ويدل على ما نذهب إليه في هذا الباب: ما رواه يزيد بن رومان، عن صالح بن خوات، عمن صلى مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم ذات الرقاع: أن طائفة صفوا معه، وطائفة وجاه العدو، فصلى بالذين معه الركعة الأولى، ثم ثبت قائماً، وأتموا لأنفسهم، ثم انصرفوا إلى وجاه العدو، وجاءت طائفة أخرى، فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته، ثم ثبت جالساً، فأتموا لأنفسهم، ثم سلم.
وروى مثله صالح بن خوات، عن سهل بن أبي حثمة(1) أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فعل كذلك.
وروي عن القاسم بن محمد بن أبي بكر، عن صالح بن خوات أن سهل بن أبي حثمة أخبره أن صلاة الخوف.. فذكر نحوه. وزاد في ذكره الركعة الأخيرة قال: فيركع ويسجد ثم يسلم فيقومون ويركعون الركعة الباقية، ثم يسلمون.
فإن قيل: روي عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين صلى صلاة الخوف، مضت الطائفة الأولى حين فرغت من الركعة الأولى، فوقفت مواقف الطائفة الثانية، وجاءت الطائفة الثانية فصلت(2) مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم الركعة الثانية، ثم سلم صلى الله عليه وآله وسلم، وصارت الطائفة الثانية في مواقف الطائفة الأولى، وقضت الطائفة الأولى ركعة، ثم قضت الطائفة الثانية ركعة.
قيل له: قد روي ذلك، إلاَّ أن رواية صالح بن خوات أشد موافقة للكتاب وأشبه بموضوع الصلاة؛ فلذلك رجحناها واخترناها، أما كونها أشد موافقة للكتاب؛ فقد قدمنا ذكره. وأما كونها أشبه بموضوع الصلاة؛ فلأن ما رووه فيه استدبار القبلة، والانحراف عنها، والمشي الكثير، والاشتغال عن الصلاة بحراسة الناس، وملاقات العدو، وتلك الأحوال تفسد الصلاة، على أن ما قد ذهبنا إليه أشبه بالحال، وأشد موافقة لما يحتاج إليه؛ لأن الطائفة الأولى إذا كانت قد فرغت من الصلاة، تكون أقوى على المدافعة، وإذا كانت بعدُ في الصلاة، لم تتمكن من المدافعة كل التمكن.
__________
(1) في (أ) : خيثمة.
(2) في (أ): وصلت.(20/17)
فإن قيل: ففي روايتكم أن الطائفة الأولى تُتم صلاتها قبل الإمام، وذلك خلاف موضوع الصلاة.
قيل له: صلاة الخوف لم تتميز عن سائر الصلوات، إلاَّ بهذا الأمر الواحد، وإذا لم تتميز به، لم تكن صلاة الخوف، إلاَّ أن تتميز بغيره مما يجري مجراه في أنَّه خلاف موضوع الصلاة، ألا ترى أن في روايتكم - مع ما قدمنا ذكره - أن الطائفة الأولى تترك متابعة الإمام في الركعة الثانية، وتشتغل بغيرها من الحراسة، وهذا خلاف موضوع الصلاة!
فإن قيل: روي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، صلى صلاة الخوف، فصلى بالطائفة الأولى ركعة، وبالطائفة الثانية ركعة، فكانت صلاته صلى الله عليه وآله وسلم ركعتين، ولكل طائفة ركعة.
وكذلك رواه عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن صالح بن خوات، عن سهل بن أبي حثمة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فعل ذلك.
قيل له: يجوز أن يكون مراد الراوي للخبرين: الصلاة المفعولة جماعة دون ما فعلته كل طائفة على الانفراد، ليوافق هذان الخبران ما رويناه، إذ لا سبيل مع استعمال هذين الخبرين، وما رويناه إلى غير ذلك من التأويل.
فإن قيل: فقد روي عن مجاهد، عن أبي(1) عياش الزرقي ما ذهب إليه أبو يوسف في بعض ما روي عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، صلى صلاة الخوف بعسفان، فصف الناس جميعاً خلفه صفين، ثم كبر صلى الله عليه وآله وسلم، وكبروا جميعاً معه، [ثم ركع وركعوا معه جميعاً، ثم رفع، ورفعوا معه جميعاً، وكبروا جميعاً معه](2)، ثم سجد، وسجد معه الذين يلونه في الصف، وقام الصف المؤخر يحرسونهم بسلاحهم، ثم رفع، ورفعوا، ثم سجد الصف الآخر، ثم رفعوا، ثم تقدم الصف المؤخر، وتأخر الصف المقدم، وفعلوا ما فعلوه أولاً.
وحكي أيضاً أن ابن أبي ليلى كان يذهب إلى هذا.
__________
(1) في (أ): ابن.
(2) سقط ما بين المعكوفين من (أ) و(ب).(20/18)
قيل له: هذا قد روي، إلاَّ أن ظاهر الكتاب يرده، فَلم نأخذ به، وذلك أن الله تعالى يقول: {وَإِذَا كُنْتَ فِيْهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ}[النساء:102]، وفي هذا الحديث أن الطائفتين جميعاً قامتا معه، وهذا خلاف الظاهر، ثم قال الله تعالى:{فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ}[النساء:102]، فأمر الله تعالى أن تأتي الطائفة الثانية التي لم تصل بعدما سجدت الطائفة الأولى، وفي هذا الحديث أن الطائفتين جميعاً جاءتا في وقت واحد، وصليا معاً، وهذا أيضاً خلاف الظاهر؛ فلهذا لم نقل به، فإما أن يكون منسوخاً بالآية إن ثبتت الرواية، أو يكون مردوداً، أو تكون روايتنا مرجحة عليها.
وحكي عن أبي يوسف أنَّه كان يقول: إن صلاة الخوف منسوخة، وحكي عنه أنَّه كان يقول: إنَّها خاصة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكلا القولين لا معنى له؛ لأن الحكم إذا ثبت، لم يجز نسخه، إلاَّ بسمع يرد به، ولم يرد بنسخ صلاة الخوف كتاب، ولا سنة، وكذلك إذا ثبت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد فعلها، فلنا أن نفعلها اقتداءً به؛ لقول الله تعالى:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيْ رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}، ولأنه لا خلاف بين الأمة أن كل ما فعله الرسول عليه السلام، فلنا أن نفعله، إلاَّ أن يثبت دلالة التخصيص، ولا دلالة تدل على أنها كانت خاصة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإن الصحابة قد قالت بها، وإن اختلفت في وجوهها.(20/19)
فأما ما قلناه(1) إن الإمام يسلم إذا تشهد، ولا ينتظر الطائفة الثانية؛ لأنا وجدنا حكم الطائفة الثانية حكم من سبقه الإمام بركعة، ولا خلاف أن من سبقه الإمام بركعة، لا ينتظره الإمام، بل يتشهد، ويسلم، ثم يقوم المسبوق، فيتم صلاته، وكذلك الطائفة الثانية؛ والعلة أن الإمام سبقه بركعة فما فوقها، وقد بينا أيضاً أن صالح بن خوات روى مثل قولنا هذا، عن سهل بن أبي حثمة.
مسألة [كيفية صلاة الخوف في المغرب]
قال: وإن(2) كانوا في المغرب، صلى الإمام بالفرقة الأولى ركعتين، وبالفرقة الثانية ركعة تخريجاً.
وهذا خرجه أبو العباس الحسني رحمه الله من قول يحيى بن الحسين عليه السلام: ولا يجوز لمصل في غير الخوف أن يقصر صلاته عن صلاة إمامه(3).
قال: فدل ذلك على أنَّه لا يجوز الخروج من صلاة الإمام إلاَّ لعذر، ولا عذر للطائفة الأولى في المغرب، إلاَّ بعد الركعتين، إذ بعدهما يصيرون إلى حالة لا يبقى معها إلاَّ أقل ما يجزي الطائفة الثانية.
وقال في (المنتخب)(4) في تفسير القصر المذكور في الكتاب: "هو قصر المسلمين صلاتهم عن صلاة إمامهم، وسلامهم قبل سلامه، ودخول الطائفة الأخرى في آخر صلاته، وإتمامها لركعتها الباقية". فجعل للطائفة الأخرى آخر الصلاة، ويكون ذلك من المغرب الركعة الثالثة.
ويدل على ذلك: ما رواه زيد بن على، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام في صلاة الخوف في المغرب، قال: يصلي بالطائفة الأولى ركعتين، وبالطائفة الثانية ركعة.
__________
(1) في (أ): قلنا.
(2) في (أ): فإن.
(3) انظر الأحكام 1/129. والمنتخب ص53.
(4) المنتخب ص54.(20/20)
ويدل على ذلك ما ذكره الهادي إلى الحق عليه السلام من أنَّه لا يجوز لمصل في غير الخوف أن يخرج عن الائتمام؛ لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( إنما جعل الإمام ليؤتم به ))، وما ثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم من النهي عن أن يرفع المؤتم رأسه قبل الإمام من الركوع والسجود. فدل ذلك على أنَّه لا يجوز للمؤتم أن يخرج من الائتمام، إلاَّ لعذر، وإذا ثبت ذلك، فلا عذر للطائفة الأولى، إلاَّ خشية أن يفوت الطائفة الثانية الائتمام، وذلك لا يكون إلاَّ بعد الركعة الثانية من المغرب.
ووجه آخر، وهو: أن الائتمام في صلاة الخوف مقسوم على الطائفتين، فكان لكل واحدة من الطائفتين نصفها، فوجب أن يكون للطائفة الأولى ركعة ونصف، وللطائفة الثانية ركعة ونصف، فلما ثبت ذلك، ولم يصح تنصيف الركعة الواحدة كان الأولى أن يجعل آخرها لمن كان له أولها؛ لأن الأول إذا حصل، لم يمنع أن يلحق به الآخر على سبيل التبع، ولا يجوز أن يلحق الأول الحاصل على سبيل(1) التبع الآخر الذي لم يحصل، وإذا كان ذلك كذلك، وجب أن تكون الركعة الثانية للطائفة الأولى.
ووجه آخر، وهو: أنا لو جعلنا الركعة الثانية من المغرب للطائفة الثانية، لكنا قد جعلنا التشهد الأول من الإمام، بحيث لاحظ فيه لواحدة من الطائفتين؛ لأن الطائفة الأولى لا تلحقه، والطائفة الثانية تجلس معه اتباعاً، ولا يعتد لها به، فوجب أن نجعلها للطائفة الأولى؛ لئلا يكون في صلاة الإمام ما لا حظ فيه لواحدة من الطائفتين.
مسألة [صلاة الخوف لاتكون إلا في السفر]
قال القاسم عليه السلام: ولا يصلي صلاة الخوف إلاَّ في السفر.
وهذا منصوص عليه في (مسائل النيروسي). ونص عليه يحي عليه السلام في (المنتخب)(2).
__________
(1) في (أ): على جهة.
(2) انظر المنتخب ص53.(20/21)