والذي يدل على أنها تقام في القرى والمناهل قول الله تعالى:{إِذَا نُوْدِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمعَةِ فَاسْعُوا إِلَى ذِكْرِ اللهِ}[الجمعة:9].
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( فرضت عليكم الجمعة في مقامي هذا ))،
وما روي عنه: (( الجمعة تجب على كل مسلم )).
فاقتضت هذه الظواهر وجوبها على جميع الناس في أي موضع كانوا، فلما أجمعوا على المواضع التي ليست بمواضع الاستيطان أن الذين بها لا جمعة لهم في تلك المواضع، خصصناهم وبقي الذين هم في المدن والقرى والمناهل.
على أنَّه قد روي عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن أبيه أن أسعد بن زرارة أول من جمع بنا في حرة بني بياضة.
وعن ابن عباس: أول جمعة جمعت في الإسلام بجواثا - قرية من قرى البحرين -.
فدل الخبر على ما نذهب إليه، وذلك يجري مجرى الإجماع؛ لأنَّه فعل وقع من جماعة من الصحابة، ولم يُرْوَ عن أحد منهم خلافه.
فإن قيل: روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : (( لا جمعة إلاَّ في مِصر جامع )).
قيل له: يحتمل أن يكون المراد به نفي الكمال والفضل دون الأجزاء كما روي: (( لا صلاة لجار المسجد إلاَّ في المسجد )).
ويحتمل أن يكون المراد به لا جمعة يفسقون بتركها، إلا في مصر جامع.
ويحتمل أيضاً أن يكون المراد بقوله: مصر، موضع الاستيطان، على أن أصحاب أبي حنيفة وهم المخالفون في هذه المسألة، يذهبون إلى أنَّه لا يجوز التعلق بظاهر هذه الأخبار؛ لأنها عندهم من المجمل؛ لاحتمالها نفي الأجزاء، ونفي الكمال، فيجب أن يكون تعلقهم بقوله لا جمعة ولا تشريق إلاَّ في مصر جامع فاسداً على أوضاعهم.
وأيضا هذه المواضع قياس على المدن؛ بعلة أنها مواضع الاستيطان، فيجب أن تصح الجمعة فيها.
وقلنا: إن القرية يجب أن يكون فيها مسجد يجمع فيه، لأنَّه لم يرو عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه أقام الجمعة إلاَّ في المساجد؛ ولأن ذلك فعل المسلمين وعادتهم توارثها الخلف عن السلف.(21/4)


والمسألة الثالثة [في وقت الجمعة]
الذي يدل على أن الجمعة يجب أن تفعل في وقت الظهر ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه فعلها فيه، وفعله لها فيه(1) بيان مجمل واجب، فوجب أن يكون على الوجوب، فثبت بذلك وجوب فعلها في وقت الظهر.
فإن قيل : روي كنا نصلي مع رسول الله يوم الجمعة، ثم ننصرف، وليس للحيطان فئ، فدل ذلك على أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم صلى قبل الزوال.
قيل له :قد روي في بعض الأخبار: وليس للحيطان فئ نستظل به، فكان المراد به /218/ في أول وقت الزوال.
يبين ذلك: ما رواه ابن أبي شيبة، عن جعفر، عن أبيه، عن جابر قال: كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم الجمعة، ثم نرجع، فنريح نواضحنا. قال جعفر: ذلك زوال الشمس.
وروي أيضاً عن أنس أنه كان يقول: كنا نصلي الجمعة مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا مالت الشمس، فدل ذلك أجمع على ما نذهب إليه .
ويدل عليه قوله صلى الله عليه وآله وسلم : (( صلوا كما رأيتموني أصلي )). وصح أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم صلى الجمعة في وقت الظهر، فوجب أن يلزم فعلها في وقت الظهر.
المسألة الرابعة [في وجوب الخطبتين]
والذي يدل على وجوب الخطبتين: ما رواه ابن أبي شيبة ،عن أبي الأحوص، عن سماك، عن جابر بن سمرة قال: كانت للرسول صلى الله عليه وآله وسلم خطبتان يجلس بينهما.
وروى أبو بكر، عن حاتم بن إسماعيل، عن جعفر، عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخطب قائماً، ثم يجلس، ثم يقوم فيخطب خطبتين.
وروي أيضاً عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يخطب يوم الجمعة قائماً، ثم يقعد، ثم يقوم، فيخطب.
وروي نحوه، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
فإذا ثبت ذلك من فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثبت وجوب الخطبتين؛ لأنَّه بيان لمجمل واجب، فيجب أن يكون على الوجوب.
__________
(1) سقط من (ب): فيه.(21/5)


فإن قيل: قول الله تعالى: {إِذَا نُوْدِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمعَةِ فَاسْعُوا إِلَى ذِكْرِ اللهِ}[الجمعة:9]، يدل على أن أدنى الذكر يجزي في الخطبة؛ لأن الله تعالى أوجب السعي إلى الذكر، والذكر يقع على القليل والكثير.
قيل له: ليس في الآية بيان الذكر الذي يجب السعي إليه، وفعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بيان له، فيجب أن تكون الآية محمولة عليه، ويجب أن يكون فعله صلى الله عليه وآله وسلم محمولاً على الوجوب.
فإن قيل: الظاهر اقتضى وجوب السعي إلى ذكر الله، فهو(1) على كل ذكر الله، إلاَّ ما يمنع منه الدليل.
قيل له: لا(2) يجب؛ لأن الذكر معرف مع الإثبات، والمعرف مع الإثبات يجب أن يكون خاصاً، فلا يمكن ادعاء العموم فيه، على أنَّه لو كان عموماً، لوجب أن يخصه فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد بينا أنَّه بيان مجمل واجب.
المسألة الخامسة [في اشتراط الإمام]
وقلنا: إن الإمام شرطٌ في صحة الجمعة؛ لما رواه أبو الحسن الكرخي في (المختصر) بإسناده عن ابن المسيب، عن جابر قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم الجمعة، فقال : (( اعلموا أن الله تبارك وتعالى فرض عليكم الجمعة، في مقامي هذا، في يومي هذا، في شهري هذا، (في عامي هذا)(3)، إلى يوم القيامة، فمن تركها في حياتي، أو بعد موتي استخفافاً بها وبحقها وجحوداً لها، وله إمام عادلٌ، أو جائر، فلا جمع الله شمله، ولا بارك له في أمره )).
فلما ذم صلى الله عليه وآله وسلم تاركها بشرط أن يكون له إمام، علم أن الإمام شرط في وجوبها، وإذا ثبت /219/ أنَّه شرط في وجوبها، ثبت أنَّه شرط في صحتها؛ لأن الجمعة متى صحت، وجبت.
__________
(1) في (أ): فهو عام. وفي هامش (ب): عام لكل.
(2) في (أ): هذا لا.
(3) سقط من (أ) و(ب).(21/6)


فإن قيل: فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم : (( من كان له إمام عادل، أو جائر ))، (وعندكم أن الجمعة لا تصح بالسلطان الجائر، وهو خلاف ما في الخبر.؟
قيل له : معناه عندنا من كان له إمام عادل أو جائر)(1) في الباطن دون الظاهر.
وفائدته أنَّه ليس علينا مراعاة باطن الإمام، فسواء كان في الباطن عادلاً أو جائراً، فإمامته صحيحة، والجمعة معه واجبة، إذا كانت أحواله في الظاهر سليمة.
فإن قيل : فمن أين قلتم إن السلطان الظالم لا يصح به الجمعة حتى نسلم لكم هذا التأويل؟
قيل له: لقول الله تعالى: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِيْنَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ}[هود:113]، ولا ركون إليهم في باب الدين أوكد من أن نعلق بهم صحة الجمعة.
فإن قيل: لستم في تخصيص الخبر بالآية بأسعد ممن خص(2) الآية بالخبر.
قيل له: الآية أقوى من خبر الواحد، وتخصيص الأضعف بالأقوى أولى من تخصيص الأقوى بالأضعف.
ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( صلوا كما رأيتموني أصلي )). وهو أقام صلاة الجمعة، وهو سلطان تلزم طاعته، ويدل فعله لها على وجه البيان على أن الإمام شرط فيها، إذ وقع فعله لها بيان لمجمل واجب، فوجب أن يدل على الوجوب.
وروى محمد بن منصور بإسناده، عن إبراهيم بن عبد الله بن الحسن أنَّه سئل عن الجمعة، هل تجوز مع الإمام الجائر؟ فقال: إن علي بن الحسين عليه السلام - وكان سيد أهل البيت - كان لا يعتد بها معهم.
وهو مذهب جميع أهل البيت عليهم السلام فيما عرفته، ومذهبنا أن إجماعهم حجة.
ومما يدل على أنها لا تقام إلاَّ مع الإمام العادل : أنها عبادة لا يجوز أن يتفرد بإقامتها كل واحد، فشابهت الحدود التي لما لم يجز أن يتفرد بإقامتها كل واحد، لم يجز إقامتها إلاَّ مع الإمام العادل.
مسألة [أركان صلاة الجمعة]
__________
(1) سقط ما بين القوسين من (أ) و(ب)، وظنن فكانه في هامش (ب) بـ: قيل له المراد أنه جائر.
(2) في (أ): خصص.(21/7)


قال: وإذا(1) حصل ما ذكرنا، وأذن المؤذن، قام الإمام، فخطب بهم خطبتين يفصل بينهما بجلسة، ثم تقام الصلاة، فيقوم الإمام فيصلي بهم ركعتين، يجهر فيهما بالقراءة.
جميع ذلك منصوص علية في (الأحكام)(2).
قلنا : إن الإمام يقوم فيخطب إذا أذن المؤذن؛ لقول الله تعالى: { إِذَا نُوْدِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمعَةِ فَاسْعُوا إِلَى ذِكْرِ اللهِ}[الجمعة:9]، فأوجب السعي إليها بشرط النداء للصلاة، وهو الأذان.
ولما روى أبو داود في (السنن) بإسناده، عن ابن شهاب قال: أخبرني السائب(3) ابن يزيد أن الأذان كان أوله حين يجلس الإمام على المنبر يوم الجمعة في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر وعمر، فلما كان ولاية عثمان أمر بالأذان الثالث.
وروى أيضاً بإسناده عن الزهري، عن السائب بن يزيد، قال: كان يؤذن بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا جلس على المنبر يوم الجمعة.
وقلنا :إنه يخطب خطبتين يفصل بينهما بجلسة؛ للروايات التي ذكرناها في مسألة الخطبتين.
وقلنا : إن الإقامة بعد الخطبتين لتكون الصلاة تلى الإقامة.
وقلنا: إنَّه يصلي ركعتين؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كذلك فعل؛ ولأنه لا خلاف أن صلاة الجمعة ركعتان.
وقلنا: إنَّه يجهر بالقراءة؛ لِما روى /220/ محمد بن منصور بإسناده عن جعفر بن محمد عليهما السلام، أنَّه قال: اجهروا بالقراءة في يوم الجمعة، فإنها سنة. وقوله: إنها سنة يجري مجرى أن يرويه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
مسألة [القراءة في الجمعة]
قال: ويستحب أن يقرأ في الركعة الأولى بأم الكتاب، وسورة الجمعة، وفي الثانية بأم الكتاب، وسورة المنافقين.
__________
(1) في (أ): فإذا.
(2) انظر الأحكام 1/123.
(3) ساقط من (أ) و(ب) : السائب.(21/8)

89 / 138
ع
En
A+
A-