قيل له: لسنا ننكر ذلك، وإنما الخلاف أنه كان هتك حرمة الصوم بالوقوع على أهله، أو لأنه حنث فيما ألزم نفسه بالظهار بوقوعه على أهله، وإذ قد روي ذلك، فما ذهبنا إليه أولى؛ لأنا لا نخرجه من أن يكون وطئاً صادف رمضان، وعلى ما يذهبون إليه، قد منعتم أن يكون وطئاً صادف الظهار، وقد روي ذلك.
وـ أيضاً ـ ليس يخلو ما روي من الكفارة ـ إن لم يكن للظهار ـ من أن يكون على طريق الاستحبابُ أو طريق القضاءُ أو طريق الكفارة، ولا يجوز أن يكون على طريق القضاء؛ إذ القضاء هو يوم مكان يوم بالإجماع، ولا يجوز أن يكون على سبيل الكفارة لما روى أبو هريرة ـ وقد مضى إسناده ـ عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( من أفطر يوماً من شهر رمضان من غير رخصة، لم يجزه صيام الدهر )) فإذا بطل الوجهان، ثبت الثالث، وهو ما ذكرنا من الاستحباب.
وأيضاً ما قالو ليس يخلو من أن يكون موجَب الإفطار، أو موجب الهتك، فلا يجوز أن يكون موجَب الإفطار؛ إذ لاخلاف أن المعذور بالإفطار لا يلزمه ذلك، ولا يجوز أن يكون موجَب الهتك على مذهب الجميع؛ لأن أبا حنيفة لا يوجبه لو هتك بابتلاع الحجر، وما أشبهه، أو بإتيان البهيمة، أو بإتيان بني آدم فيما دون الفرجين، والشافعي لا يوجبه لو هتك بالأكل، والإنزال باللمس، ومالك لا يوجبه لو هتك بتكرير النظر إلى أن ينزل، فإذا فسد الأمران، ثبت أنه استحباب، على أن كل هتك لم يوجبوا به الكفارة، يمكن أن يجعل /131/ أصلاً يقاس عليه ما أوجبوا فيه؛ بعلة أنه هتك لحرمة الصوم لغير عذر، فوجب أن لا يلزمه غير التوبة مع القضاء، وـ أيضاً ـ قد ثبت أن الصوم عبادة لا يختص بالحرم، فوجب أن لا يكون على من تركه متعمداً غير القضاء، والتوبة قياساً على الصلوات.
ويمكن أن يقال: إنه فرض، ليس على من أفسده ناسياً كفارة، فكذلك من أفسده متعمداً، قياساً على الصلوات والزكوات.
مسألة: [فيمن يقبل أو ينظر أو يلمس فيمني أو يمذي](38/13)
قال: ومن قَبَّل، أو نظر، أو لمس، فأمنى، فليس عليه أكثر من القضاء، والتوبة، وإن أمذى، استحب له القضاء.
قال(1) في (الأحكام) (2): من قبل، أو نظر، أو لمس، فأمنى، فليس عليه أكثر من القضاء، والتوبة.
ونص في (المنتخب) (3) على إيجاب القضاء على من أمنى من النظر.
فدل ذلك على إيجابه القضاء على من قبل أو لمس فأمنى؛ إذ اللمس والقبلة ألذُّ في ذلك من النظر. وقلنا: فسد صومه؛ لأن إيجاب القضاء لا يكون إلا مع إفساد الصوم.
ونص ـ أيضاً ـ في (المنتخب) (4) على أن القضاء مستحب لمن أمذى.
و[ذهب] (5) عامة الفقهاء على(6) أن الإنزال بالقبلة، واللمس، يفسد الصوم.
ووجهه ما:
أخبرنا به أبو بكر المقرئ قال: حدثنا الطحاوي، عن علي بن معبد، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، قال: حدثنا إسرائيل، عن زيد بن حصين، عن أبي يزيد الضبي، عن ميمونة بنت سعيد، قالت: سئل النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم عن القبلة للصائم، فقال: (( أفطرا جميعاً )) (7)ا.
__________
(1) ـ في (أ): وقال.
(2) ـ انظر الأحكام 1/252 كما ذكره فيه 1/243 وهو بلفظ قريب.
(3) ـ انظر المنتخب 92 وهو بلفظ قريب.
(4) ـ 92 والذي فيه: (وقد قال غير أنه لا يجب القضاء في المذي، وأما أنا فأحب له أن يقضي).
(5) ـ سقط من (ب).
(6) ـ في (أ): إلى.
(7) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 2/88 وفيه زيد بن جيد، ميمونة بنت سعد.(38/14)
فدل الخبر على فساد الصوم من كل قبلة، فلما ثبت بالأخبار المستفيضة عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه كان يقبِّل، وهو صائم، وأنه أباحها لمن لم يَخَفْ إفساد صومه، خَصت القبلة التي لا إنزال معها، وبقيت القبلة التي معها الإنزال، فوجب أن يقع بها الإفطار، وأيضاً قد نبه على ذلك، نهيه صلى اللّه عليه وآله وسلم الشاب عنها، وأباحها للشيخ؛ لأنا لو لم نقل ذلك، كان الخبر لا فائدة له، ألا ترى أن من كان الغالب من أمره أنه لا ينزل من القبلة أباحها له وحظرها على الشاب إذ لم يأمن أن يقع الإنزال بها، ولم يفصل أحد في هذا الباب بين اللمس والقبلة، فيجب أن يكون حكمها حكمه.
ومما يعتمد في فساد صوم من أمنى عن قبلة، أو نظر(1) أو لمس، ما أجمعنا عليه فيمن أتى أهله فيما دون الفرجين، فأنزل أنه يفطر، فكذلك يفطر من أنزل من قبلة، أو نظر، أو لمس، قياساً عليه، والمعنى أنه أنزل مختاراً، فعل سببه، فإن ألزموا عليه من فكر، فأنزل، فلا نص عليه لأصحابنا، وليس يبعد(2) أن يقول أنه إذا فكر مختاراً للفكر حتى أنزل، فسد صومه، على أنا لو أردنا الاحتراز منه لقلنا: أنزل مختاراً، بسبب من أفعال الجوارح، ولا يبعد أن يقال إن أفعال القلوب لا تأثير لها في إفساد العبادات، وإن كان لها تأثير في صحتها في بعض المواضع، كالنية فيما هي شرط في صحته، على أن الحسن، ومالكاً، يوافقان في الإنزال بالنظر، والخلاف فيه بيننا وبين أبي حنيفة، والشافعي.
ويؤكد علتنا للنظر ما:
روي عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( العينان تزنيان، واليدان تزنيان )) ويصدق ذلك، ويكذبه الفرج، فنبه على أن حكم العينين حكم اليدين في استدعاء الشهوة.
فإن قال من خالف في الإنزال عن النظر أن العلة في القبلة واللمس وإتيان ما دون الفرجين أنه استدعاء الإنزال بالمباشرة.
__________
(1) ـ في (أ): نظرة.
(2) ـ في (أ): ببعيد.(38/15)
قيل له: علتكم لا تنافي علتنا، فنقول /132/ بهما(1)، وتكون علتنا أعم وأرجح؛ لأن اختيار السبب مراعى عندهم؛ لأنه لو وقع ذلك في النوم لم يفسد صومه.
ووجه قولنا أن القضاء مستحب في المذي ما:
روي من نهي النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم الشاب عن القبلة، والأغلب في الشاب أنه إذا قبل أمذى، فأما الإمناء، فهو نادر، فلولا أن للمذي تأثيراً ما في الصوم لم ينهه صلى اللّه عليه وآله وسلم من غير تقييد بالأمر النادر، وهو الإمناء.
فإن قيل: فمن الجائز أن لا يمذي، ومع ذلك فلم يقيده بالمذي.
قيل له: الأغلب من حال الشاب أنه يمذي، فكان العرف الغالب مغنياً عن التقييد، وـ أيضاً ـ وجدنا للعبادات التي يؤثر فيها المذي تأثيراً دون ذلك التأثير من جنسه، ألا ترى أن خروج المني لما أوجب الاغتسال، كان خروج المذي موجباً للوضوء؟
وقال أصحابنا في المحرِم إذا قبل، فأمنى أن عليه بقرة، وإن(2) أمذى، ولم يمنِ، فعليه شاة، فلما كان ذلك كذلك، وكان خروج المني من القبلة يوجب القضاء، قلنا: إن خروج المذي يجعل القضاء مستحباً؛ ليكون له تأثير دون تأثير المني في الصوم.
فإن قيل: لا يخلو صوم الذي يمذي من أن يكون صحيحاً، أو فاسداً، فإن كان فاسداً أوجب(3) القضاء، وإن كان صحيحاً فلا معنى للقضاء، ولا مساغ إذاً لاستحباب القضاء فيه.
قيل له: لا يمتنع أن يكون الصوم صحيحاً، ويكون قد عرض فيه ما أوجب النقض، فيجبر بالقضاء، كما تجبر الصلاة بسجدتي السهو، وكما يجبر حج المتمتع بالهدي، وإن كان صحيحاً، وليس لأحد أن يقول: إن جبر الحج واجب، فيقولوا في جبر الصوم: أنه واجب، وذلك [أنه] (4) لا يمتنع أن يختلف حال الجبر، وإنما كان غرضنا أن نبين أن الصحيح قد يجبر(5) لأمر يعرض فيه.
مسألة: [في من يصبح جنباً في رمضان]
__________
(1) ـ في (أ): فقول لهما وتكون علتنا.
(2) ـ في (أ): فإن.
(3) ـ في (أ): وجب.
(4) ـ سقط من (أ).
(5) ـ في (ب): انجبر.(38/16)
قال: ومن أصبح جنباً، لم يفسد صومه، سواء أصبح ناسياً، أو متعمداً، من جماع، أو احتلام.
نص في (الأحكام) (1) على أن من أصبح جنباً في شهر رمضان، فلا شيء عليه، وروى عن جده القاسم عليه السلام أنه يجزئه صومه، واحتج بحديث أم سلمة رضي الله عنها.
وقلنا: يستوي فيه النسيان، والتعمد؛ لأن عموم قوله يقتضيه، ولأن أصوله تدل على ذلك؛ لأنه لا يفصل فيما يفسد الصوم بين العمد والخطأ، وكذلك الجماع، والاحتلام، يستويان بعموم(2) قوله، سيما واستشهاده بحديث أم سلمة، وفيه الجماع. وهو قول عامة الفقهاء، والإمامية تخالف فيها.
ووجه قولنا أنه تعالى أباح الجماع في جميع الليل بقوله تعالى: {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ..} إلى قوله: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} ومن استوفى الليل جماعاً، حصل اغتساله في بياض النهار، فلو كان تأخير الغسل إلى الصباح يمنع من جواز الصوم، لم يصح أن يكون الجماع مباحاً في الليل كله أجمع، وفي كونه مباحاً في الليل كله أجمع دلالة على أن تأخير الغسل إلى الصباح لا يفسد الصوم.
ويدل على [صحته](3) الحديث الذي استدل به يحيى عليه السلام وهو ما:
رواه زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام قال: خرج رسول اللّه صلى اللّه /133/ عليه وآله وسلم ورأسه يقطر، فصلى بنا الفجر في شهر رمضان، وكانت ليلة أم سلمة، فأتيتها، فسألتها، فقالت: نعم، كان جمعاعاً من غير احتلام، فأتم صوم ذلك اليوم، ولم يقضه.
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/245 وهو بلفظ قريب.
(2) ـ في (أ): لعموم.
(3) ـ في (أ) و (ب): صحة، وما أثبتناه في هاش (أ) و (ب).(38/17)