وأخبرنا أبو بكر المقرئ قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا يونس، قال: حدثنا ابن وهب أن مالكاً أخبره عن عبد اللّه بن معمر الأنصاري، عن أبي يونس ـ مولى عائشة زوج النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ـ أن رجلاً قال لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وهو واقف على الباب، وأنا أسمع ـ: يا رسول اللّه، إني أصبح جنباً، وأنا أريد الصوم. فقال صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( وأنا أصبح جنباً، وأنا أريد الصوم، فَأَغْتَسِلُ، وأصوم )). فقال: يارسول اللّه، لست كمثلنا، قد غفر اللّه لك ما تقدم من ذنبك، وما تأخر! فغضب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال: (( والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بما أتَّقِي )). فدل ذلك على صحة ما ذهبنا إليه(1).
فإن قيل: روي عن أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه قال: (( من أصبح جنباً، فلا صوم له )) .
قيل له: قد قال بعض الناس أن الاحتجاج بهذا الخبر لا يصح، وذلك أن في الحديث أن عائشة أنكرت ذلك لما بلغها، وقالت: كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يصبح جنباً من غير احتلام، ثم يصوم يومه، فلما سمعه أبو هريرة، قال: كنت أسمع من الفضل بن العباس، فأحال الخبر على الميت بعد ما رواه عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم، وهذا الطعن غير سديد ولا واقع؛لأن أكثر ما فيه أنه أسنده بعد الإرسال، والصحيح أن يقال في تأويله أن المراد بقوله: من أصبح جنباً؛ من أصبح مخالطاً بدلالة سائر ما اعتمدناه.
ويدل على ذلك ـ أيضاً ـ أن الجنابة من حيث كانت جنابة لا تنافي الصوم،ألا ترى أن من احتلم في نهار الصوم لا يفسد صومه؟ مع حصول الجنابة، فإذا كان ذلك كذلك، وكان [من] (2) أخر الغسل إلى حين الصبح، لم يكن أكثر من حصول الجنابة له في نهار الصوم، فوجب أن لا يفسد صومه.
__________
(1) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 2/106.
(2) ـ سقط من (أ).(38/18)
ويمكن أن يورد ذلك على طريق القياس بأن يقال: إنه حصول جنابة من غير اختيار فِعلِ سببها في حال الصوم، فوجب أن لا يفسد صومه؛ قياساً على الاحتلام نهاراً.
أو يقاس على من بدره القيء، بمعنى أن طروه على الصوم لا يفسده، فوجب أن لا يفسد الصوم بطروه عليه، وكذلك الجنابة، ويمكن أن يقاس على الحيض؛ بعلة أنه موجب للغسل، فوجب أن يستوي حكم طروه على الصوم، وطرو الصوم عليه، فكذلك الاجتناب.
مسألة: [فيمن أفطر وهو شاك في غيببوبة الشمس أو تسحر وهو شاك في طلوع الفجر]
قال: ومن أفطر وهو شاك في غيبوبة الشمس، فقد أفسد صومه، ويلزمه القضاء إلا أن ينكشف [له] (1) أن إفطاره كان بعد غيبوبة الشمس، ومن تسحَّر وهو شاك في طلوع الفجر، لم يفسد صومه إلا أن يتبين له أن تسحره كان بعد طلوع الفجر.
قد نص في (الأحكام) (2) أن القضاء يلزم من أفطر، ولم يتحقق غروب الشمس، وأن من تسحر وعنده أن الفجر لم يطلع ثم استبان له أن الفجر كان طلع وقت تسحره، فعليه القضاء.
وروى عن جده القاسم عليه السلام أن من تسحر وهو شاك في طلوع الفجر، فلا قضاء عليه، ما لم يعلم أن الفجر /134/ صادف تسحره.
__________
(1) ـ سقط من (أ).
(2) ـ انظر الأحكام 1/248 وهو بلفظ قريب.(38/19)
والأصل في ذلك أن من أكل شاكاً في غروب الشمس، فإن كان حصل له يقين بأنه نهار، فاليقين(1) لا يزول حكمه بالشك، ويكون سبيله سبيل من شك في انسلاخ شهر رمضان، ودخول العيد، في أن عليه أن يصوم حتى يتحقق ذلك، وإذا وجب عليه الصوم، فأفطر، يكون عليه القضاء، ولأنه أكل في وقت يلزمه الصوم فيه، فوجب أن يكون مفسداً للصوم، قياساً على من أكل قبل ذلك، وليس لأحد أن يقول إنه لم يجب عليه في ذلك الوقت للشك؛ لأن الشك إذا طرأ على اليقين لم يُزِل حكم اليقين، ألا ترى أن المحدث إذا شك في الطهارة، يكون محدثاً، والمتطهر إذا شك في الحدث، يكون متطهراً، وكذلك القول في النكاح، والطلاق، والعتاق، وغير ذلك، فوجب أن يكون كذلك حكم الشاك في غيبوبة الشمس، فإن بان له بعدما أكل أن الشمس كانت غابت حين أكل لم يفسد صومه؛ لأن سبيله سبيل من أفطر وهو شاك في العيد، ثم بان له أنه أفطر يوم العيد، في أنه لا قضاء عليه، ولأنه يتبين أنه أكل ليلاً، وأنه قد أتم صومه.
فأما من تسحر وهو شاك في الفجر، فلا يفسد صومه؛ لأن الليل متيقن، والفجر مشكوك فيه، وقد بينا أن الشك لا يزيل حكم اليقين، وأن سبيله سبيل من أكل في يوم الشك، في أنه لا يلزمه القضاء مالم يتبين أنه كان يوم الصوم، فإن بان له أنه كان الفجر قد طلع، لزمه القضاء؛ لأنه يكون قد أكل نهاراً، أو يكون سبيله سبيل من أكل في يوم الشك، ثم بان له أنه كان من رمضان، في أن عليه القضاء.
فإن قيل: ما أنكرتم على من قال لكم إن القضاء لا يلزمه؛ لأنه تسحر، وهو لا يعلم بطلوع الفجر، وهو غير مخاطَب بالصوم فيه، وذلك أن اللّه تعالى أمر بالصوم مَن عَلِم طلوع الفجر، ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخِيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} ومن لم يتبين له ذلك، لا يكون مخاطباً بالصوم؟
__________
(1) ـ في (أ): واليقين.(38/20)
قيل له: ليس المراد أن يتبين ذلك لكل أحد على الانفراد، ألا ترى أن المحبوس في الظلمة قد لا يتبين له ذلك، ولا يزول عنه حكم الفرض، أداء، أو قضاء، وكذلك الضرير وإنما المراد أن يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود في نفسه.
كما روي عن عدي بن حاتم أنه قال لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: إني وضعت عند رأسي عقالاً أبيض، وعقالاً أسود، فآكل حتى يتبين لي الخيط الأبيض من الخيط الأسود، فعرَّفه صلى اللّه عليه وآله وسلم أن المراد بذلك حتى يتبين الليل من النهار، على أن زوال الخطاب بالصوم، لا يمنع وجوب القضاء، ألا ترى أن الحائض غير مخاطبة بالصوم وكذلك العاجز عنه بالمرض، ومع ذلك فعليهما القضاء، وكذلك الإنسان غير مخاطب بالصوم في يوم الشك، ما لم يتبين له أنه من رمضان، فإن بان له ذلك بعد، كان عليه القضاء، وكذلك المتسحر مع طلوع الفجر؛ لأنه لم يكن مخاطباً بالصوم، مالم يتبين له طلوع الفجر، فإن عليه القضاء إذا بان له أنه تسحر مع طلوع الفجر؛ لأنه حصل آكلاً في نهار شهر رمضان.
مسألة: [في الحجامة للصائم]
قال: (ولا بأس بالحجامة للصائم إذا أمن على نفسه ضعفها).
وهذا منصوص عليه في /135/ (الأحكام) (1).
والأصل فيه ما:
روي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( ثلاث لا يفطرن الصائم، القيء، والحجامة، والاحتلام )) .
وأخبرنا محمد بن العباس الطبري، قال: حدثنا محمد بن شعيب، قال: حدثنا محمد بن هارون، عن ابن أبي شيبة، قال: حدثنا عبد اللّه بن إدريس، عن يزيد بن(2) مقسم، عن ابن عباس، أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم احتجم بين مكة والمدينة صائماً مُحرِماً(3).
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/242.
(2) ـ في (أ): عن.
(3) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في الكتاب المصنف 2/307 وفيه يزيد عن مقسم.(38/21)
وروى الطحاوي ـ بإسناده ـ عن الشعبي أن الحسين بن علي عليهما السلام احتجم، وهو صائم(1).
فإن قيل: روي عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه رأى رجلاً، وهو يحتجم في شهر رمضان، فقال: ((أفطر الحاجم والمحجوم له)).
قيل له: يحتمل أن يكون النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال ذلك في حاجم ومحتجم بعينهما، ويكون ذكر الحجامة للتعريف، لا لتعلق الحكم بها، كما قال للراكب، والجالس، وما جرى مجراه.
وكما روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (( ولد الزنا شر الثلاثة )) وهذا للتعريف، لا لأن كونه ولد الزنا يوجب أن يكون شر الثلاثة، وكذلك الحاجم والمحجوم يحتمل أن يكون وقع منهما ما أوجب الإفطار. فقال: أفطر الحاجم والمحجوم.
وقد قيل: إنهما كانا يغتابان، فقال صلى اللّه عليه وآله وسلم فيهما ذلك، رواه الطحاوي يرفعه إلى أبي الأشعث الصنعاني(2).
وروى أبو بكر الجصاص في (شرحه) بإسناده ما دل على أنه منسوخ، وذلك أنه قال: مر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم صبيحة ثماني عشرة من رمضان برجل، وهو يحتجم، فقال: (( أفطر الحاجم والمحجوم [له] (3) )). .... فقال: إذا تَبَيَّغ أحدكم الدم فليحتجم.
وروي عن أبان بن أبي عياش، عن أنس، أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: (( أفطر الحاجم والمحجوم[له] (4) )) فشكى الناس الدم، فرخص للصائم أن يحتجم.
فإن قيل: وقوع الرخصة للعذر لا توجب سقوط القضاء، وأن الصوم لم يفسد.
__________
(1) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 2/101 وفيه أن الحسن بن علي (ع): وليس الحسين.
(2) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 2/99.
(3) ـ زيادة في (أ).
(4) ـ زيادة في (أ).(38/22)