قيل له: إذا قال: فُرِضَ في السفر ركعتان، دل على أنَّه لا فرض سواهما، كما أنَّه إذا قال: فرض في الحضر أربعاً، دل على أنَّه لا فرض سواهن، وهكذا نقول في سائر التقديرات الواردة في الشرع، كأن يقول: حد القاذف ثمانون، وحد الزاني مائة، فالظاهر في جميع ذلك يقتضي أن المراد هو المذكور، لا زيادة فيه، ولا نقصان.
وأخبرنا أبو بكر، قال: حدثنا الطحاوي، عن ابن مرزوق، قال: حدثنا نعيم، قال: أخبرنا(1) ابن المبارك، قال: أخبرنا خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن رجل، قال: أتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم لحاجة، فإذا هو يتغدى، فقال: (( هلم إلى الغداء ))، فقلت(2): إني صائم. فقال: (( إن اللّه ـ عزَّ وجل ـ وضع عن المسافر نصف الصلاة والصوم ))، وفي بعض الأخبار شطر الصلاة.
وهذا أيضاً صريح ما نذهب إليه.
فإن قيل: فهذا يدل على أن له أن يتم الصلاة ويأتي بالموضوع منها، كما له أن يأتي الموضوع عنه من الصوم، ويكون مؤدياً للفرض.
قيل له: ظاهر الحديث يدل على أن الصوم الذي يأتيه المسافر غير مفروض، وكذلك الصلاة التي يفعلها زائدة على الركعتين، إلاَّ أن له دلالة أخرى دلت على أن المسافر إذا صام يكون مؤدياً فرضه، ولم تقم تلك الدلالة في الصلاة، فوجب أن يكون حكم الصلاة على ما دل عليه الحديث.
وروي عن أبي جعفر عليه السلام قال: (( نزلت الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ركعتين ركعتين(3)، إلاَّ المغرب، فزاد رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم للحاضر في الظهر والعصر والعشاء، وأقر للمسافر(4) ))).
__________
(1) في (أ): حدثنا.
(2) في (أ): فقال.
(3) كذا في نسخة صحيحة، وأكثر النسخ مثل (أ) و(ب): نزلت الصلاة على النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ركعتان ركعتان. والصواب: ركعتين.
(4) في (أ): المسافر.(20/2)
وروى الشعبي، عن مسروق، عن عائشة، قالت: (( أول ما فرضت الصلاة ركعتين ركعتين(1)، فلما قدم رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم المدينة صلى إلى كل صلاة مثلها، غير المغرب فإنها وتر النهار، وصلاة الصبح لطول قراءتها، وكان إذا سافر عاد إلى صلاته الأولى )).
وأخبرنا أبو العباس الحسني رضي اللّه عنه، قال: أخبرنا الحسين بن محمد بن مسلم المقرئ بالكوفة قال: حدثني إسحاق بن محمد بن مروان القطان، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا عبد الله بن جعفر، عن سليمان بن عمر، عن عبد الله بن الحسن، عن آبائه، عن علي عليهم السلام، قال: كنا نصلي مع رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم في أسفاره ركعتين ركعتين، خائفاً كان، أو آمناً.
وروي عن ابن عباس قال: كان رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم إذا خرج من أهله لم يصل إلاَّ ركعتين حتى يرجع إليهم(2).
[وعن عمران بن حصين: ما سافر رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم إلاَّ صلى ركعتين حتى يرجع إلى أهله](3)، وإنه أقام بمكة ثمان عشرة يصلي ركعتين ركعتين، ثم يقول: يا أهل مكة، قوموا فصلوا ركعتين آخرتين، فإنا قوم سفر، وقد ذكرنا إسناد هذا الحديث في مسألة صلاة المقيم خلف المسافر.
فهذه الأخبار أيضاً تدل على ما نذهب إليه؛ لأن فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الباب وقع بياناً لمجمل واجب، إذ عدد الركعات في السفر غير مبين في الكتاب، فيجب أن يكون محمولاً على الوجوب.
__________
(1) هكذا في جميع النسخ الأولى: ركعتان ركعتان. خبر عن أول، إلا أن نقدر خبراً آخر فنقول مثلاً: أول ما فرضت الصلاة ركعتين ركعتين قبل الهجرة.
(2) في (أ): إلى أهله.
(3) ما بين العكوفين ساقط من (أ)، وأشار إليه في الهامش.(20/3)
فإذا ثبت ذلك، ثبت أن الاتمام غير جائز، على أن قوله: (( أتموا صلاتكم، فإنا قوم سفر ))، يدل على أن القصر من حكم السفر لا من حكم الاختيار؛ لأنَّه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (( إنَّا قوم سفر ))، ولم يقل: فإنا اخترنا أن نصلي ركعتين للسفر.
والأخبار في هذا الباب أكثر من أن تعد، لكنا قد اقتصرنا منها على اليسير؛ خشية الإطالة؛ ولأن كتابنا هذا ليس المقصد منه استيفاء الأحاديث.
فإن قيل: فقد قال اللّه تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِيْ الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلِيْكُم جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُم}[النساء:101]، فرفع الجناح يدل على الجواز، لا على الوجوب، فدلت الآية على أن القصر جائز وأنه غير واجب.
قيل لهم: ليس لكم بالآية تعلق، وذلك أن القصر المذكور فيها أجيز بشرط الخوف، ألا ترى إلى قوله: {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُم الَّذِيْنَ كَفَرُوا}، ولا خلاف بيننا وبينكم أن المسافر يقصر وإن لم يكن خائفاً، فبان أن القصر المذكور في الآية، ليس هو ما اختلفنا فيه.
فإن استدل بالآية من ذهب إلى أن القصر لا يجوز، إلا بشرط الخوف، لم يصح ذلك؛ لأنه قول قد سبقه الإجماع، فلا يجوز القول به؛ ولأن القصر المذكور في الآية، هو قصر الصفة، لا قصر العدد، بدلالة قوله عقيب الآية: {وَإِذَا كُنْتَ فِيْهِمْ}[النساء:102]، يعني في الذين قال لهم : {وِإذَا ضَرَبْتُم فِيْ الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلِيْكُم جُنَاحٌ أَنْ تَقَصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ}[النساء:101]، فيكون المراد بهذا القصر هو أن إتمام كل واحدة من الطائفتين قاصرة عن صلاة من أتم الإتمام(1).
على أن اللّه تعالى قال: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ}...الآية [البقرة:158]، ولم يدل ذلك على أن السعي غير واجب، فكذلك القصر.
__________
(1) المثبت في أصل النسختين (الإتمام)، وفي الهامش (الائتمام).(20/4)
وروي عن يعلى بن منية، قال: قلت لعمر: إنما قال اللّه عزَّ وجل:{لَيْسَ عَلَيْكُم جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ}، فقد أمن الناس، فقال: عجبت مما عجبت منه فسألت رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (( صدقة تصدق [اللّه](1) بها عليكم، فاقبلوا صدقته )).
فنبه صلى الله عليه وآله وسلم على أن قصر العدد غير مشروط فيه الخوف، وفي الخبر دليل على وجوب القصر؛ لأنَّه صلى الله عليه وآله وسلم سماه صدقة، ثم قال: (( فاقبلوا صدقته ))، فأمر به، والأمر يقتضي الوجوب.
فإن قيل: روي عن عطاء بن أبي رباح، عن عائشة قالت: قصر رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم في السفر وأتم، فلو كان القصر واجباً، لم يكن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم يدعه إلى الإتمام.
قيل له : قولها: قصر رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم قصر العدد، وقولها : أتم، يحتمل أن يكون معناه أتم الركوع، والسجود، والقراءة مع القصر في العدد، ويحتمل أتم في الحكم مع القصر في العدد كما روي : (( صلاة المسافر ركعتان تماماً غير قصر )). أي تماماً في الحكم.
ويحتمل قول أنس: كنا نقصر ونتم، ولا يعيب بعضنا بعضاً على إتمام القراءة والركوع(2) والسجود وتخفيفها.
ومما يدل على فساد قول من قال: إن القصر مباح أنَّه يؤدي إلى أن يكون من صلى أربعاً في السفر يكون متنفلاً بركعتين؛ لأن حد النفل أن يكون طاعة يجوز تركها لا إلى بدل يقوم مقامه، وعندهم أن الركعتين الآخرتين هذا سبيلهما، فوجب أن يكون القصر واجباً.
ومما يدل على ذلك أنَّه لا خلاف أن الحاضر لا خيار له في عدد الركعات، فوجب أن يكون المسافر كذلك، والمعنى أنها صلاة مكتوبة، فكل مؤد صلاة مكتوبة يجب أن لا يكون له خيار في عدد الركعات.
فإن قيل: علتكم لا تصح بأن المسافر عندكم له الخيار بين أن يصلي ركعتين، وبين أن يعزم على الإقامة فيصلي أربعاً.
__________
(1) سقط من (أ).
(2) في (أ): في الركوع.(20/5)
قيل له: هذا الخيار على التحقيق، ليس هو في عدد الركعات، وإنما هو خيار بين فعل العزم، وتركه، ألا ترى أن المقيم أيضاً له الخيار بين أن يسافر ويصلى ركعتين، وبين أن يعزم على الإقامة فيصلي أربعاً، ومع هذا لا نقول: إن المقيم له الخيار بين أن يصلي أربعاً، وبين أن يصلي ركعتين.
وإذا ثبت ذلك، بانت صحة علتنا، ووضحت أن لا خيار عندنا في عدد ركعات المكتوبة على وجه من الوجوه.
وأيضاً هو مقيس على الجمعة؛ بعلة أنَّه مردود من أربع ركعات إلى ركعتين، فوجب أن يكون الاقتصار على الركعتين فرضاً.
فأما قول من قال: إنَّه لا قصر إلاَّ بشرط الخوف، فقد ذكرنا أن الإجماع قد سبقه، فوجب سقوطه، إذ هو غير محفوظ عن أحد من العلماء المتقدمين، مع كثرة اختلافهم في القصد ووجوبه، ويدل على ذلك الحديث الذي ذكرناه عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه(1) قال: كنا نصلي مع رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم في أسفاره ركعتين ركعتين، خائفاً كان، أو آمناً.
وحديث عمران أنَّه قال: ما سافر رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم إلاَّ صلى ركعتين، حتى يرجع إلى أهله، وإنه أقام بمكة ثمان عشرة يصلي ركعتين ركعتين.
ومن المعلوم أنه صلى اللّه عليه وآله وسلم لم يكن خائفاً في جميع أسفاره، وكذلك حين أقام بمكة ثمان عشرة لم يكن خائفاً.
وأخبرنا أبو بكر المقري، قال: حدثنا الطحاوي، عن ابن مرزوق، قال: حدثنا وهب، عن شعبة، عن أبي إسحاق، عن حارثة بن وهب، قال: صلى بنا رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ركعتين بمنى، ونحن أكثر ما كنا وآمنة(2).
وروي عن عبد اللّه قال: صلينا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمنى ركعتين، ومع أبي بكر ركعتين، ومع عمر ركعتين(3).
__________
(1) سقط من (ب): أنه.
(2) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/419.
(3) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/416.(20/6)