والأصل فيه: ما رواه محمد بن منصور، عن ضرار بن صرد، عن عبد العزيز بن محمد، عن جعفر، عن أبيه، عن علي عليه السلام، قال: "يتم الذي يقيم عشراً، والذي يقول: اليوم أخرج، غداً أخرج(1)، يقصر إلى شهر".
وروى أبو سعيد الأبهري، عن عبد الرحمن بن أبي حاتم، قال: حدثنا أبي قال: حدثنا أبو نعيم الفضل بن دكين(2)، قال: حدثنا سفيان، عن جعفر، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام، قال: "إذا أقمت عشراً، فأتم الصلاة".
قال: عبد الرحمن، وحدثنا أبي، قال: حدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس، قال: حدثنا مندل، عن جعفر، عن أبيه، عن علي عليهم السلام، قال: "إذا أزمع المسافر على إقامة عشر، أتم".
فإن قيل: روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه أقام بمكة ثمان عشرة، يصلي ركعتين ركعتين.
قيل له: ليس في الحديث أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم كان ينوي إقامة هذه المدة ثم قصر، وليس يمتنع(3) أن يكون أقام ما أقام من غير تقديم العزم عليه، ونحن نقول: إن من أقام من غير تقديم العزم، يقصر شهراً، فقد بان أن ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم غير قادح في مذهبنا، على أنا قد دللنا في (كتاب الحيض) على أن أقل الطهر عشر، فوجب أن يكون أقل الإقامة عشراً؛ لأن كل واحد منهما حال يعود معها ما أسقط للحالة(4) المنافية لها من الصلاة مع(5) القدرة عليها، وأيضاً قد تقرر على أصولنا أن العشر(6) قد جعلت حداً بين القلة والكثرة في كثير من الأصول، نحو أقل المهر، وأقل ما يقطع به السارق، فصار ذلك شهادة لقياسنا، ومؤيداً له.
__________
(1) في (أ): أخرج اليوم، أخرج غداً.
(2) في (ب): الفضل بن كثير. وفي هامشها: بن دكين.
(3) في (أ): وليس يمنع.
(4) في (أ): الحالة.
(5) في (أ): على.
(6) في (أ): العشرة.(20/12)


ومن أصحابنا من استدل على أن من لم يعزم على المقام، يقصر شهراً، ثم يتم بقول اللّه تعالى:{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهَرَ فَلْيَصُمْه}، فدل بقوله: {مَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهَرَ فَلْيَصُمْه}، على أن من حضر شهراً، وجب عليه الصيام، فكأنه قال تعالى: من أقام شهراً، فليصم شهر رمضان.
فإن قيل: روي أن ابن عمر أقام بأذربيجان ستة أشهر وهو يقصر الصلاة، وروي أن أنساً أقام بنيسابور سنين يقصر(1).
قيل له: إن من أصلنا أن عليّاً عليه السلام إذا روى عنه الحكم، وجب إتباعه، ولم يجز العدول عنه إلى ما يروى عن سائر الصحابة، وقد روينا ما نذهب إليه عن علي عليه السلام، على أن ما روي عن ابن عمر يجوز أن يكون أريد به أنه بقي بناحية أذربيجان يتنقل من موضع إلى موضع ستة أشهر، فلا تكون إقامته في موضع واحد، وكذلك ما روي عن أنس.
فأما ما يدل على أن المواضع كلها - العمران منها وغير العمران - تستوي فيما ذكرناه، فهو أن الأخبار الواردة في هذا الباب كلها وردت بلفظ الإقامة والمقام، من غير استثناء موضع من موضع، فوجب أن تكون المواضع كلها على سواء، على أنَّه لا خلاف أن بعض الناس لو جعل موضعاً من البراري وطناً له أنه يلزمه الإتمام فيه، فبان أن فرض الإتمام يتعلق بالإقامة دون موضع الإقامة.
ويمكن أن يقاس المقام فيه على المقام بمواضع العمران؛ والعلة أنَّه إقامة في موضع(2) واحد.
مسألة [في المسافر ينفذ من بلدته إلى غيرها]
قال: ولو أن مسافراً، خرج من مدينته إلى بعض المواضع، ثم رجع، فمر بمدينته، فعليه أن يتم، إذا كانت المدينة وطنه، فإن كان قد انتقل عنها، وصار وطنه في غيرها، لم يتم.
وهذا منصوص عليه في (المنتخب)(3).
__________
(1) سقط من (ب): يقصر.
(2) في (أ): مكان.
(3) انظر المنتخب ص52.(20/13)


وقلنا: إن من رجع إلى مدينته، يتم، وإن كان مقامه فيها يسيراً، إذا كانت هي وطنه؛ لما: روي عن ابن عباس رضي الله عنه قال: فرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحضر أربعاً، وفي السفر ركعتين. وهذا إذا حصل في وطنه يكون حاضراً غير مسافر.
ويدل عليه أيضاً: ما روي عن محمد بن علي، وعن عائشة قالا: فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، ثم زيد في صلاة(1) الحضر ركعتان.
وروي عن عمران بن حصين ما قدمناه من قوله: ما سافر رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، إلاَّ صلى ركعتين(2) حتى يرجع إلى أهله.
فبين أن الرجوع إلى الأهل ينقطع معه القصر.
وقلنا: إنَّه إن انتقل من مدينته، واستوطن غيرها، فإنه لا يتم إذا رجع إليها مجتازاً، ما لم ينو مقام عشر؛ لما روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أقام بمكة أياماً يقصر الصلاة، فإذا فرغ منها قال: (( قوموا يا أهل مكة، فصلوا ركعتين، فإنا قوم سفر )).
وقد كانت مكة من قبلُ وطنه صلى الله عليه وآله وسلم، ولكنه لما انتقل عنها، واستوطن المدينة، صلى فيها صلاة المسافر، وهي قياس سائر البلدان، بعلة أنَّه صلى(3) فيها وهو غير مستوطن لها، فيجب أن يكون حاله إذا دخلها كحاله إذا دخل غيرها من سائر البلدان في القصر والإتمام .
مسألة [في المسافر يعزم على الإقامة أثناء الصلاة]
قال: ولو أن مسافراً دخل في الصلاة ثم عزم على الإقامة، أتمها، ثم لو عزم بعد ذلك على السفر، لم يجز له قصرها.
وهذا تخريج من قوله في (الأحكام)(4): "إذا عزم المسافر على سفر بريد، قصر حين يخرج من منزله وتتوارى عنه بيوت أهله، وإذا نوى المسافر المقام في بعض ما يمر به من البلاد عشراً أتم". فعلق القصر بالمسير مع العزم، وعلق الإتمام بالعزم فقط.
__________
(1) سقط من (أ) و(ب): صلاة.
(2) في (أ) و(ب): ركعتين ركعتين.
(3) في (أ): يصلى.
(4) الأحكام 1/125.(20/14)


والأصل فيه: أنَّه لا خلاف في أن المقيم إذا عزم على السفر لا يكون مسافراً حتى يخرج ويسير، وأن المسافر إذا عزم على المقام صار به(1) مقيماً، فلما ثبت ذلك، قلنا: إن المسافر إذا دخل في الصلاة، ثم عزم على الإقامة، لزمه الإتمام؛ لأنَّه بالعزم يكون مقيماً، وصلاة المقيم أربع لا يجزي غيرها.
وقلنا: إنَّه إذا عزم بعد ذلك على السفر، لم يجز له القصر؛ لأنَّه لا يصير المقيم مسافرًا بالعزم على ما بيناه.
مسألة [كيفية صلاة الخوف]
قال: وصلاة الخوف أن ينقسم المسلمون قسمين، تقوم فرقة منهم بإزاء العدو يدفعونه، وفرقة يصلي بهم الإمام، يبتدئ فيفتتح الصلاة، ثم يقرأ، ويركع، ويسجد، ثم يقوم الإمام مع الفرقة الأولى فيطول القراءة، وتركع الفرقة الأولى، ويتمون لأنفسهم ركعة أخرى، ويسلمون وينصرفون، ويقومون بإزاء العدو، ثم تأتي الفرقة الثانية التي لم تصل، فتفتتح الصلاة خلف الإمام، فيصلي بهم الإمام الركعة الثانية، ثم يتشهد الإمام، ويسلم، ويقوم الذين خلفه، فيصلون الركعة الباقية وحدهم.
وذلك كله منصوص عليه في (الأحكام) و(المنتخب)(2)، وهو مذهب الإمامية، والناصر عليه السلام، إلاَّ في تسليم الإمام فإنهم يذهبون إلى أن الإمام إذا قعد للتشهد، انتظر فراغ الفرقة الثانية، ثم يسلم بهم.
والأصل في ذلك(3): قول اللّه تعالى:{وَإِذَا كُنْتَ فِيْهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ..} الآية [النساء:102]، فدلت الآية على أن الناس ينبغي لهم أن يقتسموا طائفتين، طائفة يقومون مع الإمام {فَإِذَا سَجَدُوا}[النساء:102]، فالمراد به إذا فرغوا من الصلاة، جاءت الطائفة الأخرى التي لم تصل، فيصلوا معه.
فإن قيل: ولم قلتم : إن المراد بقوله : {فَإِذَا سَجَدُوا}، إذا فرغوا من الصلاة؟
__________
(1) سقط من (أ) و(ب): به.
(2) انظر الأحكام 1/126. والمنتخب ص53.
(3) في (أ): والأصل فيه.(20/15)


قيل له: لأن اللّه تعالى قد نبه على ذلك بقوله تعالى: {وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ}[النساء:102]، فلو كانت الطائفة الأولى أيضاً لم تصلّ، لم يقل تعالى: {وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلَّوا}[النساء:102]، إذ الطائفتان جميعاً لم تصل واحدة منهما؛ لأن من فعل بعض الصلاة لا يقال: إنَّه قد صلى، فنبهت الآية على أن الطائفة الثانية تجيء بعدما صلت الطائفة الأولى، ولا تكون صلت إلاَّ إذا فرغت.
فإن قيل: ظاهر الآية يوجب أن الطائفة الثانية تأتي إذا سجدت الطائفة الأولى، وهو مذهب أبي حنيفة دون مذهبكم؟
قيل له: ما يقتضيه ظاهر الآية ليس مذهباً لأحد؛ لأنَّه يقتضي أن تأتي الطائفة الثانية إذا سجدت الطائفة الأولى، ومذهب أبي حنيفة أن الطائفة الثانية لا تأتي حتى تسجد الطائفة الأولى سجدتين، ثم تقوم، وتأتي موضع الطائفة الثانية ثم تجيء الطائفة الثانية، فكل منا، ومن أبي حنيفة يثبت ما لا يتضمنه ظاهر الآية، فليس يثبت لهم أن الظاهر معهم.
على أن قوله تعالى: {فِإِذَا سَجَدُوا}، يدل على أن المراد(1) ما ذهبنا إليه، لأنَّه لو كان المراد به السجود دون الفراغ من الصلاة لكان الأولى بسياق الآية أن يقول : فإذا سجدت بهم؛ لأن الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فانصراف الكلام عن أصله من الخطاب، يدل على أن المراد به فراغ القوم من صلاتهم؛ ولأنه تعالى لم يذكر قضاء الطائفة الأولى لصلاتهم، فدل على أنهم لا ينصرفون إلاَّ بعد الفراغ من صلاتهم.
__________
(1) في (أ): المراد به.(20/16)

86 / 138
ع
En
A+
A-