والأصل فيه: أن الله تعالى أمر بها بشرط السفر، والخوف بقوله تعالى:{وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِيْ الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تقصُروا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ}[النساء:101]، فوجب أن تكون مقصورة على السفر، ولم يروَ أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلاها في غير السفر، فلم يجز أن نصليها إلاَّ في السفر.
فإن قيل: فقد روي عن أبي بكرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى بهم صلاة الخوف، فصلى بطائفة منهم ركعتين، ثم انصرفوا، وجاء الآخرون، فصلى بهم ركعتين، فصلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أربعاً، وكل طائفة ركعتين، وهذا يدل على أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم صلاها وهو مقيم؛ لأنَّه صلاها أربعاً.
قيل له: لو كان كون صلاته أربعاً، يدل على الإقامة، فيجب أن يكون كون صلاة كل واحدة من الطائفتين ركعتين، يدل على السفر.
فإن قيل: يجوز أن يكون القوم قضوا الركعتين؟
قيل له: قد يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى الفرض مرتين، فقد روي أن ذلك كان في أول الإسلام، ثم نسخ، وقد ورد النهي عن أن يصلَى في يوم الفريضة مرتين، فإذا احتمل ما ذكرناه، لم يمكن القطع على أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم صلاها مقيماً.
وأيضا لا خلاف أنها لا تصلى إلاَّ في الخوف، فوجب أن لا تصلى إلاَّ في السفر قياساً على الخوف؛ والعلة أنَّه أحد شرطي القصر بمقتضى(1) الظاهر.
مسألة [تصلى الخوف على قدر الإمكان]
قال القاسم عليه السلام: وإذا كان خوف لا يقدرون معه على الصلاة قياماً، وركوعاً، وسجوداً، أومأوا برؤسهم إيماء، ويكون السجود أخفض من الركوع.
قال: وإن لم يمكنهم من الصلاة إلاَّ التكبير والذكر، كبروا وذكروا الله سبحانه، وفعلوا من ذلك قدر ما يمكنهم.
__________
(1) في (أ): لمقتضى.(20/22)
وهذا كله منصوص عليه في (مسائل النيروسي)، وذلك لقوله تعال:{وَقُومُوا للهِ قَانِتِيْنَ فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً}[البقرة:238،239]، والراكب لا يمكنه أن يصلي إلاَّ مومياً.
ولقول النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم لعمران بن حصين: (( صل قائماً، فإن لم تستطع، فجالساً، فإن لم تستطع، فعلى جنب تومئ إيماء )).
ولا خلاف أن المريض الذي يخاف التلف من الانتصاب والركوع والسجود يصلي مومياً، فكذلك المحارب قياساً عليه، وكذلك إن تعذر الإيماء عليهم ذكروا الله وكبروه؛ لأن سقوط ما يتعذر لا يسقط ما لا يتعذر.(20/23)
باب القول في صلاة الجمعة والعيدين
[مسألة: في شروط صحة الجمعة]
لا تصح الجمعة إلاَّ بشروط:
[1] منها عدد المصلين، وهو أن يكونوا ثلاثة سوى الإمام، فصاعداً.
[2] ومنها المكان الذي يُصلَى فيه، وهو أن يكون مدينة، أو قرية، أو منهلاً، إذا كان فيه مسجد يُجمَّع فيه.
[3] ومنها الوقت، وهو حين زوال الشمس.
[4] ومنها الخطبة، وهي خطبتان يفصل بينهما بجلسة.
[5] ومنها الإمام الذي يُخطب له، وهو أن يكون ممن تجب طاعته على المسلمين.
قلنا: إن العدد ثلاثة، سوى الإمام، تخريجاً من قوله في (الأحكام)(1): إذا سافر الإمام ومن معه(2)، فأدركتهم الجمعة، أو أحد العيدين في قرية من قرى المسلمين، فليخطب بالمسلمين . وقال فيه أيضاً(3): يجب على أهل القرى والمناهل إذا كان هناك جماعة أن يختاروا إماماً يخطب بهم(4)، فبنى الكلام كله على أن الجمعة تكون بجماعة سوى الإمام، وأقل الجمع عنده ثلاثة، نص عليه في (المنتخب)(5) عند استدلاله على أن الصلوات خمس من قوله تعالى:{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الوُسْطَى}[البقرة:238]، فقال: والصلاتان لا يقال لهما: صلوات، وحقق أن أقل ما يقع عليه اسم الصلوات ثلاثة.
والمكان الذي ذكرناه منصوص عليه في (الأحكام)(6). وقال فيه: "ولا ينبغي أن يبطأ بصلاة الجمعة جداً، ولا أن يعجل بها قبل الزوال"(7)، فدل ذلك على أنها لا تفعل قبل الزوال، ولا تؤخر عن وقت الاختيار للظهر، وهو إلى أن يصير ظل كل شئ مثله؛ لأنَّه ما دام في وقت الاختيار لا يكون مفَرِّطاً، فلذلك قلنا: إن الوقت من شرطها.
__________
(1) انظر الأحكام 1/144.
(2) في (أ): المسلمون معه.
(3) انظر الأحكام 1/145.
(4) في (أ): لهم.
(5) انظر المنتخب ص31.
(6) انظر الأحكام 1/145.
(7) انظر الأحكام 1/124.(21/1)
وقلنا: إن الخطبتين من شرطها؛ لأنَّه نص في (المنتخب)(1) على أن من ابتدأ الخطبة في يوم غيم، ثم أصحت السماء، فعلم أنَّه كان ابتدأها قبل الزوال، لزمه إعادة الخطبة، وقال أيضاً بعد هذا الكلام: "لأن الخطبة بمنزلة الركعتين"(2). فلما لم يجوِّز في شئ من الخطبتين أن يكون قبل الزوال، دل على أن الخطبتين عنده واجبتان.
ونص في (المنتخب) على أن الجمعة لا تجب إلاَّ بقيام الإمام العادل المحق، وقال أيضاً في (الأحكام)(3): ويجب على أهل المدن والقرى أن يختاروا لأنفسهم من يقيم لهم الجمعة، ثم قال: "وإنما أرى ذلك لهم، وأوجبه عليهم، إن كان واليهم إماماً عدلاً محقاً". فصرح في ذلك بأن الإمام شرط في صحتها، وأن الإمام يجب أن يكون محقاً.
وهذه الجملة تشتمل على خمس مسائل:
المسألة الأولى منها [في أن الجمعة تنعقد بثلاثة سوى الإمام]
الذي يدل على أن الجمعة تنعقد بثلاثة سوى الإمام قول الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا إِذَا نُوْدِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمعَةِ فَاسْعُوا إِلَى ذِكْرِ اللهِ}[الجمعة:9]، فاقتضى ظاهره وجوب السعي على قليل العدد وكثيره، إلاَّ ما منع منه الدليل، فإذا صح ذلك، بطل قول من قال: إنها لا تنعقد إلاَّ بأربعين رجلاً.
فإن قيل: لا يصح لكم الاستدلال بالآية إلاَّ بعد ثبوت الجمعة، والخلاف في ثبوتها بهذا العدد.
قيل له: ليس الأمر على ما قدرت، وذلك أن الله تعالى أمر بالسعي إلى الذكر إذا نودي للصلاة يوم الجمعة، ولم يعلقه تعالى إلاَّ بالنداء دون العدد، فصح ما قلناه، على أن الجمعة اسم لأفعال مخصوصة، فإذا ورد الأمر بتلك الأفعال، لزمت، ولم يعتبر قول من يقول: إنها ليست بجمعة.
ويدل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : (( فرضت الجمعة عليكم في مقامي هذا )). ولم يشترط العدد، فاقتضى ظاهره جوازها بأي عدد كان.
__________
(1) انظر المنتخب ص57.
(2) المنتخب ص58.
(3) انظر الأحكام 1/145.(21/2)
وأيضاً روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كتب - وهو بمكة قبل الهجرة - إلى مصعب ابن عمير - وهو في المدينة - يأمره(1) أن يصلي الجمعة بعد الزوال ركعتين، وبأن يخطب قبلهما، فجمع مصعب في دار سعد بن خيثمة، وهم اثنا عشر رجلاً، وروي أنَّه أول من جمَّع.
فإن قيل: روي أول جمعة جمعت بالمدينة أربعون رجلاً، وهذا يعارض ما ذكرتم.
قيل له: التعارض يقع في أن الجمعة هي الأولى، وذلك مما لا يحتاج إليه في مسألتنا، فأما العدد فلا يقع فيه التعارض؛ لأنَّه لا خلاف في أن الجمعة تنعقد بأربعين وأكثر منه، وإنما الخلاف فيما دون ذلك، فيجوز أن يكون هما جمعتين، إحداهما جمعت بأربعين رجلاً، والأخرى جمعت باثني عشر رجلاً، وفي ذلك جوازها بأقل من أربعين، فإذا ثبت ذلك، بطل قول من قال: إنها لا تنعقد إلا بأربعين.
فإن قيل: روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، جمع في المدينة وهم أربعون، فكان ذلك حداً به تنعقد الجمعة.
قيل له: ذلك لا يدل على أنَّه هو الحد، وإنما يدل على جواز انعقادها بأربعين، وذلك مما لا خلاف فيه، على أنا نقيس الأربعة على الأربعين؛ بعلة أنَّه عدد زائد على أقل الجمع الحقيقي، فوجب أن تنعقد الجمعة به، ويجوز أن يقال: إنَّه عدد زائد على ثلاثة.
وأيضاً وجدنا الجمعة عبادة اعتبر فيها الرجال زائداً على الاثنين، فوجب أن يكون أقلهم أربعة قياساً على حد الزنا، وهذه العلة تفسد قول من جعل الحد أقل من أربعة، أو أكثر منها، على أن القول بأنها تنعقد باثنين سوى الإمام، لم يحك إلاَّ عن أبي يوسف.
وكر الجصاص في (الشرح) أن هذا القول غير مشهور عنه، وضعفه، ويدل على فساده: أنَّه لا خلاف في أن من شرط الجمعة أن يحصل الجمع الحقيقي في عدد المؤتمين، وقد ثبت أن أقل الجمع ثلاثة، فبطل به قول من قال: إنها تصح باثنين سوى الإمام.
المسألة الثانية [في إقامة الجمعة في القرى والمناهل]
__________
(1) في (أ): فأمره.(21/3)