على أن الأصول تشهد لعلتنا؛ لأن الشيء إذا لم يكن واجباً، ففعل بعضه لا يوجب سائره، كالصدقة، وقراءة القرآن، والتسبيح، والغزو، وكذلك المعاملات التي تكون بين الناس، فكل ذلك يشهد لسائر ما ذكرناه.
فأما الحج، فإنه ورد حكمه في هذا الباب مخالفاً للأصول، وعند مخالفينا في هذه المسألة أن ما ورد بخلاف الأصول فلا يجوز أن يقاس عليه، ولهذا قالوا: أنه لا يقاس على نبيذ التمر سائرُ الأنبذة، فيجب أن يُفسِد قياسهم هذا على أوضاعهم.
مسألة: [في المرأة تحيض قبل أن تصلي]
قال: وقال القاسم عليه السلام: ولو أن امرأةً دخل عليها وقت الصلاة، فلم تصلها حتى حاضت قبل تصرم وقتها، لم يجب عليها قضاؤها.
وهذا منصوص عليه في (مسائل النيروسي)، وعلل ذلك بأن قال: لأنها لم تضيع الصلاة.
فدل ذلك على أن المراد به إذا حاضت قبل مضي الوقت ـ أجمع ـ بمقدار ما يمكن أن تؤدي الصلاة كاملا، أو أكثر من ذلك؛ لأنها إن حاضت بعده، تكون قد ضيعت.
والأصل في ذلك أن من وجب عليه الشيء عند القاسم وجوباً موسعاً يكون مخيراً بين فعله، أو العزم على فعله، في الثاني(1)، أو فيما بعده إلى آخر الوقت، فمتى فعل المكلف أحدهما، يكون قد فعل ما وجب عليه في الوقت، فعلى هذا إذا وجبت الصلاة في أول الوقت وجوباً موسعاً، كان الإنسان مخيراً بين أن يفعلها، أو يفعل العزم على فعلها فيما بعد، فإذا حاضت المرأة بعد مضي طرف من وقتها، لم تكن ضيعت الصلاة، إذا فعلت ما هو بدل منها في الوقت، فوجب أن لا يلزمها القضاء؛ لأن الحائض لا تقضي من الصلاة، إلاَّ ما ضيعته.
فإن قيل: فما تقولون لو كانت سهت في أول الوقت، فلم تعزم، أو تركت العزم مع الذكر له، ثم حاضت؟
__________
(1) في هامش (أ) و(ب): في الوقت الثاني.(19/12)
قيل له: إذا ثبت ما قلناه من التي فعلت العزم، فلا أحد يفصل بينها وبين التي لم تعزم، فوجب(1) أن يكون حكمهما واحداً، وأيضاً فإن القضاء لا يلزم إلاَّ بالفوات، والفوات لا يكون إلاَّ بمضي آخر الوقت، ألا ترى أن المصلي لا يكون قاضياً، وإن لم يصل في أول الوقت ووسطه، إذا كان قد صلى في آخر الوقت؛ لأن الصلاة لم تفته بمضي آخر الوقت، وكذلك الحج لا يكون قضاء في أي وقت فُعل، إذا لم يفت بمضي آخر الوقت، وإذا ثبت ذلك، ثبت أن الحائض إذا حاضت في آخر الوقت، لم تقض تلك الصلاة؛ لأنها لم تفتها، وأيضاً لا خلاف أن الطهر إذا تجدد في آخر الوقت كان تجدده فيه كتجدده في أول الوقت في أحكام الصلاة، فكذلك الحيض، والمعنى أن كل واحدٍ منهما يغير حكم الصلاة، وهذا أيضاً لا خلاف أنها إذا حاضت في أول الوقت، لم تقض تلك الصلاة، فكذلك إذا حاضت بعد ذلك؛ والعلة تجدد حيضها في وقت كمال الصلاة.
وعلى أصله هذا يجب أن يكون المقيم إذا سافر في آخر الوقت تلزمه صلاة المسافر، والمريض إذا أغمي عليه في آخر الوقت، لم يلزمه(2) قضاء تلك الصلاة.
مسألة [في المقيم كيف يقضي ما فاته في السفر والعكس]
وإذا فاتت المسافر صلاة، فقضاها في الحضر، يقضي صلاة المسافر، وإذا فاتت الحاضر، فقضاها في السفر، قضى صلاة الحاضر تخريجاً.
وهذا مما خرجه أبو العباس الحسني ـ رحمه الله ـ، وذكره في (كتاب النصوص) وهو الصحيح؛ لأن من أصل أصحابنا أن فرض المسافر ركعتان، كما أن فرض الحاضر أربع، وأن ذلك ليس برخصة له، وسنبين الكلام فيه بعد هذا الباب، فإذا ثبت ذلك، وجب عليه القضاء، ووجب أن يكون الاعتبار بالفائت دون الحال(3) التي يقضي فيها، كما أن من فاته المغرب أو الفجر، فقضاهما في وقت الظهر، كان الاعتبار بالفائت دون الوقت الذي يقضي فيه.
__________
(1) في (أ): فيجب.
(2) في (أ): يلزمه.
(3) في (أ): الوقت.(19/13)
فإن قيل: أليس العليل الذي تفوته صلاة القاعد، إذا صح، صلى صلاة القائم، وكذلك المتيمم الذي لا يجد الماء إذا فاتته الصلاة، ثم وجد الماء، صلى متوضئاً، فما أنكرتم أن يكون المسافر إذا فاتته الصلاة، ثم أقام، إنَّه يقضي صلاة المقيم؟
قيل له: الفصل بينهما أن العليل أبيح له أن يصلي قاعداً؛ للعذر، وكذلك المتيمم؛ بدلالة أنَّه لو أمكنه أن يصلي قائماً في تلك الحال، لم يجز له أن يصلي قاعداً، وكذلك المتيمم لو أمكنه أن يصلي متوضئاً، لم تجزه صلاته متيمماً، فلما كان ذلك كذلك، وزال عنهما العذر، لم تجز صلاة المعذور، وليس كذلك المسافر؛ لأن فرضه ركعتان، حتى لو صلى أربعاً، لم تجزه، فلم يشبه المعذور، وأشبه ما ذكرناه، أعني من فاته الفجر والمغرب فقضى في وقت الظهر أنَّه يقضي كما فاته.
مسألة: [فيما يوجب القضاء في الوقت وبعده]
قال: وإذا تطهر الرجل بماء نجس وهو لا يعلم، فإن علم وهو في الوقت، قضاها، وإن لم يعلم إلا بعد مضي الوقت، لم يقضها.
قال: وكذلك من صلى في ثوب نجس تخريجاً.
قال: وهكذا القول في كل من فعل شيئاً من ذلك على طريق الجهل دون التعمد.
قال: ومن صلى جنباً، وهو ناسٍ، أعادها في الوقت وبعده، وكذلك من صلى قبل الوقت، وهو لا يعلم.
وجميع ما ذكرناه منصوص عليه في (الأحكام) و(المنتخب)(1) غير الصلاة في الثوب النجس، فإن أصحابنا خرجوه على سائر ما نص عليه في (الأحكام) و(المنتخب).
وقد استقصينا هذا الباب في مسألة من أخطأ القبلة، وذكرنا الفرق بين ما يعاد في الوقت وبعده، وبين ما يعاد في الوقت ولا يعاد بعده، وأنا أشير في هذا الموضع إلى بعض ما مضى مع ضرب من التلخيص.
__________
(1) انظر الأحكام 1/119،120. وانظر المنتخب ص37 ـ 49.(19/14)
اعلم أن مذهب يحي عليه السلام: أن من أخطأ في أمر من الأمور المانعة لصحة الصلاة، وكانت طريق معرفته الاجتهاد وغالب الظن، فليس على المصلي إذا علم به بعد الوقت إعادة، وإن علم به وهو في الوقت، فعليه الإعادة.
والأصل فيه القبلة وما ورد فيها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه لم يأمر الذين أخطأوها حين علموا بالخطأ بعد مضي الوقت بإعادة ما صلوا، فقاس عليه من تطهر بماء نجس وهو لا يعلم.
فأما من أخطأ فيما طريقه النص والإجماع، مما يقتضي العلم نحو أن يصلي قبل الوقت، أو يصلي محدثاً، أو مجنباً(1)، فعليه الإعادة إذا علم به، سواء علم به في الوقت، أو بعد مضي الوقت، وهذا مما لا خلاف فيه بين الأمة.
__________
(1) في (أ): جنباً.(19/15)
باب القول في صلاة السفر والخوف
[مسألة في فرض المسافر]
فرض المسافر ركعتان إلاَّ المغرب.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام)(1).
وهو مذهب القاسم، وأحمد بن عيسى عليهما السلام، وإليه ذهب أبو حنيفة، وأصحابه، وهو قول عامة الصحابة، وهو مذهب الإمامية إذا كان السفر طاعة.
والدليل على ذلك ما اخبرنا به أبو بكر المقري، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا ابن مرزوق، قال: حدثنا أبو إسحاق الضرير، قال: حدثنا أبو عوانة، عن بكير بن الأخنس، [عن مجاهد](2)، عن ابن عباس، قال: (( فرض اللّه على لسان نبيكم في الحضر أربعاً، وفي السفر ركعتين ))(3).
وأخبرنا أبو بكر المقري، قال: حدثنا الطحاوي عن ربيع المؤذن، قال: حدثنا أسد، قال: حدثنا حاتم بن إسماعيل قال: حدثنا أسامة بن زيد، قال: سألت طاووساً، عن هذا فقال: قال ابن عباس: (( فرض رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم الصلاة في الحضر أربعاً، وفي السفر ركعتين ))(4).
وهذا صريح في موضع الخلاف.
فإن قيل: ما أنكرتم أن يكون أراد به الفرض الذي لا يجوز تركه، ونحن لا ننكر أن الفرض الذي لا يجوز للمسافر تركه ركعتان؟
__________
(1) انظر الأحكام 1/125.
(2) سقط ما بين المعكوفين من (أ) و(ب).
(3) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/421. وفيه: قالا، بدل: قال حدثنا أبو عوانة. وفي المتن: فرض الله الصلاة.. إلخ.
(4) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/422، إلا أن هنا نقص من قوله: سألت طاووساً، هذا نصه: (( عن التطوع في السفر، فقال: وما يمنعك؟ فقا الحسن بن مسلم: أنا أحدثك، أنا سألت طاووساً عن هذا.. )) إلخ.(20/1)