الكتاب : شرح التجريد

أحدها: أنَّه قياس الشيء على جنسه؛ لأنهما شهادة رؤية الهلال على شهادة رؤية الهلال، وليس كذلك قياسهم؛ ولأن قياسنا مَنَع الوجوب بغير واسطة، وقياسهم اقتضى الوجوب بالواسطة، ألا ترى أنهم أثبتوا الجواز ثم قالوا لا قول بعده إلاَّ القول بالوجوب؟ على أن قياسنا نفى الأمرين ـ أعني الجواز والوجوب ـ فهو أعم من قياسهم، على أن قياسنا اقتضى الحظر؛ لأنَّه يمنع الصيام على أنه من رمضان، وقياسهم اقتضى الجواز، ثم /107/ تطرقوا إلى إثبات الوجوب، على أن المانع الذي ذكروه لا يحصل بشهادة الواحد بالاتفاق، ألا ترى أن الإفطار لا بد فيه من شهادة عدلين؟ والمانع من أداء الصلاة ـ وهو النجاسة ـ يُحكم بحصوله بشهادة الواحد، فدل ذلك على أن موضوع رؤية الأهلة طريقه طريق الشهادات، وأنه لا يقبل فيه قول الواحد، وأن موضوع حصول النجاسة وزوالها طريق الأخبار، فقبل فيه خبر الواحد، يحقق ذلك أنما ذكرناه أولى.
فإن قيل: إنما وجب في هلال الفطر، وهلال ذي الحجة أن لا يقبل فيهما إلاَّ شهادة عدلين؛ لأن حقوق المال تتعلق بهما، وهي زكاة الفطر، والأضحية.
قيل له: ويتعلق بالصوم أيضاً، ألا ترى أن زكاة الفطر تتعلق باليوم الواحد والثلاثين من يوم الصوم؟ ولا فصل بين الرؤيتين(1)، إلاَّ أن الزمان بين إحدى الرؤيتين(2) وبين وقت زكاة الفطر أكثر من الزمان الذي بين الرؤية الأخرى، وبين وقت زكاة الفطر، وكثرة الزمان في هذا الباب لا تأثير له.
فإن قيل: إن هذه الشهادة تُلزِم مقيمها ـ نفسه ـ من الفرض ما يَلزم غيره، فوجب أن يكون طريقها الخبر، وأن يقبل فيها الواحد.
قيل له: هذا منتقض بشهادة الفطر؛ لأنه يُلزم نفسه زكاة الفطر كما يُلزم غيره، ولا خلاف أن أحد الورثة إذا شهد بحق على الموروث أنَّه لا يحكم به، وإن كان يلزمه بشهادة نفسه من الفرض ما يلزم غيره.
__________
(1) ـ في (أ): الروايتين. والصواب ما أثبتناه.
(2) ـ في (أ): الروايتين.(35/3)


فإن قيل: الاحتياط يقتضي الصوم بشهادة الواحد.
قيل له: لا احتياط في ذلك؛ لأن الخلاف ما وقع في الصوم، ألا ترى أنا نختار صيام يوم الشك، وإن لم يكن شهادة؟ وإنما الخلاف في صيامه على طريق الوجوب، وليس من الاحتياط إيجاب ما ليس بواجب، على أنَّه يؤدي إلى أن يكون الإفطار بشهادة الواحد، أو بصيام أكثر من شهر، وكلاهما فاسد، فكيف يدعى فيه الاحتياط؟ على أن كونه مؤدياً إلى أن يفطر بشهادة الواحد، أو بصيام أكثر من شهر يرجح قياسنا.
وقلنا: إنَّه إذا كان في السماء علة، يُعَدُّ الشهر ثلاثين يوماً لما:
رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا أبو الأحوص، عن(1) سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((صوموا لرؤيته، وافطروا لرؤيته، فإن حالت دونه غيابة، فأكملوا ثلاثين)) (2).
وروى ابن أبي شيبة ـ بإسناده ـ عن الأعرج، عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذكر الهلال، فقال: ((إذا رأيتموه، فصوموا، وإذا رأيتموه فافطروا، فإن غم(3) عليكم، فعدوا ثلاثين )) (4).
وروى أبو داود في السنن ـ بإسنادهـ عن عائشة، قالت: كان رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم يتحفظ من شعبان ما لا يتحفظ من غيره، ثم يصوم لرؤية رمضان، فإن غم عليه، عَدَّ ثلاثين يوماً، ثم صام.
وفي بعض الأخبار ((فإن غم عليكم، فعدوا شعبان ثلاثين يوماً)).
وما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من النهي عن الصوم في يوم الشك يحقق ذلك.
__________
(1) ـ في (ب): عما، والصواب ما أثبتناه.
(2) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المنصف 2/284، ولعله لا تصوموا قبل رمضان.. الخ.
(3) ـ في (أ): أغمى.
(4) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 2/284 وفيه حدثنا محمد بن بشر، حدثنا عبيد الله بن عمر عن أبي الزنادية.(35/4)


ومعنى إكمال شعبان عندنا هو أن لا يصوم يوم الشك على أنَّه من رمضان قطعاً، لأنَّه لم يصمه كذلك بكون اليوم معدوداً من شعبان، وإلا فالمستحب عندنا هو الصوم في ذلك اليوم على ما يجيء القول فيه.
فصل [ولا فرق في قبول الشهادة بين صحو السماء وغيمها]
الهادي عليه السلام لم يفصل في قبول الشهادة بين أن تكون السماء /108/ مصحية لا علة فيها، وبين أن تكون السماء مغيمة، فاقتضى ظاهر قوله جواز قبولها مع الصحو، خلافاً لأبي حنيفة في منعه قبولها مع الصحو.
والأصل في ذلك:
ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أنه أمرنا أن ننسك ـ إذا لم يكن رؤية ـ إذا شهد ذوا عدل،[و] ليس فيه ذكر الغيم، وعمومه يسوي بين حال الصحو، وحال الغيم.
وكذلك ما روي عن الأعرابيين اللذين وفدا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسألهما: ((أمسلمان أنتما ))؟ فقالا: نعم فقال: (( أهللتما ))؟ قالا: نعم، ليس فيه ذكر الغيم والصحو.
وكذلك حديث ابن عمر، وحديث الأعرابي، فكل ذلك يبين أن لا فرق بين الصحو، والغيم.
وما روي عن علي عليه السلام: ((إذا شهد ذوا عدل، فصوموا، وأفطروا)) يقتضي التسوية بين الصحو والغيم.
وفيه من جهة النظر أنَّه لا خلاف في جواز قبول الشهادة إذا كانت السماء مغيمة، فكذلك إذا كانت مصحية، والمعنى أنها شهادة على الأهلة، فيجب أن يستوي فيها حال الغيم، وحال الصحو.
فإن قيل: يمتنع ذلك من قِبَل أنها إذا كانت مصحية، فلا يجوز أن تقع الرؤية للواحد والاثنين والثلاثة، دون أن تحصل للجماعات الكثيرة؛ لأن الدواعي تدعو إلى طلب الرؤية، وإذا(1) طلبوها، وجب أن يروا، فإذا لم يروا، كان ذلك كالتهمة في قول الواحد والاثنين.
__________
(1) ـ في (أ): فإذا.(35/5)


قيل له: هذا الذي ادعيتموه في أن الواحد إذا ـ رأى ولا علة ـ يجب أن يراه الجماعة غير صحيح؛ لأنَّه لا يمتنع أن يعرض الخطأ في السماء، أو يكون الواحد أحَدَّ بصراً من غيره، وإنما تصح تلك الطريقة في المرئي، إذا لم يكن هناك منع، وهاهنا مانع ظاهر، وهو البعد، فلا يمتنع ما ذكرناه، وإذا لم يمتنع، لم يجب أن يصير ما ذكرتموه تهمة.
فصل [هل يتقدم الصوم والإفطار على الرؤية أم لا؟]
ذهب بعض الجهال من الشيعة إلى أنَّه لا اعتبار بالرؤية، وأن الهلال إذا رؤي عشية، كان ذلك اليوم من الشهر الجديد، وقالوا: في قوله: ((صُومُوا لِرؤيته، وافطروا لرؤيته))، أن الصوم والإفطار يجب أن يتقدما على الرؤية، كما أن القائل إذا قال: تسلح للحرب، يجب أن يكون التسلح قبل الحرب، وإذا قال: تطهر للصلاة، يجب أن يكون التطهر قبل الصلاة، وهذا قول خارج عن(1) إجماع المسلمين، وليس يُحفظ عن أحد من السلف، ولم يكن سبيل مثل هذا أن يُذكر في هذا الكتاب، إلاَّ أن قوماً من الجهال قد اغتروا به، ويحجهم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر بالصوم بعد ما شهدوا عنده على الرؤية في حديث الأعرابيين، وحديث ابن عمر، وحديث الأعرابي. وأما قولهم: إن قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((صوموا لرؤيته، وافطروا لرؤيته)) يوجب أن يكون الصوم قبل الرؤية، وكذلك الإفطار، وضربهم المثل لمن(2) قيل له: تسلح للحرب، وتطهر للصلاة، فقول فاسد؛ لأن قوله: ((صوموا لرؤيته)) كقوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ}، ولا خلاف أن الصلاة بعد الدلوك، وذلك(3) أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم جعل أمارة وجوب الصوم والإفطار الرؤية، كما جعل تعالى أمارة وجوب الصلاة دلوك الشمس، ومن شأن ما هو أمارة للشيء أن يتقدمه، فيحصل العلم به، ثم يُعلم الحكم بعدها، وليس كذلك التسلح للحرب؛ لأنَّه كالآلة
__________
(1) ـ في (أ): من.
(2) ـ في (ب): لمن.
(3) ـ في (ب): وذكر وظنن في الهامش أنها ما أثبناه.(35/6)


للحرب، وليس يمتنع في الآلات أن يكون فيها ما يجب تقدمه على ما هو آلته، وإن كان فيها ما لا يجب فيه، والتطهر أمر به /109/ يتوصل إلى الصلاة، فوجب أن يكون قبلها، وليس كذلك الصوم؛ لأنَّه لا يصح أن يقال فيه: إنَّه يتوصل به إلى الرؤية، فبطل ذلك.
مسألة [في عدة شهر رمضان]
قال: وقد يكون شهر رمضان تسعة وعشرين يوماً، وقد يكون ثلاثين يوماً.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (1).
وهو قول عامة الفقهاء من أهل البيت عليهم السلام وغيرهم، وحكي عن شرذمة أنهم قالوا: لا يكون أقل من ثلاثين يوماً.
والأصل في ذلك:
ما روى ابن أبي شيبة ـ بإسناده ـ عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: ((كم قد مضى من الشهر ))؟ قلنا: مضى اثنان وعشرون يوماً، وبقيت ثمان. فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((بل مضى اثنان وعشرون يوماً، وبقيت سبع، التمسوها الليلة ))، ثم قال: ((الشهر هكذا، والشهر هكذا ))، ثلاث مرات، وأمسك بواحدة(2).
وروي عن أبي هريرة، ونقص في الثالثة أصبعاً.
وروى أبو داود في (السنن)، عن ابن مسعود، قال: ((صمنا مع رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم تسعاً وعشرين أكثر مما صمنا معه ثلاثين)).
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/230 وهو بلفظ قريب.
(2) ـ في (أ) و (ب): واحدة. أخرجه ابن أبي شيبة في الكتاب المصنف 2/332 وإسناده حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي صالح، به.(35/7)

1 / 142
ع
En
A+
A-