فإن قيل](1): روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه لما فاتته أربع صلوات يوم الخندق حتى كان عند هوى من الليل، قضاهن على الترتيب، فدل ذلك على وجوب الترتيب في الفوائت.
قيل له: ما ذكرت يدل على أن الترتيب فيهن جائز، وليس فيه أنَّه واجب، ونحن لا ننكر جواز قضاء الفوائت على الترتيب.
فإن قيل: إنَّه يدل على الوجوب؛ لأنَّه فعل وقع من النبي صلى الله عليه وآله وسلم بياناً لمجملٍ، وهو الصلاة.
قيل له: ليس للقضاء لفظ مجمل، فيكون هذا الفعل منه بياناً له، وإذا لم يكن ذلك على ما ادعيت، بطل قولك: إنَّه يدل على الوجوب.
فإن قيل: قد قال صلى الله عليه وآله وسلم : (( صلوا كما رأيتموني أصلي ))، فدل ذلك على وجوب الترتيب؛ لأنَّه عليه السلام صلى مُرَتِّباً، وأمرنا أن نصلي كما رأيناه يصلي.
قيل له: قوله : (( صلوا كما رأيتموني أصلي ))، هو أمر بما يسمى صلاة، أن نفعله على الوجه الذي يفعله صلى الله عليه وآله وسلم ما يسمى صلاة، ونحن لم نختلف في الصلاة، وإنما اختلفنا في الزمان الذي تقع فيه الصلاة، والزمان لا يسمى صلاة، فالأمر لا يتعلق به، ألا ترى أنَّه لو قال: (( صلوا كما رأيتموني أصلي ))، ثم صلى بعد ما طعم، أو طعم بعد ما صلى، أو صلى بعد ما شرب، أو نام، أو شرب، أو نام بعد ما صلى، كان لا يجب أن نفعل نحن مثل ما فعله من المطعم والمشرب والنوم قبل الصلاة، أو بعدها؛ لأن كون زمان الصلاة المفعولة قبل تلك الأفعال، أو بعدها ليس مما يتعلق الأمر به، وكذلك الصلاة التي يفعل بعضها في أثر بعض؛ إذ الصلوات الكثيرة أو الصلاتان ليست في حكم الصلاة الواحدة، فيعلق بعضها ببعض، أو في حكم الوضوء الواحد في تعلق بعضه ببعض.
__________
(1) ما بين المعكوفين سقط من (أ) و(ب)، ولا يستقيم الكلام بدونه.(19/7)


ومما يدل على صحة ما نذهب إليه في هذا الباب أنا لا نختلف أن الفوائت إذا زادت على خمس صلوات، لم يكن فيها ترتيب، فكذلك إذا كانت خمساً أو دونها، والمعنى أنها فوائت صلوات منفردة، فيجب أن لا يكون الترتيب شرطاً في قضائها.
ويمكن أن يقاس أيضاً على ما فاته من فروض صلوات، وزكوات، وصيام؛ بعلة أنها فوائت فروض متميزة، وما ذكرناه من أنَّه يقدم النية لكل صلاة، فقد مضى الكلام في أن النية يجوز أن تتقدم الصلاة، فأما وجوب حصولها، فمما لا خلاف فيه.
مسألة [في قضاء النوافل]
قال: وإذا فاتته النوافل، قضاها استحباباً.
وذلك منصوص عليه في (المنتخب)(1).
والأصل فيه قوله صلى الله عليه وآله وسلم : (( من نسي صلاةً، أو نام عنها، فليقضها إذا ذكرها )). وهو عام في الفرض والنفل، وقد أجمعوا على أنَّه لا يقضي وجوباً، فثبت أنَّه يقضي استحباباً.
ويدل على ذلك: حديث أم سلمة رحمها الله، قالت إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى في بيتي ركعتين بعد العصر، فقلت: ما هاتان الركعتان؟ فقال: (( كنت أصليهما بعد الظهر، فجاءني مال فشغلني، فصليتهما الآن )).
فدل ذلك على أن قضاء النوافل إذا فاتت مستحب، و أيضاً يجب أن يكون حكم قضائها حكم أصلها، فإذا كان أصلها مندوباً، فكذلك قضاؤها، قياساً على الصلوات الواجبة إذا فاتت؛ لأن حكم قضائها حكم أصلها، ألا ترى أن أصلها لما كان واجباً، كان قضاؤها واجباً، والعلة أنها صلاة مؤقتة.
مسألة [في قضاء ما فسد من النوافل]
قال: وإذا دخل في النافلة ثم أفسدها، لم يجب عليه قضاؤها.
قد نص في كتاب الطهارة من (الأحكام)(2) على أن من فسدت له صلاة نافلة، لم يلزمه قضاؤها، ونص في (كتاب الصوم)(3) منه على أن(4) من صام تطوعاً، ثم أفسد، فلا قضاء عليه. ورواه عن القاسم عليه السلام.
__________
(1) انظر المنتخب ص49.
(2) انظر الأحكام 1/53، 54.
(3) انظر الأحكام 1/247.
(4) سقط من (ب): أن.(19/8)


والوجه فيه ما أخبرنا به أبو العباس الحسني رحمه اللّه، قال: أخبرنا أحمد بن سعيد، قال: حدثنا محمد بن علي بن زهير القرشي، قال: حدثنا عفان بن يسار، عن حماد بن سلمة، عن سماك بن حرب، عن هارون بن بنت أم هاني، عن أم هاني، قالت: دخل عليها رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، فاستسقى منها شراباً، ثم ناولها سؤره، فشربت، فقالت: يا رسول اللّه، إني كنت صائمة، ولكني كرهت أن أرد سؤرك.
فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (( إن كان قضاء من شهر رمضان، فصومي يوماً مكانه، وإن كان تطوعاً، فإن شئت فاقضي، وإن شئت فلا تقضي )) . فصرح بسقوط القضاء عن المتطوع بالصوم إذا أفسده، فكذلك يجب أن يكون حكم المتطوع بالصلاة، إذ لا أحد من الأمة فرق بينهما.
وروي عن أم هاني أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم دخل عليها يوم الفتح (1) فَأُتِيَ بإناء، فشرب، ثم ناولني، فقلت: إني صائمة، فقال: (( إن المتطوع أمير نفسه، فإن شئت فصومي، وإن شئت فأفطري )).
وفي بعض الأخبار، عن أم هاني قالت: أتي رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم بشراب يوم فتح مكة، فناولني، فشربت، وكنت صائمة، فكرهت أن أرد فضل سؤره، فقلت: يا رسول اللّه، إني كنت صائمة. فقال: (( أتقضين عنك شيئاً ))؟ قالت: لا. [قال: (( فلا يضرك )).
__________
(1) أي: عام الفتح؛ لأن الفتح في رمضان ولا تطوع فيه ولا قضاء لأنه واجبا. تمت من هامش (ب).(19/9)


وأخبرنا أبو بكر المقري، قال: حدثنا أبو جعفر الطحاوي، قال: حدثنا سليمان، قال: حدثنا أسد، قال: حدثنا قيس بن الربيع، عن سماك بن حرب، عن رجل من آل جعدة بن هبيرة، عن جدته أم هاني، قالت: دخلت أنا وفاطمة على رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم يوم فتح مكة، فجلست عن يمينه، فدعا بشراب، فشرب، ثم ناولني، فشربت وأنا صائمة. فقلت: يا رسول اللّه، ما أراني إلاَّ وقد أثمت، وأتيت حنثاً، عرضت عليَّ وأنا صائمة، فكرهت أن أرده عليك. فقال: (( هل كنت تقضين يوماً من رمضان ))؟ فقالت: لا](1). قال: (( لا بأس )).
ففي هذا الحديث وجهان من الدلالة:
أحدهما: أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم لم يقل: عليك قضاء يوم، ولا يجوز أن يكون قد لزمها قضاء يوم، ولم(2) يُعرِّفها رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ذلك.
والثاني: أنَّه قال: (( لا بأس ))، فنفى أن يكون لحقها في ذلك إثم، فإذا [لم يلحقها إثم](3)، ثبت أن لها الخيار في [إتمام التطوع أو الخروج منه، وإذا ثبت أن للمتطوع الخيار في](4) ذلك، ثبت أن لا قضاء عليها؛ إذ لا أحد قال ذلك إلاَّ قال: إنَّه لا قضاء عليه.
فإن قيل: روي عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة، قالت: أصبحت أنا، وحفصة متطوعتين، فأُهدي لنا طعام، فأفطرنا عليه، فدخل علينا رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، فسألناه، فقال: (( اقضيا يوماً مكانه )).
قيل له: هذا الحديث قد ضُعِّف؛ لما أخبرنا به أبو بكر المقري، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا علي بن شيبة، قال: حدثنا روح بن عبادة، قال: حدثنا ابن جريج، قال: قلت لابن شهاب: أحدثك عروة، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( من أفطر تطوعه، فليقضه ))؟ فقال: لم أسمع من عروة في ذلك شيئاً، ولكني حُدِثت عن عائشة بغير هذا السند.
__________
(1) ما بين المعكوفين ساقط من (أ) و(ب).
(2) في (أ): ولا.
(3) سقط ما بين المعكوفين من (أ) و(ب).
(4) سقط ما بين المعكوفين من (أ) و(ب).(19/10)


فإن صح الحديث، فهو محمول على أن الأمر ندب؛ ليلائم ما رويناه أولاً عن أم هاني.
ويدل على ذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: (( صلوا خمسكم، وصوموا شهركم، وحجوا بيت ربكم، وأدوا زكاة أموالكم، طيبة بها أنفسكم(1)، تدخلوا جنة ربكم )).
ففي هذا أن الواجب من الصلوات خمس، ومن الصوم(2) صوم شهر رمضان.
فإن قيل: فقد روي أن أعرابياً سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الفرض في اليوم والليلة، فقال: (( خمس ))، فقال: هل علي غيرها؟ فقال: (( لا، إلاَّ أن تتطوع )).
فدل ذلك على أنَّه يجب عليه التطوع؛ لأنَّه استثنى من نفي الواجب، وذلك يقتضي الوجوب.
قيل له: هذا استثناء من غير جنسه بالأدلة التي ذكرناها، ونذكرها، وإذا كان كذلك، لم يقتض الوجوب، ويكون كأنه قال صلى الله عليه وآله وسلم : (( لا(3)، لكن إن تطوعت، كان ذلك ))، وقد ورد إلاَّ بمعنى لكن في القرآن والشعر في غير موضع.
ومما يدل على ذلك أنه لا خلاف بيننا وبين خصومنا أن من ظن أن عليه صلاة، فدخل فيها للقضاء، فعلم أنها لم تكن عليه، فأفسدها أنَّه لا قضاء عليه، فكذلك المتطوع إذا أفسد صلاته؛ والعلة: أنه عبادة لا يمضي في فاسدها، فوجب أن لا تلزم بالدخول.
ويمكن أن يقاس بهاتين العلتين على أن من أفسد صلاته بالارتداد، أو على من تطوع بصوم يوم النحر، أو يوم الفطر ثم أفسده أن لا قضاء في شيء من ذلك عند المخالف.
ويمكن أن يقاس ـ أيضاً ـ على من تطوع بالوضوء، ثم أفسده قبل إتمامه، ويكون(4) قياسنا أولى من قياسهم بما اختلفنا فيه على الحج والعمرة؛ لأنَّه قياس صلاة على صلاة، وصيام على صيام، فهو أولى من قياس الصلاة والصيام على الحج والعمرة، على أن قياسهم مدفوع بنص قوله لأم هاني حين أفطرت: (( إن كان تطوعاً، فإن شئت فأقضي، وإن شئت فلا تقضي )).
__________
(1) في (أ): نفوسكم.
(2) في (أ): الصيام.
(3) سقط من (أ) و(ب): لا.
(4) في (أ): فيكون.(19/11)

82 / 138
ع
En
A+
A-