فإن قيل: كيف تقولون: إن صلاة المأموم معقودة بصلاة الإمام، وإنها تفسد بفسادها، ومن مذهبكم أن الإمام إذا أحدث فسدت صلاته، (ولم تفسد صلاة المؤتمين؟
قيل: لأن الإمام إذا أحدث فسدت صلاته) (1)، وخرج بذلك من الإمامة، ولم يأتم به القوم، فإذاً لم يأتموا بمن صلاته فاسدة؛ لأنهم(2) لم يأتموا به، إلاَّ في حال صحة صلاته، وليس كذلك الإمام إذا كان جنباً؛ لأن صلاته لا تنعقد، فهي باطلة فاسدة، وقد ائتم به القوم، فيجب أن تكون صلاتهم فاسدة.
ومما يدل على ذلك: أنَّه لا خلاف في أن الإمام إذا علم من حاله أنَّه جنب فائتم به قوم أن صلاتهم باطلة كصلاته، فكذلك إذا لم يعلموا، والعلة أنهم ائتموا بمن صلاته فاسدة، وبهذه(3) العلة يقاس على من صلى خلف الكافر، ويجوز أن تقاس على من صلى خلف المرأة، وهو لا يعلم، بعلة أنه صلى خلف من هو على صفة لو علم أنه عليها، لم يصح الائتمام به، فكذلك من صلى خلف الجنب وهو لا يعلم، بعلة أنَّه صلى خلف من هو على صفة لو علم أنَّه عليها، لم يصح الائتمام به، وعلتنا مرجَّحة بالنقل، وبأنها تقتضي عبادة زائدة.
فإن ادعوا أن ذلك يؤدي إلى المشقة، وفصلوا بين الصلاة خلف المرأة والكافر، والصلاة خلف الجنب، وقالوا: إن حال المرأة والكافر لا يخفي، وحال الجنب يخفى، كان فاسداً؛ لأنَّه فصل مع وجود العلة، ولأنه لا يؤدي إلى المشقة، وإنما يقال في مثله إنَّه يؤدي إلى المشقة إذا كان مما يكثر ويتكرر، وهذا مما يقل، ولعله لا يتفق في الأعصار، فكيف يقال في مثله: إنَّه يؤدي إلى المشقة؟
فإن قالوا: إن المأموم لا يجوز أن يكلف العلم بطهارة الإمام، وإذا لم يجز ذلك، لم يكن مفرطاً، وإذا لم يكن مفرطاً، لم يلزمه القضاء.
__________
(1) ما بين القوسين سقط من (ب) و(أ).
(2) في (ب) و(أ): قيل: لأنهم.
(3) في (أ): بمن صلاته وبهذه.(17/27)
قيل له: القضاء فرض، لا يتعلق بالتفريط؛ لأنَّه قد يلزم من لم يفرط، ألا ترى أن من لم يجد الماء، ولا التراب، يصلي ويقضي عند مخالفينا ولم يكن منه تفريط، ومن تطهر بماء نجس وهو لا يعلم، يقضي عندنا إذا علمه قبل الوقت، وعند مخالفينا قبل الوقت وبعده، وإن لم يكن منه تفريط، والحائض تقضي الصوم، وإن لم يكن منها تفريط.
مسألة: [في الجماعة تصلى على سطح والإمام أسفل والعكس]
ويكره للجماعة أن تصلي خلف الإمام على سطح، والإمام أسفل، ولو كان الإمام على السطح، والجماعة أسفل منه أعادت الجماعة.
وقال القاسم عليه السلام: إذا حال بين الإمام والمأموم طريق يسلكه الناس، بطلت صلاة المأموم.
وما حكيناه أولاً من المسألتين منصوص عليه في (المنتخب)(1).
وما حكيناه عن القاسم عليه السلام منصوص عليه في (مسائل عبد الله بن الحسن).
والوجه لكراهة أن يكون المؤتمون على سطح، والإمام أسفل، ما ثبت من أن المستحب أن يقرب المؤتم من الإمام لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((ليليني منكم أولوا الأحلام والنهى ))
وقوله: ((خير صفوف الرجال أولها، وشرها/186/ آخرها )).
فلما ثبت ذلك، كره أصحابنا للمؤتمين أن يبعدوا عن الإمام من غير اتصال الصفوف؛ لأنَّه خلاف المستحب، ومن يكون على السطح يكون قد بعد عن الإمام من غير اتصال الصفوف، وأيضاً لما ثبت أن الأفعال الكثيرة تفسد الصلاة، ثبت في اليسير منها وإن لم تفسد الصلاة أن يكون مكروهاً، فكذلك البعد المتفاوت من غير اتصال الصفوف، ولا خلاف في أنَّه يفسد صلاة المأمومين، فوجب أن يكون القليل منه إذا كان من غير اتصال الصفوف مكروهاً، فوجب صحة ما قلناه من كراهة صلاة المأمومين على السطح إذا كان الإمام أسفل.
__________
(1) انظر المنتخب 49.(17/28)
فأما وجه إبطالنا صلاة المؤتمين إذا كانوا أسفل، والإمام على السطح، فالأخبار الواردة في هذا الباب، منها: ما ذكره أبو العباس الحسني رحمه اللّه في (شرح الأحكام)، قال روى عمرو بن طارق، عن يحيى بن أيوب، عن زيد بن جبيرة الأنصاري، عن عبد الله بن عبد الرحمن الأنصاري: أن سلمان الفارسي، وأبا سعيد الخدري قدما على حذيفة بالمدائن، وعنده أسامه، فصلى بهم حذيفة على شيء أنشز مما هم عليه، فأخذ سلمان بضبعيه حتى أنزله، [فلما انصرف قال: من بي؟ قال سلمان: أنا، وما أدري أطال عليك العهد أم نسيت!! قال: وما ذاك؟ قال سلمان](1) سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (( لا يصلي إمام القوم على أنشز مما هم عليه )). فقال أبو سعيد، وأسامة: صدق.
وروى أبو بكر الجصاص في (شرح المختصر): أن عمار بن ياسر كان بالمدائن، فأقيمت الصلاة، فتقدم عمار، وقام على دكان يصلي والناس أسفل منه، فتقدم حذيفة فأخذ على يده، وأتبعه عمار حتى أنزله حذيفة، فلما فرغ عمار من صلاته، قال له حذيفة: ألم تسمع رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (( إذا أمَّ الرجل القوم، فلا يقم في مقام أرفع من مقامهم ))؟
وروى هو ـ أيضاً ـ أن حذيفة صلى بالناس، فتقدم فوق دكان، فأخذ أبو مسعود بجميع ثيابه فرده، فرجع، فلما صلى، قال له أبو مسعود: ألم تعلم أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم نهى أن يقوم الإمام فوق نشز، والناس خلفه؟ قال: أفلم ترني أجبتك حين جذبتني.
__________
(1) ما بين المعكوفين ساقط من النسختين (أ) و(ب)، وكتب مكانه : ثم قال:.(17/29)
فهذه الأخبار قد تضمنت النهي عن ارتفاع الإمام على المأمومين، والنهي يقتضي البطلان، وليس يخلو الذي بطل من أن يكون هو الصلاة، أو الإمامة، ولا خلاف أن صلاته غير باطلة، فثبت أن الذي بطل هو الإمامة، فإذا بطلت الإمامة للمؤتمين به، بطلت صلاة المؤتمين؛ لأنهم يكونون قد ائتموا بمن ليس بإمام لهم ويجرى مجرى أن يأتموا بالمرأة في أن صلاتهم تكون باطلة.
فإن قيل: أليس من صلى (في نفق) (1) إلى الكعبة، أجزته صلاته، وإن كانت القبلة فوقه، فما أنكرتم أن تجزي الصلاة خلف الإمام وإن كان الإمام فوقه؟
قيل له: القبلة ليست هي البناء، بل هي موضع البناء سفل، أم علا، بدلالة أن البناء لو نقض ورفع، كان التوجه على حاله، وليس كذلك الإمام؛ لأنَّه لو زال عن مقامه وبعد عنه، لم يصح الائتمام به، والأقرب على مذهب يحيى/187/ عليه السلام: أن صلاتهم تبطل إذا كان الارتفاع الذي عليه الإمام فوق قامتهم؛ لأنه قال في (المنتخب)(2): أكره الصلاة إذا كان أمام المصلى قذر في موضع منخفض عنه.
قال: "وإن كان القذر مرتفعاً عنه، لم أكره لأنَّه يستقبل طهارة، والقذر مرتفع عنه" (3)، فجعله غير متوجه إلى القذر إذا كان مرتفعاً عنه، ولا يكون ذلك كذلك إلاَّ إذا كان فوق قامته، فقلنا: إن الأقرب على مذهبه أن صلاة المؤتمين لا تبطل حتى يكون الارتفاع الذي عليه الإمام فوق قامتهم؛ لأنهم يكونون غير متوجهين إليه، وعلى هذا يكون قيام الإمام على ارتفاع دون القامة مخصوصاً من هذه الإخبار بالإجماع.
ومما يدل من طريق النظر على بطلان صلاة المأموم إذا كان الإمام على سطح: أن المأموم لا يكون خلفه، ولا عن يمينه، ولا عن يساره، فيجب أن تبطل صلاته كما تبطل صلاة من وقف أمام الإمام، أو فوق رأسه.
__________
(1) مصححة في (ب).
(2) انظر المنتخب ص37.
(3) انظر المنتخب ص37.(17/30)
ووجه ما قاله القاسم عليه السلام من بطلان صلاة المؤتمين إذا كان بينهم وبين الإمام طريق يسلكه الناس هو: ما روي عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (( لا جمعة لمن يصل في الرحبة )).
ولا خلاف أن الرحبة إذا لم يفصل بينها وبين الإمام طريق، أو ما يجري مجراه، فالصلاة جائزة، فإذاً المراد به إذا كان بينهما طريق.
وأيضاً لا خلاف في أنَّه إذا كان بين الإمام والمأموم بُعدٌ كثير أن صلاة المأموم تكون فاسدة، وأن اليسير من البعد لا تفسد معه الصلاة، فاحتجنا إلى الفرق بين القليل والكثير، ولم نجد دلالة شرعية تفصل بينهما، فوجب أن نرجع إلى الإجماع، فكلما أجمع عليه من البعد على أنَّه لا يفسد صلاة المأمومين استثنيناه، وقلنا فيما عداه: إنَّه يفسد صلاتهم، والطريق مما لم يجمعوا على أن حكمه حكم اليسير، فألحقنا حكمه بحكم الكثير، وهذه الطريقة هي الفاصلة عندنا بين الأفعال الكثيرة والقليلة في إفساد الصلاة على ما قدمناه.
فإن قيل: لِمَ لم تجعلوا الحد ما أجمع عليه أنَّه يفسد الصلاة؟ ولِمَ لمْ تقولوا: إن ما دونه مستثنى من الكثير، وملحق باليسير؟
قيل له: لأن هذا خلاف الاحتياط، ووقوف مع الشك في أداء الفرائض، وما قلناه هو الاحتياط، وأداء الفرائض باليقين.
وحكى أبو العباس الحسني رحمه اللّه في (النصوص)، عن محمد بن يحيى عليه السلام: أن النهر إذا حال بين الإمام والمأمومين كان سبيله سبيل الطريق في إفساد صلاة المأمومين.
ووجه ذلك ما ذكرناه في الطريق إذا حال بين الإمام والمأموم.
مسألة: [في النساء إذا تخللن صفوف الرجال]
قال: ولو أن نساء تخللن صفوف الرجال، فسدت صلاة من خلفهن من الرجال.
وهذا منصوص عليه في (المنتخب)(1)، وتخريج المذهب يقتضي فساد صلاة من عن يمينها ويسارها.
__________
(1) انظر المنتخب ص55.(17/31)