قال: ولا بأس أن يغسل الرجل زوجته، والمرأة زوجها، ويتقيان النظر إلى العورة، وكذلك إن مات الرجل بين النساء، أو ماتت المرأة بين الرجال، وكان مع الميت محرم، أزره، وسكب عليه الماء سكباً، وغسل بدنه بيديه، ولم يمس العورة، ولم يدن منها، ويسكب الماء عليها سكباً، وإن لم يكن معه محرم، يُمم، إلاَّ أن يكون الماء ينقيه بالسكب فإنه يسكب عليه، ولا يكشف شيء من بدنه وشعره.
قال: وقال القاسم عليه السلام: والنساء يَغسلن الغلام الذي لم يحتلم إذا لم يكن معهن رجل.
جميع ذلك منصوص عليه في (الأحكام)(1)، إلاَّ ما حكيناه عن القاسم عليه السلام فإنه منصوص عليه في (مسائل النيروسي).
أما غسل المرأة زوجها، فمما لا أعرف فيه خلافاً بين الفقهاء، وقد روي أن أسماء بنت عميس غسلت زوجها أبا بكر، ولم ينكر ذلك أحد من الصحابة، فجرى مجرى الإجماع منهم.
وروي عن عائشة أنها قالت: لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما(2) غسل رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم غير نساءه، ولم ينكر ذلك القول عليها أحد، فجرى أيضاً مجرى الإجماع.
وأما غسل الرجل امرأته إذا ماتت، فالذي يدل على جوازه ما روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دخل على عائشة وهي تقول: وارأساه، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (( لا عليك، لو مت قبلي، لغسلتك، وكفنتك، وحنطتك /236/، ودفنتك )). فدل الخبر على أنَّه كان يغسلها بعد الموت.
فإن قيل: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( لو مت قبلي، لغسلتك ))، هو شرط، والإخبار هو مقدار قوله: (( لا عليك )) والشرط يجوز أن يكون صحيحاً، وأن يكون غير صحيح، ألا ترى أنَّه ليس يمتنع أن يقول: لا عليك، لو أحل الله الخمر، فشربتها(3)، وإن كان الخمر مما لا يحل، ويأثم شاربها؟
__________
(1) انظر الأحكام 1/151 ـ 152.
(2) في (أ): ما.
(3) في (أ): لشربتها.(23/7)
قيل له: هذا وإن كان كذلك، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قصد بهذا القول تسليتها، ولا يجوز أن يسليها بما لا يجوز أن يكون مراده صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأن ذلك يجري مجرى التغرير، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم منزه عن ذلك.
فإن قيل: يحتمل أن يكون مراده بقوله: (( لغسلتك ))، أي(1) أمرت بغسلك، وكما روي أنَّه رجم ماعزاً، أي أمر برجمه؟
قيل له: نحن قد بينا أن هذا القول منه صلى الله عليه وآله وسلم تسلية منه لها وتخفيف لأمر الموت عليها، ولو كان المراد به الأمر بغسلها لم يحصل هذا المعنى؛ لأن أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالغسل قد حصل لكل مسلم، وكذلك أمر الله تعالى، وعائشة لم يكن يخفَ عليها ذلك، فصح أن المراد بذلك هو أنَّه كان يتولى الغسل بنفسه، وذلك يصحح ما نذهب إليه.
فإن قيل: روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال لعائشة: (( إن جبريل عليه السلام أخبرني أنك زوجتي في الجنة ))، فيجوز أن يكون قال لها ذلك لعلمه أن ما بينهما في الدنيا لا ينقطع بينهما في الآخرة.
قيل له: كونها زوجة له في الجنة لا يغير شيئاً من أحكام الدنيا، فلا وجه للإعتبار به.
ويدل على ذلك ما روي أن أمير المؤمنين غسل فاطمة عليهما السلام، وفيه وجهان من الدلالة، أحدهما: أن فعله عندنا حجة. الثاني(2): أن أحداً من الصحابة لم ينكر عليه، فجرى مجرى الإجماع منهم.
فإن قيل: إن ذلك جائز له؛ لأن السبب الذي كان بينهما لم ينقطع؛ لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( كل سبب ونسب منقطع يوم القيامة، إلاَّ سببي ونسبي )).
__________
(1) سقط من (أ): أي.
(2) في (ب): والثاني.(23/8)
قيل له: هذا ـ أيضاً ـ لا تأثير له في أحكام الدنيا، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم زوج ابنتيه من عثمان واحدة بعد واحدة، فلو كان لما ذكرتم تأثير في أحكام الدنيا، لكان عثمان في حكم من جمع بين الأختين، فبان بما ذكرناه سقوط ما سألوا عنه، وكذلك(1) لو كان لما ذكروا تأثير، لوجب أن يجوِّز الأولاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم غسل نسائهم إذا متن، وبمثله يسقط قول من قال: إن ذلك ساغ لعلي عليه السلام؛ لأن فاطمة صلوات الله عليها كانت زوجته في الدنيا والآخرة.
فإن قيل: روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنَّه قال: (( لا ينظر الله عزَّ وجل إلى رجل نظر إلى فرج امرأة، وابنتها ))، ولا خلاف أن للرجل أن يتزوج بابنت امرأته إذا لم يكن دخل بها، فلو جوزنا له غسلها إذا ماتت، وتزوج بابنتها، لأدى إلى أن ينظر إلى فرج امرأة، وابنتها /237/، فلما لم يجز ذلك، علمنا أنَّه لا يجوز له غسلها.
قيل له: المراد بذلك أن ينظر إلى فرج امرأة وابنتها على وجه يحرم، فإذا ثبت أن للرجل أن يغسل زوجته، ثبت أنَّه غير مراد بالخبر؛ إذ النظر غير محرم على هذا الوجه، على أنا نأمر الزوج أن يتوقى النظر إلى الفرج في حال الغسل؛ لأن النظر إلى الفرج إنما أبيح لمن أبيح له الاستمتاع، والمرأة إذا ماتت خرجت عن(2) أن يستمتع بها، فيكره للزوج أن ينظر إلى فرجها، وكذلك يكره للمرأة إن(3) غسلت زوجها أن تنظر إلى العورة.
ومما يدل على ذلك أنَّه لا خلاف في أن المرأة تغسل زوجها إذا مات، فكذلك الرجل يغسل زوجته إذا ماتت؛ والعلة أن جواز الاستمتاع كان بينهما قائماً بحكم الزوجية إلى أن طرأ الموت.
فإن قيل: إن المرأة جاز لها أن تغسل زوجها؛ لأنها تكون في عدة منه.
__________
(1) في (أ): فكذلك.
(2) سقط من (أ): عن.
(3) في (أ): إذا.(23/9)
قيل له: لو كانت العلة في ذلك كونها في عدة منه، لجاز أن تغسله إذا مات، وهي في عدة منه من طلاق بائن، على أن المخالف لنا في هذه المسألة هو أبو حنيفة وأصحابه، وهم لا يقولون بالعلة المقتصرة، ومتى جعلوا العلة فيما ذكرناه كونها في عدة منه(1) كانت العلة مقتصرة لا تتعدى موضع الخلاف، على أن هذه العلة(2) لا تنافي علتنا، فلو سلمناها، وقلنا بالعلتين، لم يقدح في كلامنا.
ويدل على ذلك أنَّه لا خلاف في أن الطلاق إذا وقع، كان حكم الرجل مع المرأة في جواز النظر حكم المرأة مع الرجل، فكذلك الموت إذا وقع، والمعنى أنَّه سبب يوجب الفرقة، فيجب أن يكون حكم الرجل مع المرأة في جواز النظر حكم المرأة مع الرجل.
فإذا ثبت ذلك، وثبت أن المرأة لها أن تنظر إلى زوجها إذا مات، وجب أن يجوز للرجل النظر إلى المرأة إذا ماتت، وذلك يجوز غسله لها.
ويمكننا أن نقيس موت المرأة على موت الرجل، فنقول: إن موت الرجل لما لم يقتض تحريم النظر، وجب أن لا يقتضيه موت المرأة، والمعنى أنَّه موت أحد الزوجين.
فإن قاسوا الموت على الطلاق، بأن يقولوا: وجدنا الطلاق الذي لا يوجب العدة يقتضي التحريم، وهو طلاق المرأة التي لم يدخل بها، فوجب أن يكون الموت الذي لا يقتضي العدة يوجب التحريم(3)، والمعنى أنَّه سبب يوجب الفرقة، فوجب أن يكون موت المرأة يقتضي التحريم، كانت قياساتنا أولى؛ لأنها تلزم الزوج شرعاً مجدداً؛ ولأنها مستندة إلى فعل أمير المؤمنين عليه السلام.
وليس لهم أن يرجحوا علتهم بالحظر؛ لأن الحظر يترجح على الإباحة، ولا يترجح على الإيجاب، وعلتنا تقتضي الإيجاب، وإن كان إيجاباً مخيراً فيه إذا حضر غير الزوج، على أنَّه قد يتضيق إذا لم يحضر غير الزوج.
__________
(1) سقط من (ج): المسألة.
(2) في (أ) و(ب): العلة.
(3) في (أ): الذي لا يوجب العدة يقتضي التحريم.(23/10)
وقلنا: إن الرجل إذا مات بين النساء، ولا رجل معهن، أو ماتت المراة بين الرجال، ولا امرأة معهم، وكان للميت محرم، أزره، وسكب عليه الماء، وغسله، ولم يمس عورته؛ لأن المحرم له أن ينظر إلى المحرم، ويمسه فيما عدى العورة في حال الحياة، فوجب أن يكون الحال بعد الموت كذلك؛ قياساً على الصغير والصغيرة، في أن أحوالهما بعد الموت في ذلك /238/ كأحوالهما قبل ذلك.
فإما إذا لم يكن للميت محرم، اقتصر على التيمم، إن كان سكب الماء لا يطهره؛ لأن الأجنبي ليس له أن ينظر إلى المرأة الأجنبية، ولا أن يمسها فلذلك قلنا: إنَّه ييمم.
وما حكيناه عن القاسم عليه السلام من أن النساء يغسلن الغلام الذي لم يحتلم، فالمراد به أن يكون الصبي ممن لم يبلغ إلى حد يجامع ويشتهي دون أن يكون قد راهق؛ لأنَّه لا خلاف أن النساء ليس لهن أن يرين عورة المراهق، فكذلك بعد الموت، وجوزنا ذلك في الصبي الذي لم يبلغ إلى حد المجامعة والشهوة؛ لأنَّه لا خلاف في أن النساء يجوز لهن النظر إلى عورة الطفل، فيجب(1) أن يكون حاله بعد الموت كذلك، وعلى هذا يجب أن يكون القول في الصبية التي ماتت في حال الطفولية، إذا ماتت بين رجال لا نساء معهم.
مسألة [في الجنب والحائض هل يُغسلان، وهل يَغسلان الميت؟]
قال القاسم عليه السلام: والجنب والحائض يغسلان إذا ماتا على ذلك من حالهما، ولا يستحب لهما غسل الميت، إلاَّ أن تدعو الضرورة إلى ذلك، فأيهما كان، تيمم، وغسل.
وذلك منصوص عليه في (مسائل النيروسي).
أما الحائض والجنب، فلا خلاف في أنهما يغسلان كما يغسل غيرهما، ولم يستحب غسل الجنب والحائض للميت(2) إذا لم يكن ضرورة؛ لأنهما ممنوعان من قراءة القرآن، ودخول المسجد، والصلاة، فكان العدول عنهما أولى؛ ولأن من كان طاهراً، كان بالتطهير أولى.
__________
(1) في (أ): فوجب.
(2) في (أ): غسل الميت للجنب والحائض.(23/11)