ما أخبرنا به أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا أبو جعفر الطحاوي، قال: حدثنا أبو بكرة بكار بن قتيبة، قال: حدثنا أبو داود ، قال: حدثنا أبو عقيل الدورقي، قال: حدثنا الحسن أن وفد ثقيف لما قدموا(1) على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ضرب لهم قبة في المسجد، فقالوا: يا رسول الله، قوم أنجاس. فقال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (( ليس(2) على الأرض من أنجاس الناس شئ، إنما أنجاس الناس على أنفسهم ))(3).
فلما قالوا: يا رسول الله، (قوم أنجاس)، وأجابهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما أجابهم، كان مُقَارّاً لهم على ما قالوه، وإذا سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أصحابه ما يتعلق بالشريعة، وأقرهم عليه، ولم ينكره، جرى ذلك منه مجرى أن يقول مثل ما قالوه، فكأنه صلى الله عليه وآله وسلم، قال: إنهم قوم أنجاس.
وإذا ثبت ذلك ثبت نجاسة آسارهم(4)، ونجاسة ما ماسوه من المايعات(5) بأبعاضهم.
فإن قيل: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( ليس على الأرض من أنجاس الناس شيء إنما أنجاسهم على أنفسهم )) يدل على أنَّه أراد بتنجيسهم ذمهم، وذم أفعالهم.
قيل له: إن هذا التأويل وإن كان محتملاً، فإنه يحتمل أيضاً أن يكون المراد أن أنجاسهم لا تضر الأرض ما لم يماسوها بأجسادهم الرطبة، وأن إزالة ذلك عن الأرض ممكن بالحفر والغسل، فليس عليها منه شيء.
وإذا احتمل التأويلين تعارضا، وصح لنا تنجيسهم بمقارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لأصحابه على قولهم، أنهم قوم أنجاس، ويكون تأويلنا أولى من تأويلهم؛ لأنه لا يوجب صرف هذا الظاهر عن الحقيقة إلى المجاز، وتأويلهم يوجب ذلك.
ومما يدل على ذلك:
__________
(1) في (أ): وفدوا.
(2) في (أ): أنه ليس.
(3) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/13، عن أبي بكرة، به.
(4) في (أ): أسوارهم.
(5) في (أ): من الماء.(2/35)


ما أخبرنا به أبو العباس الحسني رحمه الله، قال: أخبرنا إسماعيل بن إبراهيم بن شُنبذين، قال: حدثنا عمرو بن ثور، قال: حدثنا الفريابي، قال: حدثنا سفيان، عن خالد الحذَّاء، عن أبي قِلابة، عن أبي ثعلبة الخشني، قال: قلت ـ يا رسول الله ـ، إنَّا بأرض أهل الكتاب، ونأتي(1) أرض أهل الكتاب فنسألهم آنيتهم، فقال: (( اغسلوها ثم اطبخوا فيها )).
فليس يخلوا أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بغسل آنيتهم من وجوه ثلاثة:
[1] إما أن تكون بكونها لهم، وهذا(2) لا معنى له بالاتفاق.
[2] أو لإلقائهم النجاسات فيها، وهذا أيضاً لا معنى له، لأنَّه لا يتخصص به أواني أهل الكتاب، لأن أوانيهم وأواني المسلمين في ذلك على(3) سواء.
[3] فلم يبق إلاَّ أن يكون أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بذلك لمماستهم لها بأبعاضهم وشربهم منها؛ لأن هذا هو الوجه الذي يوجب تخصيص ذلك بهم، وإذا ثبت ذلك ثبت ما ذهبنا إليه من نجاسة أسارهم(4).
فإن قيل: يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أمر بذلك على سبيل الاحتياط، لأن الغالب أن أوانيهم لا تخلوا من النجاسة كنحو الخمر وما جرى مجراها.
قيل له: هذا إخراج للأمر من الوجوب؛ لأن ما يكون كذلك يكون سبيله سبيل الاستحباب؛ إذ لا خلاف بين المسلمين أن بالشك لا يجب تنجس الشيء، وإذا كان كذلك، فهو إخراج للأمر عما وضع له بغير دليل، وذلك فاسد.
ومما يستدل به على ذلك من طريق النظر:
__________
(1) في (ب) و(ج): أو نأتي.
(2) في (أ): وذلك.
(3) سقط من (ب): على.
(4) في (أ): أسوارهم.(2/36)


أنا نقيسه على الخنزير؛ بعلة أنَّه حيوان أجرى الظاهر عليه سمة التنجيس، فكل حيوان يجري الظاهر عليه سمة التنجيس يجب أن يُحكم بنجاسته، وليس لهم أن يناكرونا الوصف في الأصل ولا الفرع(1)، فقد قال اللّه تعالى في الخنزير: {فَإِنَّهُ رِجْسٌ}، وقال: في المشركين: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُون نَجَسٌ}، لأنهم وإن نازعوا في التأويل، لم يمكنهم أن ينازعوا في اللفظ، ونحن قد علقنا الحكم به.
فإن عارضوا قياسنا هذا، وقاسوا المُشرك على المسلم؛ بعلة أنَّه آدمي حي كانت علتنا أولى؛ لأنها تنقل، ولأنها حاظرة، ولأن فيها الاحتياط، ولأن الظواهر التي ذكرناها تشهد لها.
فإن قال قائل: روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، توضأ من مزادة مشركة.
قيل: ليس في الخبر أنَّه توضئ من مزادة مشركة قد شربت منها المشركة، ولم تُطَهَّر، فلا يمتنع أن تكون المزادة جديدة لم تستعمل، أو كانت قد طُهِرَت من مس المشركة لها، أو يكون حمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم الأمر على الظاهر، فحملها على الظاهر أيضاً؛ إذ لم يثبت عنده تنجيسها، ونحن قد بينا أن الآنية لا تنجس بكونها ملكاً للمشرك.
وجملة الأمر أنَّه فعل ولا يمكن أن يدعى فيه العموم، فبطل تعلقهم به، وعلى هذا النحو يكون جواب من قال: إن عمر توضأ من جرة النصراني، ومن قال: إن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم استعار دروع صفوان بن أمية.
على أنَّه ليس فيها أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم أباح الصلاة فيها، أو صلى هو فيها.
فإن استدلوا بقول اللّه تعالى: {وطعامُ الذين أوتوا الكتاب حلٌ لكم}.
__________
(1) في (ج): والفرع.(2/37)


قيل لهم: هذا لا يتناول موضع الخلاف، وذلك أنا لا ننكر أن الطعام لا يحرم علينا بكونه لهم، ونقول: إن طعامنا يحرم علينا بمماستهم له على وجه مخصوص، فصار الظاهر لا يتناول موضع الخلاف، على أنا لو سلمانا لهم ما ادعوه خصصنا من أطعمتهم ما ماسوه منها بأبدانهم الرطبة بالأدلة التي قدمناها، كما نخص نحن وهم أطعمتهم المحرمة بأدلتها.
ومما يُذكر في هذه المسألة على طريق الإلزام لهم، ما رويناه في صدر هذا الكتاب عن زيد بن علي، عن آبائه، عن علي عليهم السلام، أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، أراد أن يدَّعم على يد حذيفة، فنخسها حذيفة، وقال: إني جنب، فقال(1): (( ابرز يدك فإن(2) المسلم ليس بنجس ))(3).
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا أبو جعفر الطحاوي، قال: حدثنا ابن أبي داود، قال: حدثنا المقدم(4)، قال: حدثنا ابن أبي عدي، عن حميد، قال: وحدثنا ابن خزيمة، عن الحجاج بن المنهال، قال: حدثنا حماد، عن حميد، عن بكر بن أبي رافع، عن أبي هريرة، قال: لقيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأنا جنب، فمد يده إليَّ، فقبضت يدي عنه، وقلت: إني جنب، فقال: (( سبحان اللّه! إن المسلم لا ينجس ))(5).
فمن قال بدليل الخطاب، لزمه القول بتنجيس من ليس بمسلم؛ إذ دليل الخبرين يقتضي ذلك عندهم، ونحن لم نعتمد هذا، لأنا لا نختار القول بدليل الخطاب.
ومما يقرب من هذا ما نقول لكل من ذهب إلى تنجيس بول ما يؤكل لحمه: قد أجمعنا على أن المشرك إذا شرب من أبوال ما يؤكل لحمه، ثم شرب من الإناء، أن ما يفضل عنه ينجس، فنقيس عليه سائر آسار(6) المشرك؛ بعلة أنه سؤر مشرك.
__________
(1) في (أ): قال.
(2) في (ب) و(ج): إن.
(3) قد تقدم تخريجه.
(4) في (ج): المقدمي، وكذلك في شرح معاني الآثار.
(5) في أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/13، عن ابن أبي داود، من طريق، وعن ابن خزيمة من آخرى. إلا أنه قال: عن بكر بن أبي رافع.
(6) في (أ): أسوار.(2/38)


وليس لأحد أن يقول: إن هذه العلة لا تأثير لها، لأن التأثير يجب أن يكون على أصل المعَلِّل دون أصل المخالف، وعندنا أن المؤثر فيه سؤر المشرك، ألا ترى أنَّه لو كان مسلماً، لم ينجس الماء عندنا، لأنا نرى أن بول ما يؤكل لحمه طاهر.
مسألة [ في بول ما يؤكل لحمه ]
قال: وبول جميع ما يؤكل لحمه طاهر لا ينجس الماء به ولا الثوب، وما لم يؤكل لحمه فنجسٌ بوله.
وهذا قد نص عليه يحيى عليه السلام في (الأحكام) و(المنتخب)(1) جميعاً، وقد نص عليه القاسم في (مسائل النيروسي)، ثم قال: إلاَّ أن يَنْتن أو يقذر.
وحكى لنا أبو العباس الحسني رحمه الله، عن القاسم عليه السلام، أنَّه قال: زبل الدجاج والبط نجس.
وذكر أبو العباس الحسني رحمه الله، أن محمد بن منصور، روى عن القاسم تطهير بول ما يؤكل لحمه وزبله.
فأما قوله في (مسائل النيروسي): إلاَّ أن ينتن أو يقذر. فإنه يدل على أنَّه لم يكن يراه طاهراً على الإطلاق، بل كان يخفف الأمر فيه إذا لم ينتن ويظهر أثر قذره، ويشدد إذا أنتن وظهر أثر قذره.
وهذا قريب مما روي عن أبي حنيفة، وأبي يوسف، فإنهما كانا يقولان: إن الثوب ينجس به إذا كان كثيراً فاحشاً.
أو يكون الوجه لما ذهب إليه القاسم عليه السلام أنَّه رأى ظواهر تقتضي نجاسته، وظواهر تقتضي طهارته، فخفف الأمر فيه على وجهٍ، وغلظ على وجه.
فأما مذهب يحيى بن الحسين عليه السلام، فهو ما حكيناه، وهو قول محمد بن الحسن.
والذي يدل على ذلك:
ما أخبرنا به أبو العباس الحسني، قال أخبرنا علي بن الحسن البجلي، قال: حدثنا أبو يحيى محمد بن يحيى التستري، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا إبراهيم بن نافع، عن عمر بن موسى بن وجيه، عن زيد بن علي، عن آبائه، عن علي عليهم السلام، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: (( لا بأس بأبوال الإبل والبقر والغنم، وكل شيء يحل أكل لحمه، إذا أصاب ثوبك )).
__________
(1) ذكره في الأحكام 1/57. وذكره في المنتخب ص23.(2/39)

9 / 138
ع
En
A+
A-