بإسناده في (الشرح) يرفعه إلى محمد بن عبد اللّه بن رافع، عن أبيه، عن جده، أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم كان يكتحل بالإثمد، وهو صائم. وهو مما لا خلاف فيه بين الفقهاء.
فإن قيل: قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( بالغ في الإستنشاق، إلا أن تكون صائماً )) يدل على أن وصول الماء إلى الدماغ يفسد الصوم، لولا ذلك لم يكن فيه فائدة.
قيل له: هذا لو لم يكن للأنف مجرى إلى الحلق، فأما وقد علمنا أن له مجرى إلى الحلق، كما أن له مجرى إلى الدماغ، فلا يمتنع أن يكون صلى اللّه عليه وآله وسلم قال ذلك؛ لئلا يصل الماء إلى الحلق، ثم إلى الجوف، فيكون ذلك فائدة الخبر، ونحن نقول: إن ما وصل من الحلق إلى الجوف على هذا الوجه يفطر، ولا خلاف أن الكحل لا يفطر، وعند أبي حنيفة صب الدهن في الإحليل لا يفطر، فنجعل ذلك أصلاً، ونقيس عليه سائر ما اختلفنا فيه؛ بعلة أنه واصل إلى باطن الجسد لم يجر في(1) الحلق، ولا أوجب الاغتسال، فيجب أن لا يكون له مسرح في إفساد الصوم، ولا خلاف أن الفصد لا يوجب الإفطار، فيقاس عليه ما اختلفنا فيه بالعلة التي ذكرناها.
__________
(1) ـ في (أ): إلى.(38/24)


وذكر أبو عبد اللّه البصري في شرحه (مختصر الكرخي) أن من طعن بالرمح، حتى وصل إلى جوفه متى لم يفارق الزج الرمح، لم يوجب الفطر، ويمكن أن يجعل ذلك أصلاً، فيقاس عليه إذا كان الكلام معهم، وهو ينقض اعتلالهم بالوصول إلى الجوف علينا، وعلى أبي يوسف، ومحمد.
إذا كان كلامنا مع أبي يوسف ومحمد، يكون كلامنا أظهر؛ لأنهم يسلمون أن ما وصل إلى الجوف من غير المخارق التي هي خلقة، لم يفطر، فيقيس تلك المخارق على غيرها من المنافذ؛ بعلة أنها ليست مجرى الطعام والشراب.
ووجه كراهة السعوط، هو أنه صار إلى الحلق، ووصل إلى الجوف، فأفسد الصوم، ويدل على ذلك قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( بالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً )).
مسألة [في الصائم يقئ]
قال: ومن قاء، أو بدره قيئه، لم يفسد صومه، إلا أن يرجع من فيه شيء إلى جوفه، فإن ذلك يفسده.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (1).
أما من بدره القيء، فلا خلاف أن صومه لا يفسد، ومن تقيأ، ورجع منه شيء إلى جوفه، فلا خلاف في فساد صومه. وإنما الخلاف إذا تقيأ ولم يرجع منه شيء، فإنه عندنا لا يفسد صومه، وذهب أكثر الفقهاء إلى أنه يفسد صومه، وروي عن عكرمة نحو قولنا.
وروى ابن أبي شيبة ـ بإسناده ـ عنه أنه قال: ((الإفطار مما دخل وليس مما خرج)) (2).
والأصل في ذلك قول النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( ثلاث لا يفطرن الصائم: القيء، والحجامة، والاحتلام ))، فكان ذلك عاماً في كل قيء، سواء بدره، أو تعمده.
فإن قيل: روي عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه قال: (( من بدره القيء، وهو صائم، فليس عليه قضاء، وإن استقاء، فليقض )). وروي نحوه عن علي عليه السلام.
__________
(1) ـ انظر الأحكام 12/253 وهو بلفظ قريب.
(2) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 2/298 وإسناده حدثنا هشيم عن حصين، به.(38/25)


قيل له: ظاهر الخبر لا دلالة فيه على موضع الخلاف؛ لأن الاستقاء هو /137/ استدعاء القيء، ولا خلاف أن استدعاء القيء لا يفسد الصوم، وإنما الخلاف في القيء الذي يخرج بالاستدعاء، وهو لا ذكر له في الخبر، فلم يصح لكم التعلق بظاهر الخبر.
فإن قيل: مذهبكم يخرج الخبر عن أن يكون له فائدة.
قيل له: لا يجب ذلك؛ لأنا نذكر للخبر فائدة، وهي أنا نقول أن القيء إذا خرج بالاستدعاء، وإكراه النفس عليه، فالأغلب أن لا يسلم(1) من رجوع بعضه في الحلق، وذلك عندنا يوجب القضاء، وتقدير الكلام أن نقول: من استقاء، ورجع شيء من القيء إلى جوفه، فسد صومه، على أن الذي تقتضيه أصولنا أن من بدره القيء، ثم رجع منه شيء إلى جوفه، من غير أن يكون اختاره الصائم، أو اختار سببه، أنه لا يفسد صومه، فيكون وجه التفرقة بين من قاء وبين من استقاء من هذا الوجه.
فإن قيل: فكيف صار استعمالكم لخبرنا على الوجه الذي ذكرتموه أولى من استعمالنا خبركم؟
قيل له: خبركم لا ذكر فيه، للمختلف فيه ولا بد من ضمير فيه، فصار استعمالنا أولى من استعمالكم.
فإن قيل: روى معدان بن طلحة، أن أبا الدرداء حدثه، أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قاء، فأفطر، قال: فلقيت ثوبان مولى رسول اللّه(2) صلى اللّه عليه وآله وسلم في مسجد دمشق، فذكرت له ذلك، فقال: صدق، أنا صببت له وضوءه.
قيل له: ليس في الحديث ما يدل على أنه صلى اللّه عليه وآله وسلم صار مفطراً بالقيء، ولا يمتنع أن يكون قاء، ثم ضعف، فأفطر، وهذا كما يقال: فلان سافر، فأفطر، ومرض، فأفطر، يراد أنه اختار الفطر عند هذه الأمور. فكذلك ما روي أنه صلى اللّه عليه وآله وسلم قاء، فأفطر.
ويقاس على ما يخرج من البدن من الدم، واللبن، ونحوهما، والمعنى أنه خارج من البدن لا يوجب الغسل، فوجب أن لا يفسد الصوم.
__________
(1) ـ في (أ): أنا لا نسلم.
(2) ـ في (أ): النبي.(38/26)


ويقاس ـ أيضاً ـ على ما ذكرناه من الأصل بعلة أنه خارج من البدن لا عن شهوة، فوجب أن يستوي خروجه ابتداءً، واستدعاء، ويقاس على ما يخرج منه ابتداء بعلة أنه قيء، فوجب أن لا يفسد الصوم.
ووجه ما ذكرنا من أنه إذا رجع منه شيء إلى الجوف بعدما صار إلى الفم يفسد الصوم، هو أنه كسائر ما يدخل حلقه مع اختيار سببه، في أنه يفسد الصوم، ولا يكون سبيله سبيل البزاق؛ لأن البزاق مما لا يمكن الاحتراز منه، فصار عفواً.
مسألة: [في الصائم يبلغ ما لا يؤكل كالدنانير ونحوها]
قال: ومن ابتلع ديناراً، أو درهماً، أو فلساً، أو زجاجاً، أو حصاً، أو غير ذلك، متعمداً، أفسد(1) صومه، وعليه القضاء والتوبة، وإن دخل شيء من ذلك حلقه من غير تعمد، لم يفسد صومه.
إيجاب القضاء على من تعمد ذلك منصوص عليه في (الأحكام) (2) و (المنتخب) (3).
ونص في (المنتخب) (4) على أن من دخل شيء من ذلك حلقه من غير تعمد فلا قضاء عليه، ودل كلامه في (الأحكام) على ذلك.
وتحصيل المذهب في ذلك أن حكم هذه الأشياء حكم غيرها من الطعام والشراب، فإن تعمد الصائم ابتلاع شيء من ذلك ذاكراً للصوم فسد صومه، وعليه القضاء والتوبة، وإن تعمد ابتلاعه ناسياً للصوم، فسد صومه، ولزمه القضاء، ولا توبة عليه، وإن سبق شيء منه إلى حلقه وصار إلى(5) جوفه من غير اختيار الصائم له، أو لسببه، لم يفسد صومه، ووجه ما ذكرنا من أنه إذا تعمد فسد صومه، أنه مأمور بالإمساك، فإذا ابتلع شيئاً من ذلك، لم يكن ممسكاً، وإذا /138/ لم يكن ممسكاً، لم يكن صائماً، وإذا لم يكن صائماً، كان مفطراً، ولزمه القضاء.
وهو قياس على الطعام والشراب؛ بعلة أنه واصل إلى الجوف من مجرى الطعام والشراب بفعل الصائم، فوجب أن يفسد الصوم.
__________
(1) ـ في (أ): فسد.
(2) ـ انظر الأحكام 1/253 وهو بلفظ قريب.
(3) ـ انظر المنتخب 92 وهو بلفظ قريب.
(4) ـ انظر المنتخب 9.
(5) ـ في (أ): في.(38/27)

13 / 142
ع
En
A+
A-