وروى زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام قال: ينزع عن الشهيد الخف، والمنطقة، والقلنسوة، والعمامة، والفرو، والسراويل، إلاَّ أن يكون أصابه دم، فإن كان أصابه دم، ترك.
والأصل فيما ينزع عنه أن ما لا يصلح أن يكفن به، ينزع عنه، وما يصلح أن يكفن به، لا ينزع عنه، والسراويل هو من جنس ما يجوز أن يكفن به، فلذلك(1) قلنا: إنَّه يترك إن أصابه دم، وينزع عنه إن لم يصبه دم.
وقلنا : إنَّه يغسل إن رفع من المعركة حيّاً؛ لأن الأصل في الأموات الغسل.
وقلنا: إنه لا يغسل من قتل في المعركة؛ للأثر الوارد فيه.
وقلنا: إنه يغسل من رفع حيّاً رجوعاً إلى أصل الحكم في الأموات. ولم نفصل في ذلك بين أن يكون الشهيد قتل جنباً، أو غير جنب؛ لعموم قوله صلى الله عليه وآله وسلم : (( زملوهم بدمائهم ))، ولأنه لما أمر بقتلى أحد، وبدر أن يدفنوا بدمائهم وثيابهم لم يميز من قتل جنباً أو غير جنب؛ ولأن الجنب مقيس على من ليس بجنب؛ بعلة أنَّه قتل في المعركة، فوجب أن لا يغسل.
فإن قيل: روي في حنظلة لما استشهد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (( إن صاحبكم غسلته الملائكة )).
قيل له: لا يدل على وجوب غسله علينا؛ لأن الملائكة عليهم السلام إذا فعلت فعلاً من الأفعال، لا يكون فيه دلالة على وجوب ذلك الفعل علينا.
فإن قيل: أن الجنب كان الغسل واجباً عليه، والقتل لا يسقطه.
قيل له: سقوط وجوبه عن القتيل كسقوط سائر الواجبات لا إشكال فيه، وليس ذلك موضع الخلاف، وإنما الخلاف في وجوب غسله علينا، وذلك مما لم يثبت، فيقال: إن القتل أسقطه، أو لم يسقطه.
وقلنا : إنَّه يصلى على الشهيد في الأحوال كلها لِحديث زيد بن علي عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى على قتلى بدر، ولم يغسلهم.
__________
(1) في (ب): فكذلك.(23/2)
وأخبرنا أبو بكر المقري، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا إبراهيم بن أبي داود، عن محمد بن عبد الله بن نمير، قال: أخبرنا أبو بكر بن عياش، عن يزيد بن أبي زياد، عن مِقْسَم، عن ابن عباس قال: أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد بالقتلى، فجعل يصلي عليهم، فيوضع تسعة وحمزة فيكبر عليهم سبع تكبيرات، ثم يرفعون ويترك حمزة، فجاؤا بتسعة فكبر عليهم سبعاً سبعاً حتى فرغ منهم(1).
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا فهد، قال: حدثنا يوسف بن بهلول، قال: حدثنا عبد الله بن إدريس، عن أبي إسحاق، قال: حدثنا يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن عبد الله بن الزبير أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمر يوم أحد بحمزة عليه السلام فسجي ببرده، ثم صلى عليه فكبر عليه بتسع(2) تكبيرات، ثم أتي بالقتلى يوضعون، فيصلي عليهم وعليه معهم(3).
وروي مثل ذلك /234/ عن أبي مالك الغفاري(4).
وروي عن عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى على قتلى أحد بعد مقتلهم بثمان سنين.
وفي بعض الأخبار عن عقبة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خرج يوماً فصلى على أهل أحد صلاته على الميت.
وروى شداد بن الهاد: أن أعرابياً بايع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقتل بين يديه، فكفنه في جبة نفسه، ثم قدمه، فصلى(5) عليه.
فكل ذلك يدل على صحة ما ذهبنا إليه من أن الشهيد يصلى عليه.
فإن قيل: روي عن أنس أن شهداء أحد لم يغسلوا، ودفنوا بدمائهم، ولم يصل عليهم.
__________
(1) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/503.
(2) في نسخة: بسبع.
(3) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/503، إلا أن فيه: ابن إسحاق، وفيه: حدثنا يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه (يعني عن عبد الله بن الزبير).
(4) أخرجه في نفس الصفحة.
(5) في (أ): وصلى.(23/3)
وروي عن جابر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمره بدفن قتلى أحد بدمائهم، ولم يصل عليهم، ولم يغسلوا.
قيل له: إذا تعارض الخبران، كان المثبت أولى، على أنَّه يحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يصل على جميعهم بنفسه مما أصابه من جرح الوجه، وكسر الرباعية، وأمر بالصلاة عليهم غيره، فقد روي في ذلك أن عليّاً عليه السلام حين أصاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما أصاب في وجهه ورباعيته، كان يصب الماء عليه، وأن فاطمة عليها السلام تغسله، وكان الماء لا يزيد الدم إلاَّ كثرة، حتى أخذت قطعة حصير، فأحرقتها وألصقتها على جرحه، فاستمسك الدم.
ويجوز أن يكون من روى ذلك لم يشاهد حال الصلاة، وظن أنهم كما لم يغسلوا، لم يُصلَّ عليهم.
على أن أنساً روي عنه ما أخبرنا به أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا ابن مرزوق، قال: حدثنا عثمان بن فارس، قال: أخبرنا أسامة، عن الزهري، عن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مرَّ يوم أحد بحمزة، وقد جرح(1)، ومثِّلَ به، فقال: (( لولا أن تجزع صفية، لتركته حتى يحشره الله من بطون السباع والطير ))، وكفنه في نمرة إذا خمر رأسه، بدت رجلاه، وإذا خمر رجليه، بدا رأسه، ولم يصل على أحد من الشهداء غيره، وقال: (( أنا شهيد عليكم اليوم ))(2). ففي هذا أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم صلى على حمزة.
وأيضاً هو مقيس على سائر المسلمين؛ بعلة أنَّه ثابت الولاية، فوجب أن يصلى عليه، وهذه علة صحيحة؛ لأنا وجدنا من زالت ولايته بالكفر عند الجميع، وبالفسق عندنا، لم يصل عليه، وإذا عادت ولايته، صُلِّي عليه، فعلمنا أن من كان ثابت الولايه تجب الصلاة عليه، والشهادة تؤكد الولاية.
__________
(1) في نسخة: جُدِعَ.
(2) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/502، 503، إلا أن فيه عثمان بن عمر بن فارس، وفيه: (( أنا شهيد عليكم يوم القيامة )).(23/4)
فإن قاسوا الصلاة على الغسل، كان قياسنا أولى؛ لأن سقوط الغسل ورد بخلاف الأصول؛ لأن الأصل في أموات المسلمين الغسل، ونحن نقيس(1) الصلاة على الشهيد على الصلاة على سائر المسلمين، فصار أصلنا أولى، على أن قياس الصلاة على الصلاة أولى من قياس الصلاة على الغسل، وقياسنا يثبت شرعاً، فهو أولى.
مسألة [في غسل السقط]
والصبي إذا مات قبل أن يستهل، لم يغسل، ولم يصل عليه، وإن استهل قبل أن يموت، فعل به ذلك.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام)(2)، ومروي فيه عن القاسم عليه السلام.
وقلنا: إن الصبي إذا سقط ميتاً، وأمارة ذلك أن لا يستهل، لا يغسل، ولا يصلى عليه؛ لأنه ليس له في نفسه حكم الإنسان، ألا ترى أنَّه لا يرث، ولا يحجِب، ولا يجب فيه دية الإنسان، فجرى مجرى عضو منها لو بان في أنَّه لا يجب أن يغسل، ولا يصلى عليه، وإنما يوارى.
فإن قيل: إنَّه يجب فيه الغُرَّة.
قلنا له: ذلك أحد ما دلنا(3) على أن حكمه حكم العضو؛ لأنَّه لوكان له في نفسه /235/ حكم الإنسان، لوجب فيه الدية كاملة، والأعضاء فيها ديات، وإن كان فيها ما ديته دون دية النفس.
وقلنا: إنَّه إن استهل غسل، وصلى عليه؛ لما أخبرنا به أبو بكر المقري، قال: حدثنا الطحاوي، قال حدثنا أبو أمية، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا عبد السلام، عن ليث، عن عاصم، عن البراء، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (( أحق ما صليتم على(4) أطفالكم ))(5).
__________
(1) في (أ) و(ب): قسنا.
(2) انظر الأحكام 1/153.
(3) في (أ): دللنا.
(4) في نسخة: عليه.
(5) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/508، وفيه: (عامر)، بدل: (عاصم).(23/5)
وأخبرنا أبو بكر المقري، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا ابن مرزوق، قال: حدثنا أبو عامر، عن سفيان، عن جابر، قال: مات إبراهيم بن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو ابن ستة عشر شهراً، فصلى عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم(1).
وروى أبو جعفر بإسناده، عن المغيرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (( الطفل يصلى عليه ))(2).
فإن قيل: روي عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دفن ابنه إبراهيم عليه السلام، ولم يصل عليه.
قيل له: يحتمل أن يكون لم يتول الصلاة عليه بنفسه؛ لإشتغاله بصلاة الكسوف، فقد روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خشي أن يكون ذلك من أشراط الساعة، وعجل إلى المسجد، والصلاة، ويكون ما روي عنه أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم صلى عليه، بمعنى أنَّه أمر بالصلاة عليه، كما روي أنَّه رجم ماعزاً، أي أمر برجمه.
وروى أبو جعفر بإسناده عن عطاء، عن جابر، قال: إذا استهل الصبي، ورث، وصُلِّي عليه(3).
مسألة [في المحترق والغريق، كيف يغسلا؟]
قال: والمحترق بالنار يصب عليه الماء إن خشي أن يتقطع، وإن لم يخش، غسل، وكذلك الغريق.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام)(4).
والأصل في هذا أن الميت يجب أن يصان ويكرم، فيجب أن يوقى ما يؤدي إلى تمزيق جلده وتقطيعه إلى أن يدفن، ألا ترى أنَّه يستر، ويكفن، ويستعمل له فيه(5) الطيب.
مسألة [في غسل الزوج زوجته والعكس والمحرم محرمه]
__________
(1) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/508، وفيه: عن جابر، عن الشعبي.
(2) أخرجه الطحاي في شرح معاني الآثار 1/508.
(3) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/509.
(4) انظر الأحكام 1/153.
(5) في (أ): ما فيه.(23/6)