فأما ما تغير من الماء باللعاب فقلنا: إنَّه لا يجوز التطهر به. لما نص عليه يحيى عليه السلام في اللعاب وغيره من الأشياء الطاهرة، أنها إذا وقعت في الماء فغيرته، لم يجز التطهر به، وإن كان طاهراً، وهذا قد استوفينا الكلام فيه، فلا وجه لإعادته.
وأما سؤر الجنب والحائض، فلا أحفظ فيه من الخلاف إلاَّ شاذاً يحكى عن قوم، وما تقدم في كتابنا هذا من الأخبار المروية، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه كان يغتسل مع نسائه، وبعد نسائه يصحح ما ذهبنا إليه، وكذلك ما رويناه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من طهارة عرق الجنب حين ادّعم على يد حذيفة، وهي رطبة مع كونه جنباً يصحح ما قلناه.
مسألة [ في سؤر الكلب والخنزير ]
قال: وسؤر الكلب نجس، وكذلك سؤر الخنزير.
وهذا مما قد نص عليه يحيى عليه السلام(1).
والذي يدل على صحة مذهبه:
ما أخبرنا به أبو الحسين بن إسماعيل، قال: حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا محمد بن شجاع، قال: حدثنا شبابة، عن شعبة، عن أبي التياح، قال: سمعت مطرف بن عبد اللّه يحدث عن عبد اللّه بن المغفل أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: (( إذا ولغ الكلب في الإناء، فاغسلوه سبع مرات، وعفرّوه الثامنة بالتراب ))(2).
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا علي بن معبد، قال: حدثنا عبد الوهاب، عن شعبة، عن الأعمش، عن ذكوان، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: (( إذا ولغ الكلب في الإناء، فاغسلوا سبع مرات ))(3).
__________
(1) ذكره في الأحكام 1/56.
(2) الحديث رواه مسلم 1/235 من طريق عبد الله بن معاذ عن أبيه عن شعبة، به. وأخرجه الطحاوي من طريق جرير عن شعبة، به.
(3) أخرجه في شرح معاني الآثار 1/21.(2/30)


وروى ابن سيرين، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنَّه قال: (( طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبعاً ))(1).
والتطهير إذا أطلق في الشرع كان ظاهره إزالة الحدث أو إزالة النجس، وإذا ثبت أن الأواني لا يلزمها أحكام الحدث، ثبت أن المراد به إزالة النجس، والأمر بالغسل إذا ورد في الشرع كان ظاهره ما بينا، فثبت بذلك أن الإناء ينجس بولوغه، وإذا نجس الإناء وجب أن ينجس الماء الذي فيه.
فأما ما تعلق به مالك وأصحابه من أن الأمر بغسل الإناء، إنما هو تعبد فلا معنى له؛ لأنا لا ننكر بأنا قد تعبدنا بإزالة النجاسة عن الأواني التي نريد استعمال ما فيها من المائعات.
فإن قيل: التعبد إنما هو بغسلها فقط، لا لإزالة النجس عنها؟
قيل له: ذلك ادعاء إلى مالا سبيل إلى إثباته؛ إذ قد بينا ما يقتضيه ظاهر الأمر في الغسل والتطهير في الشريعة، مع أن قد ثبت أنا قد أمرنا بإراقة ذلك الماء مع ثبوت النهي عن إضاعة المال، فلولا أنَّه كان نجساً، لم يجب ذلك.
ويمكن أن يقاس ذلك على أن سائر الأنجاس المائعة من الخمر وغيرها بوجوب إراقته، فكل مائع يلزم إراقته تجب نجاسته، وهذه علة صحيحة يوجد الحكم بوجودها ويعدم بعدمها، ويعضدها تعليل النبي صلى الله عليه وآله وسلم في سؤر الهر، بقوله: (( إنه ليس بنجس )).
ويجوز أن تقاس الآنية على سائر الجمادات التي لا يجب غسل شيء منها إلاَّ من النجاسة، فكل ما وجب غسله منها، وجب أن يكون نجساً.
وليس يصح تعليل من يُعلل طهارة الكلب بجريان الروح؛ لأن الخبر ينقضه، ولأنه لا دليل على صحة هذه العلة، على أنها لو ثبتت، لكان تعليلنا أولى؛ لكونها حاظرة ومؤدية إلى الاحتياط وشهادة الأصول لها.
__________
(1) أخرجه في شرح معاني الآثار، عن أبي بكرة قال: حدثنا أبو عاصم، عن قرة، به.(2/31)


فإن قيل: فإن اللّه قد أباح لنا أن نأكل ما عض الكلب عليه من الصيد بقوله: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلِيْكُمْ} الآية، فثبت بذلك أن ما عض عليه الكلب لا يصير نجساً، وإذا ثبت أن ذلك لا يصير نجساً، ثبت أن سؤره أيضاً لا يصير نجساً؟
قيل له: إن ذلك لا يدل على أنَّه لا يجب غسل ما عض عليه الكلب، كما أنَّه لا يدل على أنَّه لا يجب غسله مما عليه من الدم، ألا ترى أن اللّه تعالى أباح أكل ما ذكّيناه، بقوله: {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ}؟ وهذا لا يدل على أنَّه لا يجب أن يغسل موضع التذكية مما عليه من الدم.
فإن قيل: روي عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة، قال: سئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، عن الحياض بين مكة والمدينة، تردها الكلاب والسباع. فقال: (( لها ما أخذت في بطونها، وما بقي فلنا طهور )).
قيل له: هذا وارد في الحياض العظيمة، وقد بينا ما نذهب إليه في المياه الكثيرة، بما لا طائل في إعادته، على أن هذا الخبر لو عارض سائر ما ذكرناه من الأخبار لكانت أخبارنا أولى لكونها حاظرة.
فإن قيل: الأمر بتكرير الغسل منه يدل على أن المراد به التعبد؟
قيل له: ذلك غير واجب، بل أولى من ذلك أن نقول: إنَّه يدل على تغليظ نجاسته.
فأما الخنزير فالخلاف في نجاسته مما ليس بظاهر، وقد دل عليه صريح قوله تعالى: {أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فِإِنَّهُ رِجْسٌ}، والرجس في كلام العرب فهو(1): النجس، وإذا ثبت نجاسته بنص الكتاب، ثبت نجاسة سؤره، وليس لأحد أن يقول: إن اللحم هو المراد بقوله: {فَإِنَّهُ رِجْسٌ} دون الخنزير؛ لأن من حكم الكناية أن يرجع إلى أقرب مذكور، ألا ترى أنَّه لا التباس فيه إذا طال الكلام، فكذلك إذا قصر.
فصل [ عدد الغسلات من ولوغ الكلب ]
لم ينص يحيى عليه السلام على عدد الغسلات من ولوغ الكلب، وكان أبو العباس الحسني رضي اللّه عنه يُخرِّج ذلك على الثلاث، وكذلك كان يقول في إزالة سائر النجاسات التي لا أثر لها.
__________
(1) في (أ): هو.(2/32)


والوجه في ذلك أن أبا هريرة روى حديث السَبع، ثم روى عنه:
ما أخبرنا به أبو الحسين علي بن إسماعيل، قال: حدثنا محمد بن الحسين بن اليمان، قال: حدثنا محمد بن شجاع، قال: حدثنا إسحاق بن يوسف، قال: حدثنا عبد الملك، عن عطاء، عن أبي هريرة، قال: (( إذا ولغ الكلب في الإناء أهريق وغسل ثلاث مرات ))(1).
ولا يجوز أن يحمل قوله على مخالفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فيجب أن يحمل على أنَّه عرف أن الزائد على الثلاث استحباب، أو أنَّه قد نسخ؛ إذ لا سبيل إلى غير ذلك متى حملت حاله على السلامة، على أن عبد اللّه بن المغفل روى: (( وعفروه الثامنة في التراب ))(2).
وتحديد عدد الغسلات بالثمان ينافي تحديده بالسبع، وفي تنافيهما ما يجب الرجوع إلى غيرهما(3).
فإن قيل: حديث الثمان متروكٌ بالإجماع.
قيل له: ليس الأمر على ما قَدَّرت، فقد كان الحسن البصري يأخذ به ويذهب إليه، روى ذلك أبو جعفر الطحاوي عنه(4). ويؤيد ذلك:
ما أخبرنا به أبو الحسين علي بن إسماعيل، قال: حدثنا محمد بن الحسين بن اليمان، قال: حدثنا محمد بن شجاع، قال: حدثنا: يحيى بن آدم، عن ابن عيينه، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (( إذا استيقظ أحدكم من منامه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً، فإنه لا يدري أين باتت يده )).
__________
(1) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/23، عن إسماعيل بن إسحاق قال: حدثنا أبو نعيم، حدثنا عبد السلام بن مرة، به.
(2) في (أ) و(ب) في نسخة: بالتراب.
(3) أخرجه في شرح معاني الآثار 1/29، عن أبي بكرة، عن سعيد بن عامر، ووهب بن جرير قالا: حدثنا شعبة، عن أبي التياح، عن مطرف، عن عبد الله بن المغفل.
(4) ذكره في شرح معاني الآثار 1/29.(2/33)


وروي أنهم كانوا يبولون ويتغوطون وينامون قبل أن يستنجوا بالماء، فأمرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بغسل أيديهم ثلاثاً قبل أن يغمسوها في الإناء ليطهروها من البول والغائط، إن أصاب أيديهم في حال نومهم، فلما كان البول والغائط أغلظ النجاسات، وأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتطهير اليد منهما بالغسلات الثلاث، علمنا أن ذلك في غيرهما أولى، على أنَّه يصح أن يقاس غسل الآنية من ولوغ الكلب على غسل اليد مما ذكرناه؛ بعلة أنَّه تطهير من نجس لا أثر له، فيجب أن يكون عدد غسله ثلاثاً.
مسألة [ في سؤر الكافر ]
قال: وسؤر الكافر نجس، تغير أو لم يتغير.
وهذا قد نص عليه يحيى عليه السلام في (الأحكام)(1).
وقلنا تغير أو لم يتغير، لما بيناه من أن الماء اليسير ينجس بوقوع النجاسة فيه، تغير أو لم يتغير(2).
والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه في ذلك قول اللّه تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} إلى قوله: {بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا}، فثبت بالنص أنهم نجس، وإذا ثبت ذلك، وجب تنجيس سؤرهم.
فإن قيل: إن ذلك ورد على طريق الذم لهم، لا على طريق التنجس.
قيل له: ظاهره يقتضي ما ذكرناه، وما ذكرتموه ضرب من المجاز، والآية، يجب حملها على الحقيقة، ولا يجوز صرفها إلى المجاز إلاَّ بالدلالة. على أن ما ذكروه من الذم أيضاً لو ثبت أنَّه مراد بالآية، لم يمتنع أن يكون ما ذكرنا(3) من الحقيقة مراداً؛ إذ لا يمتنع عندنا أن يراد باللفظ الواحد الحقيقة والمجاز جميعاً.
ويدل على ذلك أيضاً:
__________
(1) انظر الأحكام 1/56.
(2) في (أ): وإن لم يتغير.
(3) في (أ): ذكرناه.(2/34)

8 / 138
ع
En
A+
A-