وأخبرنا أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا فهد، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالح، قال: حدثني الليث، قال: حدثني عبد الرحمن بن خالد بن مسافر، عن ابن شهاب، عن حميد، عن عبد الرحمن أن أبا هريرة قال: بينا نحن عند النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم إذ جاءه رجل، فقال: يا رسول اللّه، هلكت. فقال له النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( ويلك، ما لك ))؟ فقال: وقعت على امرأتي، وأنا صائم في رمضان. فقال له النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( هل تجد رقبة تعتقها ))؟ قال: لا. فقال(1): ((هل(2) تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين ))؟ فقال: لا. قال: (( فهل تجد أن تطعم ستين مسكيناً))؟ فقال: لا. فسكت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، فبينا نحن كذلك إذ أُتِي رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بعرق فيه تمر والعرق الْمِكْتَل فقال صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((أين السائل آنفاً، خذ هذا، وتصدق به )) (3)ا. فقال الرجل: ما على وجه الأرض أفقر مني يا رسول اللّه، فوالله ما بين لابتيها أفقر من أهل بيتي، فضحك رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم حتى بدت أنيابه، ثم قال: ((أطعمه أهلك )). فصار هذا الخبر يقتضي الترتيب، ويوجبه، فلما كان أحد الخبرين موجباً للترتيب، ووجوبه مانع(4) من التخيير، والخبر الثاني موجباً للتخيير، ووجوبه مانع من الترتيب، وكان لا يصح أن يجامع التخييرُ المنَع منه، ولا أن يجامع الترتيب، المنعَ منه، حصل التعارض.
__________
(1) ـ في (أ): قال.
(2) ـ في (أ): فهل.
(3) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 2/60 ـ 61، وفيه عن حميد بن عبد الرحمن وهو الصواب، وقد تقدم في الحديث السابق، هكذا، وفي متنه، فهل تجد إطعام، وأيضاً فقال الرجل أعلى أهلٍ أفقر مني يا رسول الله فوالله، وأيضاً يجيب بقوله؛ لا والله يا رسول الله.
(4) ـ في (أ): مانعاً.(38/8)


فإن قيل: حصول التعارض في أوصاف الحكم لا يوجب(1) حصوله في الحكم.
قيل له: إذا لم يصح حصول الحكم إلا مع تلك الأوصاف، فما منع حصولَها، منع حصول الحكم بحصول التعارض في الأوصاف التي ذكرناها كحصوله في الحكم.
والوجه الآخر الموجب للتعارض هو أن المنقول إليه عن(2) العتق هو الصيام في الخبر الذي ذكرناه، وقد روي خلاف ذلك:ـ
أخبرنا أبو العباس الحسني قال: أخبرنا أبو أحمد الأنماطي، قال: أخبرنا علي بن عبدالعزيز، قال: حدثنا حجاج بن المنهال، قال: حدثنا /129/ حماد بن سلمة، عن عطاء الخراساني، عن سعيد بن المسيب، أن أعرابياً أتى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وهو ينتف شعره ويضرب بصدره ويقول: هلكت. قال: (( ما أهلكك ))؟ قال: وقعت على أهلي، وأنا صائم. قال: ((اعتق رقبة )). قال: لا أجد. قال: (( اهدِ هدياً )). قال: لا أجد. قال: (( اجلس، فجلس، فجاء أعرابي بِمكْتَل فيه نحو عشرين صاعاً من تمر فقال: هذه صدقة، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( خذه، فتصدق به )). فقال الأعرابي: ما لأهلي من طعام. فقال: (( خذه، وأطعمه أهلك )).
__________
(1) ـ في (ب): يجب.
(2) ـ في (أ) و (ب): على، وما أثبتناه ظنن عليه في الهامش.(38/9)


وأخبرنا أبو العباس الحسني قال: أخبرنا ابن سدوسان، قال: حدثنا [أبو] (1) حاتم الرازي، قال: حدثنا ابن نفيل، وعبد الله بن مروان، قالا: حدثنا موسى بن أعين، عن ليث، عن مجاهد، عن أبي هريرة، قال: جاء رجل إلى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: إني أتيت أهلي في رمضان، من غير سفر، ولا مرض. قال: (( بئس ما صنعت، أعتق رقبة )). قال: لا أجد رقبة. قال: (( انحر بدنة )). قال: لا أجد. قال: (( تصدق بعشرين صاعاً من تمر )). قال: ما هو عندي. فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( هو عندنا، فنحن نعطيك، فأمر له بعشرين صاعاً من تمر، أو بواحد وعشرين صاعاً من تمر )). وقال(2): ((تصدق بهذا)) قال: <على مَن يا رسول اللّه؟ ما بين لابتيها أفقر مني، ومن أهل بيتي. قال: (( فاذهب، فهو لك، ولأهل بيتك )). فصار المنقول إليه عن العتق في هذين الخبرين هو النحر، وليس فيهما ذكر الصيام، ولا إطعام ستين مسكيناً، وقد علمنا أن النقل عن العتق إلى الصيام يمانع النقل إلى النحر، فصح ـ أيضاً ـ بهذا ما ذكرناه من التعارض.
فإن قيل: فالأخبار متفقة على وجوب الرقبة.
قيل له: لا خلاف بيننا وبين الفقهاء في أن وجوب الرقبة على من قدر عليها، كوجوب الصيام على من لم يقدر على الرقبة، وقدر على الصيام؛ لأن من مذهبهم إثبات وجوبهما(3)، ومن مذهبنا نفيه، فإذا سقط وجوب الصيام لتعارض الأخبار، سقط وجوب الرقبة؛ لأنه كوجوب الصيام، على أنه قد روي الصدقة بغير ذكر الرقبة، ولا البدنة.
__________
(1) ـ سقط من (أ) و (ب): ولكن سيأتي ذكره هكذا قريباً.
(2) ـ في (أ): فقال.
(3) ـ في هامش (ب): وجوبها.(38/10)


أخبرنا بذلك أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا الطحاوي، عن علي بن شيبه، قال: حدثنا يزيد بن هارون، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عباد بن عبد اللّه بن الزبير، عن عائشة أن رجلاً أتى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وذكر أنه احترق، فسأله عن أمره فقال: وقعت على امرأتي في رمضان. فأُتى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بمكيل ـ يدعى العرق ـ وفيه تمر، فقال: (( أين المحترق ))؟ قال: (( تصدق بهذا )) (1) .
فكل ذلك يكشف حصول التعارض، والتنافي في الموجب.
فإن قيل: فقد أجمعوا على ترك الخبر الذي فيه الانتقال عن العتق إلى البدنة، وترك الخبر الذي يوجب الاقتصار على الصدقة.
قيل له: ليس الأمر على ما ذكرت، فقد روي عن الحسن أنه كان يأخذ بالخبر الذي فيه العدول إلى البدنة.
وذكر الطحاوي(2) في (شرح الآثار) أن قوماً قالوا: لا يجب من الكفارة غير الصدقة، وأخذوا بالخبر الذي رويناه أخيراً، ونحن لا نسقط شيئاً من هذه الأخبار، ونحملها على الاستحباب؛ لما بيناه من امتناع حصول الوجوب، للتعارض وغير ذلك مما نبينه(3) من بعد.
والوجه الثاني: ماذكرناه مِن أن في الأخبار ما يدل على أن المذكور فيها طريقه الاستحباب، دون الإيجاب، وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم للأعرابي الذي أتاه:/130/ ((كله أنت، وعيالك ))، وفي بعض الأخبار: (( كلْه ))، وفي بعضها: (( كله، واستغفر الله )).
__________
(1) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 2/95.
(2) ـ انظر شرح معاني الآثار 2/60.
(3) ـ في (أ): يثبت.(38/11)


ولاخلاف أن من وجب عليه إخراج حق إلى الفقراء، لا يجوز له أكله، فلما أذن له النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم في أكل ما كان أَمَره أن يتصدق به، عُلم أنه لم يكن واجباً، وأنه كان مستحباً و ـ أيضاً ـ لما قال: (( كله، واستغفر اللّه ))، كان ذلك أمراً بالاستغفار، وأذناً بالأكل لِمَا كان أمَره بالتصدق به، فدل ذلك على أنه لم يجب عليه [إلا] (1) الاستغفار.
فإن قيل: وقد روي في الظهار مثل هذا، ولم يدل ذلك على أن كفارة الظهار غير واجبة.
قيل له: لو خُلينا وظاهر ما روي فيه، لقلنا أن الكفارة فيه استحباب، كما قلنا فيمن أفطر في شهر رمضان، لَكِنَّا قلنا بإيجابها؛ للدلالة التي دلت عليه من غير ذلك الخبر.
والوجه الثالث: من الكلام فيها ما روي أن الرجل كان مظاهراً، وأن الكفارة كانت كفارة الظهار؛ بدلالة ما:
روي عن سلمة بن صخر قال: كنت امرء أصيب(2) من النساء ما لا يصيب غيري، فلما دخل شهر رمضان، ظاهرت من امرأتي إلى انسلاخه، فبينا هي تخدمني؛ إذ انكشف ساقها، فلم ألبث أن نزوت عليها، فجئت إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال لي: ((حرر رقبة.. )) الحديث.
ويدل على ذلك ما أخبرنا به أبو العباس الحسني رحمه الله تعالى قال: أخبرني ابن سدوسان، قال: حدثنا أبو حاتم الرازي، قال: حدثنا يحيى الحماني، قال: حدثنا هشيم، عن ليث، عن مجاهد، عن أبي هريرة، أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أمر الذي أفطر في رمضان بكفارة الظهار، فدل ذلك على أن الكفارة كانت للظهار، وأن الرجل كان مظاهراً؛ إذ لا يؤمر بكفارة الظهار إلا المظاهر، وفيه دلالة على أن الكفارة لا تجب بإفساد الصوم، ولو وجبت، لأمر بكفارة أخرى، ولم يقتصر على كفارة واحدة، التي كانت للظهار.
فإن قيل: ففي الحديث على أن الكفارة وجبت للوقوع على أهله.
__________
(1) ـ سقط من (أ).
(2) ـ في (أ): أصيبت.(38/12)

10 / 142
ع
En
A+
A-