ووجه رواية (الأحكام): هو أنَّه قد ثبت أن فرض الظهر والعصر والعشاء الآخرة على المسافر ركعتان، على ما نبينه فيما بعد إذا انتهينا إلى موضعه، فإذا ثبت ذلك، فلو دخل المسافر في صلاة المقيم، لكان لا يخلو من أن يصلي أربعاً كما ذهب إليه أبو حنيفة وأصحابه، أو يصلي ركعتين، ويسلم، ويخرج من الائتمام كما تذهب إليه الإمامية، ولا يجوز أن يصلي أربعاً للائتمام؛ لأن الائتمام لا يغير عدد ما على المؤتم من الركعات، ألا ترى أنَّه لا خلاف في/183/ أن المقيم إذا صلى خلف المسافر، لم يتغير عددها عليه من الركعات، فكذلك المسافر إذا صلى خلف المقيم، والعلة أن كل واحد منهما له فرض برأسه يتميز بتميز الركعات(1) من فرض صاحبه، فلا يغيره الائتمام.
فإن قيل: روي أن عثمان صلى بمنى أربعاً، وكان ابن عمر إذا صلى مع الإمام صلى أربعاً، وإذا صلى وحده صلى ركعتين؟
قيل له: يجوز أن يكون فعل ذلك إذ رأى أن القصر مباح، ولم يره واجباً، ونحن بنينا(2) كلامنا على وجوب القصر، على أنا لسنا ندعي المسألة وفاقاً، وأن ابن عمر عمل بخلاف قولنا.
ولا يجوز أن يصلي ركعتين، ويخرج من الصلاة؛ لأنَّه يؤدي إلى أن يكون المؤتم قد أدى فرضه خلف المتنفل؛ لأن الجلسة تكون للمسافر فرضاً، وللمقيم نفلاً، وقد ثبت أن المؤدي فرضه لا يصلي خلف المتنفل؛ ولأن قوله: إنما جعل الإمام ليؤتم به، يقتضي أن لا يأتم المؤدي فرضه بالمتنفل؛ لأن الإنسان لا يكون مؤتماً بغيره إلاَّ إذا فعل الفعل على الوجه الذي يفعله إمامه، فأما إذا فعله على غير ذلك الوجه، لا يكون قد ائتم به، فمتى كان الإمام متنفلاً، والمؤتم مؤدياً للفرض، لم يقع فعلاهما على وجه واحد، بل على وجهين مختلفين.
__________
(1) في (ب): فرض برأسه متميز الركعات.
(2) في (ب): ونحن بينا.(17/22)


وليس لأحد أن يعترض ما قلناه بما ثبت أن المتطوع يأتم بالمؤدي للفرض، لأن ذلك مخصوص بالإجماع من الظاهر الذي تعلقنا به، ولأنا لم نعتل فيكون ذلك نقضاً للعلة، وإنما تعلقنا بالظاهر، فإذا ثبت أن المسافر، لو دخل(1) في صلاة المقيم، لكان لا بد له من أن يأتي أحد الأمرين الذين بينا فسادهما، ثبت ما ذهبنا إليه من أنه لا يدخل في صلاته.
فأما وجه رواية (المنتخب) فهو أن يقال: إنه لا يمتنع أن يكون الذي ثبت من أنه لا يقتدي المؤدي للفرض بالمتطوع هو (إذا كانت تلك أحوال صلاتهما)(2)، فأما مقدار التشهد فلا حكم له؛ لأن الحكم للأغلب، ولأن اسم الائتمام يلحق إذا حصل الائتمام في عامة الأحوال، فلا يمتنع أن يقال: إن المسافر إذا جلس بعد الركعة الثانية، خرج من الائتمام، ويكون مصلياً لنفسه، ألا ترى أن الطائفة الأولى في صلاة الخوف تخرج من الائتمام والإمام بعدُ في الصلاة.
فإن قيل: إن ذلك للعذر؟
قيل له: ليس العذر أكثر من فوات الصلاة جماعة، وهذا العذر حاصل للمسافر إذا وجد الإمام مقيماً؛ لأنَّه إن لم يفعل ما قلناه، فاتته الصلاة جماعة مع الإمام.
فأما ائتمام المقيم بالمسافر، فهو جائز؛ لأنه لا يؤدي إلى ما ذكرناه من إتمام المؤدي للفرض بالمتنفل، ولأن سبيله سبيل من دخل في الإتمام وقد صلى الإمام ركعتين في أنَّه يفعل كما يفعله.
__________
(1) في (ب): إذا دخل.
(2) ما بين القوسين في هامش النسختين، وفي أصل النسخ هو: إذا ملك أحوال صلاتهما.(17/23)


وأخبرنا أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، عن أبي بكرة، حدثنا روح بن عبادة، حدثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن أبي نضرة أن فتى سأل عمران بن حصين عن صلاة رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم بالسفر، فقال: ما سافر رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم إلاَّ صلى ركعتين حتى يرجع، وإنه أقام بمكة ثماني عشرة يصلي ركعتين ركعتين، ثم يقول: (( يا أهل مكة، قوموا فصلوا ركعتين آخرتين، فإنا قوم سفر ))(1).
وهذا صريح ما نذهب إليه في صلاة المقيم خلف المسافر.
وروي مثل ذلك عن عمر أنَّه فعله، وقاله بمكة، ولم ينكره منكر، فجرى مجرى الإجماع.
مسألة: [بطلان صلاة المؤتم ببطلان صلاة الإمام]
قال: وأيما رجل صلى بقوم جنباً، أو على غير طهور ناسياً، ثم ذكره، أعاد الصلاة، وأعادوا.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) و(المنتخب)(2)، وهو مما لا أحفظ فيه خلافاً بين أهل البيت عليهم السلام، وهو قول أمير المؤمنين عليه السلام.
أخبرنا محمد بن عثمان النقاش، حدثنا الناصر عليه السلام، عن محمد بن منصور، عن عبادة، عن حَرِث بن عمران، عن جعفر، عن أبيه، عن علي عليهم السلام في الرجل يصلي بالقوم على غير وضوء، قال: "يعيد ويعيدون".
ويدل على ذلك: ما رواه أبو الحسن الكرخي في (المختصر)، حدثنا أحمد بن يحيى الحلواني، حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا قيس، وأبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (( الإمام/184/ ضامن، والمؤذن مؤتمن )).
فدل هذا الخبر على أن صلاة المؤتم معقودة بصلاة الإمام، فيجب أن تكون صحة صلاته بصحة صلاة الإمام، وإذا كانت صلاة الإمام فاسدة، وجب أن تكون صلاة المؤتم فاسدة.
__________
(1) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/417، بزيادة في لفظه.
(2) لم يذكر في الأحكام: أنه صلى إماماً، وإنما جعلها مبهمة إماماً أو غير إمام، انظر 1/120. وانظر المنتخب 49.(17/24)


ويدل على ذلك: قوله عليه السلام: "إنما جعل الإمام ليؤتم به". والجنب ليس بمصل، فلا يصح الائتمام به، فإذا ائتم به الإنسان، كان كأنه ينوي الائتمام بمن لم يفعله، فيجب أن تفسد صلاته، ويكون سبيله سبيل من افتتح الصلاة، ثم قطعها، ولم يمضِ فيها.
ومما يبين أن انعقاد صلاة المؤتم بصلاة الإمام: ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( من كان له إمام، فقراءة الإمام له قراءة )).
وما أجمعوا عليه من أن المؤتم إذا لحق الإمام راكعاً، احتمل الإمام عنه قراءة تلك الركعة.
وما أجمعوا عليه من أن المؤتم يلزمه سهو الإمام.
فكل ذلك يبين أن حكم صلاة المؤتم حكم صلاة الإمام، فإذا كانت صلاة الإمام فاسدة، وجب أن تكون صلاة المؤتم فاسدة.
ويدل على ذلك ـ أيضاً ـ:
قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( لا يؤمنَّكم ذو جرأة في دينه )).
وقوله: (( لا يؤمنَّ فاجر مؤمناً، ولا يصلينَّ مؤمن خلف فاجر )).
وقوله: (( لا يؤم متيمم بمتوضئين )).
فإن استدلوا: بما روي عن أبي بكرة أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم دخل في صلاة الفجر، وكبر، ثم أومأ بيده ـ أي مكانكم ـ ثم جاء ورأسه يقطر، وصلى بهم، فلما فرغ قال: (( إنما أنا بشر مثلكم، فإني كنت جنباً )).
وبما روي عن أبي هريرة، قال: أقيمت الصلاة، وصف الناس صفوفهم، وخرج رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم حتى إذا قام في مقامه، فذكر أنه لم يغتسل، فقال للناس: (( مكانكم ))، فلم نزل قياماً ننتظره حتى خرج علينا، وقد اغتسل.
وفي بعض الأحاديث أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (( كما أنتم )).
وفي بعضها: (( علي رسلكم )).(17/25)


وقالوا: ما روي في أنَّه كبر يدل على أنهم ـ أيضاً ـ كانوا كبروا معه؛ لأن ذلك هو الظاهر من أحوال المؤتمين، وقوله: (( كما أنتم ))، وقيامهم يدل على أنهم كانوا في الصلاة، لأنا لو قلنا خلاف ذلك، لأدى إلى أن يكون قيامهم قد تقدم قيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد قال: (( لا تقوموا حتى تروني قائماً )). يعني في الصلاة، وقال: (( إذا أقيمت الصلاة، فلا تقوموا حتى تروني ))(1). فنهى عن القيام قبل قيامه صلى الله عليه وآله وسلم.
قيل له: ليس في الخبر أن القوم كانوا قد كبروا، وليس فيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما عاود، لم يستأنفوا معه التكبير، فغير ممتنع أن لا يكون القوم كبروا، أو استأنفوا التكبير، فأما قوله: (( كما أنتم ))، و(( مكانكم )) فلا يدل على أنَّه أمرهم بالقيام، بل يجوز أن يكون أمرهم أن يلزموا مكانهم، ولا يتفرقوا، ولا يصلوا منفردين.
وأما قيامهم فلا يجب أن يكون كان بأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد روي في بعض الأخبار أنه صلى الله عليه وآله وسلم أومأ إلى القوم أن اجلسوا، فذهب، واغتسل، فدل أمره لهم بالجلوس على أنهم لم يكونوا في الصلاة.
وقول أبي هريرة:"لم نزل قياماً ننتظره". لا يمنع مما ذكرناه؛ لأنَّه لا يمتنع أن يكون بعض القوم عرفوا الإيماء إلى الجلوس فجلسوا، وبعض لم يعرفوا/185/ فبقي قائماً، على أن الخبر متى تأولوه على ذلك يكون تكبير المأمومين قبل تكبير الإمام، وليس ذلك من سنة الإقتداء بالإجماع، وعندنا أنَّه لا يصح معه الائتمام البتة، فحمل الحديث على أن قيامهم كان قبل قيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم أولى من حمله على أن تكبيرهم كان قبل تكبيره صلى الله عليه وآله وسلم.
فإن قيل: روي عن عمر أنَّه صلى بهم جنباً، ثم أعاد، ولم يعيدوا؟
قيل له: يجوز أن يكون عمر لم يتحقق الجنابة، فأعاد احتياطاً، لا وجوباً، ويجوز أن تكون المسألة ـ أيضاً ـ خلافاً.
__________
(1) في (أ): تروني فيها.(17/26)

75 / 138
ع
En
A+
A-