ووجه ذلك: حديث ثوبان عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( لكل سهو سجدتان بعد التسليم )).
وحديث عبد الله بن جعفر: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: (( من شك في صلاته، فليسجد سجدتين بعد ما يسلم )).
وحديث ابن مسعود، وقد ذكرنا إسناده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (( إذا صلى أحدكم، فلم يدر أثلاثاً صلى، أم أربعاً، فلينظر أحرى ذلك إلى الصواب، فليتمه، ثم يسلم، ثم يسجد سجدتي السهو، ويتشهد )).
وهذا نص صريح لما نذهب إليه لا يحتمل التأويل.
وأخبرنا أبو بكر، حدثنا الطحاوي، عن أبي بكرة، حدثنا سعيد بن عامر، حدثنا هشام الدستوائي، عن يحيى بن أبي كثير، عن عبد الرحمن الأعرج، عن عبد لله بن مالك، أنَّه أبصر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قام في الركعتين الأولتين، ونسي أن يقعد، فمضى في قيامه، وسجد سجدتين بعد الفراغ من صلاته(1).
ولا يكون قد فرغ من صلاته إلاَّ بعد التسليم، فدل هذا أيضاً على ما نذهب إليه.
فأما ما روي عن معاوية، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أنَّه سجدهما قبل التسليم، فمعاوية عندنا لا يعمل على حديثه؛ لسقوط عدالته، وقد روي أيضاً عن غيره، ومعناه إذا ثبت الحديث قبل التسليم الذي يقع عقيب التشهد المفعول بعد سجدتي السهو.
فإن قيل: ما أنكرتم من أن يكون ما رويتم من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( بعد ما يسلم ))، معناه بعد ما يسلم /196/ على النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟
قيل له: هذا يمتنع لوجهين:
أحدهما: أن التسليم في الصلاة، إذا أطلق، عُقل التسليم الذي يخرج به من الصلاة.
والثاني: أن حديث ابن مسعود قد فسر ذلك بأن قال: فليتمه، ثم يسلم، ثم يسجد سجدتي السهو، ويتشهد ويسلم )). فمنع تأويلكم.
__________
(1) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/438.(18/12)


فإن قيل: فكيف تأولتم أنتم ما رويناه من أنهما قبل التسليم على أنَّه قبل التسليم الثاني مع قولكم: إن إطلاق التسليم يقتضي التسليم، الذي به الخروج من الصلاة؟
قيل له: التسليم الثاني أيضاً خروج من الصلاة؛ لأنه يعود في الصلاة بسجدتي السهو، فصح تأويلنا.
وأحاديثنا تحج من زعم أنهما في النقصان قبل التسليم؛ لأنها وردت عامة في السهو، والسهو قد يكون في الزيادة كما يكون في النقصان، على أن حديث عبد الله بن مالك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نسي أن يقعد في الركعتين، فمضى وسجد سجدتي السهو بعد الفراغ من صلاته، تصريح بأنهما في النقصان أيضاً بعد التسليم؛ لأنَّه سهو في النقصان، وسجدهما له بعد الفراغ.
ومما يدل على ذلك من طريق النظر: أن التسليم موجب التحريم كالركوع والسجود، وسائر أركان الصلاة؛ إذ لا خلاف في أنهما متأخرتان عنهما(1).
فإن قيل: إن سجدتي السهو جبر للصلاة، وجبرها يجب أن يكون فيها.
قيل له: هذا فاسد من وجهين:
أحدهما: أن جبر الحج يجوز أن يكون بعده، ألا ترى أن من قتل الصيد، أو قبل امرأته، أو نحو ذلك، فله أن يكفر بعد الخروج من الحج؟
والثاني: أنَّه بسجدتي السهو يعود في حرمة الصلاة، فكأنه في الصلاة، ولهذا يتشهد، ويسلم بعدهما.
فأما الكلام في أنهما قبل تحليل الصلاة مبطلتان للصلاة، فهو الكلام في أن السجدة الزائدة في الصلاة على سبيل التعمد تبطلها، وقد مضى فيما تقدم، وذلك أيضاً يحقق أنهما بعد التسليم.
مسألة: [في تشهد سجدتي السهو ونسيانهما والسهو في التطوع]
قال: ويستحب إعادة التشهد بعدهما.
قال: ولو أن رجلاً وجب عليه سجدتا السهو، فنسيهما، سجدهما إذا ذكرهما، وإن كان قد اشتغل عن صلاته، وزال عن مقامه.
قال: وقال القاسم عليه السلام، وعلى المتطوع إذا سهى سجدتا السهو(2).
__________
(1) في (أ): عنها.
(2) في (أ): إذا سهى فعليه سجدتا السهو.(18/13)


اعلم أن ما ذكرناه من إعادة التشهد بعدهما، وأن من نسيهما سجدهما، وإن كان قد اشتغل عن صلاته، منصوص عليه في (المنتخب)(1)، وما حكيناه عن القاسم عليه السلام من أن المتطوع إذا سهى، سجد سجدتي السهو منصوص عليه في (مسائل النيروسي).
وقلنا: إنَّه يستحب إعادة التشهد؛ لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (( ثم يسجد سجدتي السهو، ويتشهد، ويسلم ))، ولم يوجبه؛ لقوله: (( لكل سهو سجدتان )). وقوله: (( من شك في صلاته، فليسجد سجدتين بعد ما يسلم )). فاقتصر على ذكر السجدتين، فمن سجدهما يكون ممتثلاً للظاهر، ولم يثبت أنَّه يعيدهما بترك التشهد بعدهما، فلذلك قلنا إن التشهد بعدهما غير واجب، وأيضا في الحديث الذي روي عن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم /197/ أنَّه صلى الخامسة ناسياً، أنه سجد سجدتي السهو، ثم سلم، ولم يذكر التشهد(2).
وقلنا إن من نسيهما، سجدهما، وإن كان قد اشتغل عن صلاته، وزال عن مقامه؛ لما رواه زيد بن علي، عن آبائه، عن علي عليهم السلام قال: "صلى بنا رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم الظهر خمس ركعات"، قال: فاستقبل القبلة، وكبر وهو جالس، وسجد سجدتين ليس فيهما قراءة ولا ركوع، ثم سلم".
فلما فعلهما النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد الكلام الذي يوجب انقطاع حرمة الصلاة قلنا: إنهما يفعلان بعد الاشتغال عن الصلاة إذا كان المصلي نسيهما؛ ولأنه إذا ثبت أنهما بعد التسليم، ثبت أنهما بعد حرمة الصلاة؛ لأن حرمتها تذهب بالتسليم، ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( تحليلها التسليم ))، فإذا ثبت أنهما بعد ذهاب حرمة الصلاة، جاز أن يفعلهما المصلي، وإن اشتغل عن الصلاة.
__________
(1) انظر المنتخب ص43.
(2) في (أ): ولم يذكر منها التشهد.(18/14)


ووجه قول القاسم عليه السلام: إن المتطوع إذا سهى، سجدهما، قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : (( لكل سهو سجدتان ))، وقوله : (( من شك في صلاته، فليسجد سجدتي السهو ))، ولم يستثن فرضاً من نفل(18/15)


باب القول في قضاء الصلوات
[مسألة: فيما يجب على المغمى عليه والمجنون قضاؤه من الصلاة]
إذا أغمي على الرجل أياماً، لم يجب عليه من الصلاة إلاَّ التي أفاق في وقتها، وكذلك الذي يجن، أو يعتل علة لا يمكنه معها أداء الصلاة على وجه من الوجوه.
جميع ذلك منصوص عليه في (الأحكام)(1).
والأصل فيه: أن القضاء فرض مجدد، ثبت بدلالةٍ شرعيةٍ، ولم نجد دليلاً عليه، فقلنا: لا قضاء عليه، وأما(2) الصلاة التي يفيق في وقتها، فلا خلاف في وجوبها عليه، فلذلك قلنا به.
وقد ذكرنا في (باب المواقيت) متى يكون الرجل مدركاً لوقته.
ويدل على صحة ما ذهبنا إليه في هذا الباب: ما رواه محمد بن منصور، عن أحمد بن عيسى، عن حسين، عن أبي خالد، عن زيد بن علي، عن آبائه، عن علي عليهم السلام، قال: أُتِيَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقيل له: عبد الله بن رواحة ثقيل، فأتاه وهو مغمى عليه، فقال عبد الله بن رواحة: يا رسول اللّه، أُغْمِيَ علَيَّ ثلاثة أيام، فكيف أصنع بالصلاة؟ فقال له رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (( صلِّ صلاة يومك الذي أفقت فيه، فإنه يجزئك )).
وهو أيضاً مقيس على من جن مدة طويلة في أنه لا قضاء عليه لما فاته من الصلاة؛ بعلة أنَّه سقط عنه فرض الصلاة بمرض مزيل للعقل.
وهو أيضاً مقيس على الحائض بعلة أن فرض الصلاة سقط عنها لمانع يجوز امتداده أياماً من جهة العرف.
فأما أبو حنيفة(3) فإنه يذهب إلى أنَّه إن أغمي على المريض يوماً وليلةً، فما دون ذلك قضى ما فاته، وإن أغمي عليه أكثر من ذلك لم يقض.
__________
(1) انظر الأحكام 1/121.
(2) في (أ): فأما.
(3) في (أ): أبو حنيفة رضي الله عنه.(19/1)

80 / 138
ع
En
A+
A-