وذكر أبو بكر الجصاص أنهم تركوا فيه القياس؛ لما روي عن عمار أنَّه أغمي عليه يوماً وليلةً، فقضى ما فاته، قال: ولا مخالف له من الصحابة، قال: والقياس يوجب أن الإغماء يسقط القضاء، وذلك لا معنى له؛ لأن عماراً يجوز أن يكون قضى على الاستحباب؛ لأنه روي عنه أغمي عليه ثلاثة أيام، فلما أفاق، قضى صلاة(1) ثلاثة /198/ أيام، فدل ذلك على أنَّه قضى على طريق الاستحباب.
ومما يثبت صحة ما نذهب إليه في هذا الباب: أن الأصل في الصلاة أن ما سقط منها للمرض، لم يجب قضاؤه، مثل القيام والركوع والسجود، فكذلك(2) جملة الصلاة.
مسألة [ومن ترك الصلاة وجب عليه قضاؤها]
قال: وأيما رجل ترك الصلاة عامداً أو ناسياً، وجب عليه قضاؤها.
نص في (الأحكام)(3) على وجوب القضاء في ذلك، بشرط أن لا يكون تركه كفراً أو استحلالاً(4)، فدل ذلك على أنَّه لا يقتضتي المرتد الصلاة التي تركها كفراً، أو استحلالاً.
ونص في (المنتخب)(5) على أن المرتد لا يقضي الصيام، وقال: "إنَّه خارج من عقدة الإسلام"، فحقق ذلك أنه لا يجب قضاء الصلوات على المرتد.
وحكى أبو العباس الحسني رحمه اللّه في (النصوص)، عن محمد بن يحي عليه السلام: أن من ترك صلاة،ً أو صياماً، ردَّةً، لم يقضِ.
فأما وجوب قضاء ما تركه الإنسان من الصلاة عامداً، أو ناسياً، على غير وجوه الردة فلا خلاف فيه؛ لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( من ترك صلاةً، أو نسيها، أو نام عنها، فليصلها إذا ذكرها )).
__________
(1) سقط من (أ): صلاة.
(2) في (أ): وكذلك.
(3) انظر الأحكام 1/120، ففيه كلام قريب من هذا، والنص علىالناسي فقط، وما ذكره هنا منصوص عليه في المنتخب ص48.
(4) في (ب): ترك كفراً أو استحلالاً.
(5) انظر المنتخب ص91.(19/2)


وروى الطحاوي بإسناده عن سمرة، أنَّه كتب إلى بنيه أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم كان يأمرهم إذا شغل أحدهم عن الصلاة أونسيها حتى يذهب حينها التي(1) تُصلَّى فيه، أن يصليها مع التي تليها من الصلاة المكتوبة(2).
فأما المرتد، فالذي يدل على أنَّه لا قضاء عليه لما ترك من الصلاة أن القضاء فرض مجدد، ولم يرد الشرع بإيجابه، فوجب أن لا يكون لازماً.
ويدل على صحة(3) ذلك قول اللّه تعالى: {قِلْ لِلَّذِيْنَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ}، فبين تعالى أن الكفار متى انتهوا غفر لهم ما قد سلف، فوجب أن لا يلزمهم لما مضى من الأمور قضاء، إلاَّ ما خصه الدليل.
فإن قيل: إنهم لم يكونوا(4) منتهين حتى يقضوا الصلوات.
قيل له: هذا فاسد بالإجماع؛ إذ لا خلاف أن سمة الكفر تزول عنهم، وتجري عليهم سمة الإيمان والتوبة، والانتهاء عن الكفر قبل قضاء الصلوات.
ويدل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعمرو بن العاص: (( إن الإسلام يَجُبُّ ما قبله )).
فإن احتجوا بقول اللّه تعالى: {أَقِيْمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}، وقوله: {فِإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ}[التوبة:11]، وما أشبهها من الظواهر.
قيل لهم : هذه الظواهر لا حجة لكم فيها؛ لأنها توجب إقامة الصلاة فقط، فمن أقامها مبتدئاً، فقد امتثل ما أُمر به، وليس فيها دلالة على وجوب القضاء.
فإن قيل: فقد قال اللّه تعالى في ذم المشركين: {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى}[القيامة:31]، وعنهم أنهم يقولون: {لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّيْنَ}[المدثر:43]، فدل ذلك على أن الصلاة واجبة عليهم.
__________
(1) في (أ): الذي.
(2) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/465.
(3) سقط من (أ): صحة.
(4) في (أ): إنهم لا يكونون.(19/3)


قيل لهم: نحن لا ننكر أنهم يستحقون العقاب على تركهم هذه العبادات مع ما يستحقونه من العقاب على الشرك، وليس(1) فيها دلالة على وجوب القضاء، ولا دليل أيضاً في وجوب الشيء، على أن قضاءه إذا فات يكون واجباً؛ إذ القضاء فرض ثانٍ(2) يحتاج إلى دلالةٌ ثانية.
وليس لهم أن يستدلوا بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : (( من نسي صلاةً، أو نام عنها، فليصلها إذا ذكرها ))، بأن يقول قد يكون النسيان اسماً للترك، فكل من ترك الصلاة، لزمه قضاؤها، وذلك أن النسيان يستعمل في الترك على سبيل المجاز، والمجاز لا يدخل في اللفظ مع الحقيقة /199/ إلاَّ بدلالة، على أن قوله: (( فليصلها إذا ذكرها ))، يدل على أنَّه أراد النسيان في الحقيقة دون الترك.
فإن احتجوا بما روي عن أبي بكر أنَّه قال ـ بحضرة المهاجرين والأنصار، في أهل الردة ـ: لو منعوني عقالاً مما كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم، لقاتلتهم. وقالوا: إن هذا يدل على وجوب الزكاة على المرتد، وأنه مطالب بها.
قيل له: قال ذلك؛ لأنهم أصروا على أن لا يؤدوها في المستقبل، وذلك مما يجب أن يقاتَلوا عليه بعد الإسلام.
ومما يدل على ذلك: إجماع المسلمين على أن الذمي لا يقضي ما تركه في حال كفره من الصلوات، فكذلك المرتد قياساً عليه؛ والعلة أنَّه ترك للصلاة في حال الكفر.
والدليل على صحة هذه العلة: أنَّه لو تركها مع الإسلام، لزمه قضاؤها، وإذا تركها مع الكفر، لم يلزمه قضاؤها، فصح أن العلة ما ذكرناه.
__________
(1) في (أ): فليس.
(2) سقط من (أ) و(ج): ثان.(19/4)


فإن قاسوا المرتد على المسلم في وجوب قضاء الصلاة عليه؛ بعلة أنَّه قد سلف منه الإقرار بالإسلام، كان قياسنا أولى، وذلك أنَّه لا مدخل مع الكفر لقضاء شيء من الصلوات، وقد يسقط قضاؤها بعد الإقرار بالإسلام؛ لعوارض، مثل الإغماء، والجنون ونحوهما، فكان الكفر في إسقاط القضاء أقوى من الإقرار بالإسلام في إيجاب القضاء، وأيضاً فإن قياس الكافر على الكافر أولى من قياسه على المسلم.
فإن قيل : إذا ثبت أن المسلم لو ترك الصلاة، لزمه قضاؤها، لم يجب أن تسقط عن المرتد إذا تركها؛ لأنَّه لم يزد على أن ضم معصية أخرى إلى تركها.
قيل له : هذا يعترضه الذمي؛ لأنَّه أيضاً لم يزد على أن ضم معصية أخرى إلى ترك الصلاة، ومع هذا فلا قضاء عليه، على أنا قد بينا أن وجوب القضاء فرض ثانٍ، ولا يمتنع أن يثبت في وجه، ولا يثبت في آخر؛ لأن العبادات تتعلق بالمصالح، ولهذا تجب في وقت، ولا تجب في وقت، ويخاطب المكلف بها في حال، ولا يخاطب في أخرى، وعلى هذا النحو يجب أن يكون جواب من قال: إن من أقر بشيء لزمه، ولم يسقطه عنه إنكاره؛ لأن حكم العبادات مخالف لحكم الحقوق، على ما بيناه، على أن الأصول تختلف في الإقرار، ألا ترى أن من أقر بشيء يوجب حداً، ثم أنكره يُسقط(1) ما أوجبه الإقرار من الحد، وإن كان في الإقرار ما إذا وقع، لم يؤثر فيما اقتضاه الإنكار، فلم يجب أن يجري مجرى الحال فيه على أمر واحد.
__________
(1) في (أ): سقط.(19/5)


وأيضاً فإنا وجدنا أكثر ما في المرتد أن كفره يخالف كفر سائر الكفار في عدة من الإحكام، وقد وجدنا كفر سائر الكفار أيضاً يختلف كثيراً في أحكامها؛ لأن الوثنية لا يَقرُّون على كفرهم، ولا تؤخذ منهم الجزية، وأهل الكتاب يقرون على كفرهم، وتؤخذ منهم الجزية، وأهل الذمة لا يُسْبَون، ولا تستباح دماؤهم، وأهل الحرب يسبون، وتستباح دماؤهم، ثم وجدنا كفرهم مع اختلاف أحكامهم، لا تؤثر في أن لا قضاء لما تركوا معه من الصلوات، فوجب أن يكون كفر المرتد كذلك، إذ قد بان أن مخالفة الكفر لا تأثير لها في هذا الباب.
مسألة [في قضاء الفوائت إذا تعددت]
قال: وإذا فاتته صلوات عدة، قضاها كيف شاء، في وقت واحد، أو أوقات مختلفة، وتُقَدَّم النية لكل صلاة.
قال في (المنتخب)(1): يحزيه إن قضى مع كل صلاة صلاة، أو صلاها في وقت واحد، في موضع واحد، إذا قدم النية لكل صلاة.
فصح من مذهبه أن لا ترتيب في قضاء الفوائت، قلَّتْ أو كثرت.
والدليل على ذلك: قول اللّه تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ}[الإسراء: 87]، فأمر بإقامة الصلاة الواجبة عند الدلوك، من غير استثناء كون الفوات عليه، فوجب أن يقيم الصلاة الواجبة عند دلوك الشمس من عليه من الفوائت خمس صلوات أو أقل منها أو أكثر، أو من لا فوات عليه ، وفي هذا صحة ما نذهب إليه، وفساد قول من يقول بوجوب الترتيب في قضاء الفوائت.
ويدل على ذلك ـ أيضا ـ: قول اللّه تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِيْ يَنْهَى عَبْداً إِذَا صَلَّى} [العلق:9،10]، ومن يقول بالترتيب ينهى من يصلي صلاة وقته، وعليه من الفوائت ما هو أقل من ست صلوات.
ويد ل على ذلك ما [روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( إذا أقيمت الصلاة، فلا صلاة، إلاَّ التي أقيمت )).
__________
(1) انظر المنتخب ص48، 49.(19/6)

81 / 138
ع
En
A+
A-