والوجه فيه: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( شر صفوف الرجال المؤخر )). [ومن صلى خلف الصف الذي فيه النساء، فقد صلى في الصف المؤخر](1)، فوصف النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالشر يقتضي النهي عنه، والنهي يدل على الفساد فوجب فساد، صلاة من خلفهن.
فإن قيل: فيجب على هذا فساد صلاة من صلى خلف الصفوف، وإن لم يكن أمامه امرأة؟
قيل له: الخبر يقضي ذلك، إلاَّ أنَّه مخصوص منه بالإجماع، وـ أيضاً ـ يكون الواقف خلفها عاصياً في الموقف، فيجب أن تبطل صلاته قياساً على من صلى أمام الإمام، وقد ثبت أنَّه لا يجوز لأحد أن يصلي خلف الصف منفرداً، إلاَّ /188/ لعذر بما تقدم بيانه.
وروي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى، وخلفه أنس، ويتيم، وعجوز خلفهما، ولا عذر لتأخر العجوز عنهما، إلاَّ كونها مفسدة للصلاة عليهما، فصح ما ذهبنا إليه.
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( أخروهن حيث أخرهن الله )). يقتضي تأخيرهن مجتمعات ومنفردات، ولا عذر لتأخير المنفردة غير ما ذكرنا من إفسادها صلاة من عن يمينها وعن يسارها، فصح به ـ أيضاً ـ ما ذهبنا إليه إذ قد ثبت أن المنفرد خلف الصف لا تصح صلاته، إلاَّ لعذر.
مسألة: [في استخلاف الإمام إذا أحدث]
قال: وإذ حدث بالإمام حدث يقطع صلاته، جذب من خلفه ثقة، فقدمه؛ ليتم بهم الصلاة، فإن كان هذا الذي قدمه فاتته ركعة، فإذا جلس في آخر صلاة القوم، قام فأتم ما فاته، وسلم الذين خلفه، ولم ينتظروه، فإن انتظروه حتى يسلم بهم، جاز.
__________
(1) سقط ما بين المعكوفين من (أ) و(ب).(17/32)
نص في (الأحكام) و(المنتخب)(1) على ما تقدم: أن الإمام إذا أحدث حدثاً، جذب من يتمم باقي الصلاة بالقوم، ونص في (المنتخب) على ما ذكرنا بعده من أن الذي قدمه إن كان فاتته ركعة فعل كذا إلى آخر الفصل، وأصحابنا لم يفصلوا بين أن يكون الإمام إذا أحدث ساهياً، أو متعمداً في جميع ذلك، وهو الصحيح على المذهب.
والدليل على صحة صلاة المأمومين في هذه الحالة، أن لصلاتهم حالتين حالة الائتمام، وحالة الخروج عن الائتمام، وهي حالة خروج الإمام عن الإمامة بفساد صلاته، وحالة الائتمام حالة كانت صلاة الإمام فيها صحيحة، فلم يجب أن تفسد صلاة المؤتمين من أجله، وحال خروجهم من الائتمام لا معتبر فيها بصحة صلاة الإمام وفسادها؛ لأن الإمام وغيره سواء في أن صلاتهم لا تتعلق بصلاته.
فإن قيل: ما أنكرتم أن يكون سبيلهم سبيل من صلى خلف الجنب؟
قيل له: الجنب لم تنعقد صلاته، ووقعت فاسدة، فوجب أن لا تنعقد(2) صلاة من ائتم به، وليس كذلك حال من أحدث في صلاته؛ لأن صلاته قد انعقدت صحيحة إلى حين الفساد، والائتمام به لم يكن إلاَّ في حال صحة صلاته.
فإن قيل: ما أنكرتم أن تكون صلاته وقعت فاسدة إذا لم تتم؟
قيل له: لا يصح ذلك؛ لأنه ليس إلاَّ الصحة، أو الفساد، وقد ثبت أن الحدث الذي هو الإفساد وقع بعد مضي بعضها، فكذلك البعض إذا تعرى من الفساد، فوجب أن يكون صحيحاً.
__________
(1) انظر الأحكام 1/103. وقال في المنتخب ص56: (( قد انقطعت صلاته في نفسه، وإذا انقطعت في نفسه فقد انقطعت صلاة من خلفه؛ لأن صلاتهم معقودة بصلاته، وقد قال غيرنا أنه يجذب رجلاً من خلفه بثوبه فيقدمه موضعه فيصلي بالقوم تمام الصلاة، ولسنا نرى ذلك )).
(2) في (أ): لا تصح.(17/33)
وأما ما يدل على أن خروج الإمام من الإمامة، والمأمومين من الائتمام للعذر لا يفسد صلاة المأمومين، فهو: ما ثبت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما صلى الركعة الأولى من صلاة الخوف بالطائفة الأولى، خرجت الطائفة الأولى من الائتمام، وصلوا لأنفسهم، على ما نبينه من بعد في مسألة صلاة الخوف.
وأيضاً روي أن أبا بكر حين أَمَّ بالناس في آخر مرض رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، وجد صلى الله عليه وآله وسلم خفة، فخرج إلى المسجد يتهادى بين اثنين، فأمهم في بعض صلاتهم، وخرج أبو بكر من الإمامة، والمأمومون من الائتمام به، وهذا يدل على جواز الصلاة بإمامين للعذر؛ لأن بعض صلاتهم كانت خلف أبي /189/ بكر، وبعضها خلف رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، فلذلك قلنا: إن الإمام إذا فسدت صلاته، فقدم بعض المأمومين، وأتم بأصحابه باقي صلاتهم، جاز.
فإن قيل: ما أنكرتم على من قال لكم: أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم صلى خلف أبي بكر، وأن أبا بكر هو الذي أتم الإمامة؟
وما أنكرتم على من قال لكم: إن أبا بكر ائتم بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإن الناس ائتموا بأبي بكر، فكلا القولين قد قيل به، وأيهما ثبت بطل قولكم: إن صلاةً واحدةً تُصلَّى خلف إمامين؟
قيل له: يفسد ما سألت عنه؛ لأن عائشة روت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما جاء جلس على يسار أبي بكر، وهذا يمنع كون أبي بكر إماماً له؛ لأن المأموم لا يكون على يسار الإمام، بل الإمام يكون على يسار المأموم.
وروى ابن عباس أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم أخذ القراءة من حيث تركها أبو بكر، وترك أبي بكر للقراءة، وأخذ رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم لها، يدل على أنَّه كان مأموماً، وأن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم كان إماماً، وهذا أيضاً يمنع من كون أبي بكر إماماً لسائر المأمومين؛ لأن الإمام لا يجوز له أن يترك القراءة بالإجماع.(17/34)
ومما يدل على أن خروج الإمام من الإمامة، والمأمومين من الائتمام لا يفسد صلاة المأمومين: ما أجمعوا عليه من أن الإنسان لو لحق بعض صلاة الإمام، لكان خارجاً من الائتمام إذا سلم الإمام، وكان الإمام خارجاً من الإمامة، ولا خلاف في صحة صلاته، فبان بذلك أجمع صحة ما ذكرناه.
وما قلناه من أن الإمام الثاني إذا كان لحق بعض الصلاة قام، وأتم لنفسه إذا جلس المأمومون في آخر صلاتهم؛ لأن صلاته لم تكمل، فعليه أن يكملها.
وقلنا: إنهم إن شاءوا، انتظروا(1)، وسلموا معه، وإن شاءوا سلموا قبله ولم ينتظروه، لما بينا أن الخروج من الإمامة لا يفسد صلاة المأمومين، فلهم الخروج من إمامته إن شاءوا بالتسليم، وإن انتظروه، جاز ليخرجوا معه.
__________
(1) في (أ): انتظروه.(17/35)
باب القول في السهو وسجدتيه
[مسألة: في موجبات سجود السهو]
سجدتا السهو تجبان على من قام في موضع جلوس، أو جلس في موضع قيام، أو ركع في موضع سجود، أو سجد في موضع ركوع، أو سبح في موضع قراءة، أو قرأ في موضع تسبيح.
وذلك كله منصوص عليه في (الأحكام)(1).
والمراد به أجمع إذا كان على سبيل السهو؛ لتنصيصه على إبطال الصلاة بسجدة زائدة إذا كانت على طريق العمد، فإذا المجبور منها بسجدتي السهو هو المفعول على طريق السهو.
وقوله: من سبح في موضع قراءة، أراد به الموضع المختص بالقراءة كموضع القيام من الركعتين الأولتين.
وقوله: أو قرأ في موضع تسبيح، أراد به الموضع المختص بالتسبيح كالركوع والسجود، فأما موضع القيام من الركعة الثالثة أو الرابعة من المكتوبات فإنه عند أصحابنا موضع التسبيح والقراءة جميعاً، وإن كان التسبيح عند/190/ أصحابنا أفضل فيه، فمن قرأ فيه، أو سبح، فلا سهو عليه.
والأصل فيما ذكرنا: ما روى محمد بن منصور، عن عثمان بن أبي شيبة، حدثنا إسماعيل بن عياش الحمصي، عن زهير بن سالم العنسي، عن عبد الله بن عبيد الله، عن عبد الرحمن(2) بن جبير، عن ثوبان، قال: قال رسو ل اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: ((لكل سهو سجدتان بعد ما يسلم ))
وهذا عام في جميع ما ذكرنا من الأركان والأذكار.
وروى أبو بكر الجصاص بإسناده، عن عبد الله بن جعفر أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (( من شك في صلاته، فليسجد سجدتين بعدما يسلم )).
وذهب كثير من العلماء إلى أن من نسي التسبيح في الركوع والسجود، فلا سهو عليه، وما ذكرناه من الخبرين يحجهم، وأيضاً لا خلاف في أن من نسي القراءة، أو التشهد، فعليه سجدتا السهو، فكذلك من نسي التسبيح في الركوع والسجود، والمعنى أنَّه ترك الذكر المسنون في ركن من أركان الصلاة.
فصل
__________
(1) الأحكام 1/114.
(2) في (أ): بن عبد الرحمن.(18/1)